31 يوليو 2011 21:02
الإمام الطبري كان أكثر علماء عصره همة في طلب العلم وتحصيله وزهداً في الدنيا، وفي تأليف أمهات الكتب، ومن كبار مؤرخي الأمة الإسلامية ورائد مدرسة التفسير، ودفع التعصب المذهبي المقيت خصومه لأن يشيعوا عنه الأكاذيب والأباطيل ويلحقوا به صنوف الأذى والاضطهاد الشديد حتى مات محاصراً مظلوماً مضطهداً من الجهلة والمتعصبين.
ويقول الدكتور سعيد أبو الفتوح - أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس - ولد أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري، سنة 224 هـ بمدينة آمل عاصمة إقليم طبرستان - جنوب بحر قزوين - ونشأ في بيت محب للعلم، فنذره أبوه لطلبه، وبدأ طريقه بحفظ القرآن وتعلم القراءات، على يد علماء بلدته، ولما ترعرع رحل في سنة 240 هـ، طلباً للمزيد من العلم، ودخل البصرة فجلس بين يدي علمائها، وأخذ عن شيوخها كمحمد بن بشار المعروف ببندار، ومحمد بن الأعلى الصنعاني، ورحل إلى الشام، وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد، وارتحل منها إلى المدينة المنورة وسمع من مشايخها، ثم سافر إلى مصر سنة 253 هـ، وأخذ عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وتلقى عن يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وغيرهم. ورحل إلى الري وخراسان وطاف بالبلاد وجد في الأخذ عن علمائها وكبار الفقهاء، حتى تضلع في العلم وصار من أفراد الدهر علما وذكاء وتصنيفا، واستقر في أواخر أمره ببغداد، وانقطع للدرس والتأليف وقد شغله كل ذلك عن أن يتزوج أو أن ينشغل بمطالب الحياة، فعاش عزبا - رحمه الله - يقول الطبري عن نفسه: “ما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط”.
صفاته
عرف الإمام الطبري بالزهد والورع والتقوى والعفاف والتواضع والشدة في الحق والهمة العالية حتى أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم منها أربعين ورقة، وبرع في علوم كثيرة، كالقراءات، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وقال عنه أحمد بن خلكان: “العالم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقاً حافظاً”، وأثنى عليه ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة وقال: “ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير”.
وعزف عن الجاه والسلطان، وكان لا يقبل المناصب خوفاً من أن تشغله عن العلم، ولسيره على نهج العلماء الثقات في البعد عن السلطان، فقد روى المراغي قال: “لما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير فامتنع عن قبوله، فعرض عليه القضاء فامتنع، فعرض عليه المظالم فأبى، فعاتبه أصحابه وقالوا لك في هذا ثواب وتحيي سنة قد درست وطمعوا في قبوله المظالم فذهبوا إليه ليركب معهم لقبول ذلك فانتهرهم، وقال قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه، قال: فانصرفنا خجلين”.
موقع الريادة
كان الطبري عالماً فاضلاً ومفكراً إسلامياً متبحراً، واحتل المكانة الأولى بين علماء الأمة، فهو أكثر علماء الإسلام تصنيفاً، ولكثرة تعمقه في العلوم الشرعية، صار مجتهداً في الفقه صاحب مذهب بعد أن كان على مذهب الشافعي، ويعتبر رائد علمي التفسير والتاريخ في الإسلام، ووضع العديد من المؤلفات في الفقه والحديث والتاريخ واللغة العربية منها ”التفسير”، و”الملوك والرسل”، و”لطيف القول”، و”تاريخ الرجال”، و”اختلاف علماء الأمصار”، و”القراءات والتنزيل والعدد”، و”تهذيب الآثار”، و”المحاضر والسجلات” وغيرها من المؤلفات القيمة.
وتعرض الإمام الطبري لمحنة قاسية في أعقاب استقراره ببغداد، وأخذه في نشر كتبه وتصانيفه ومذهبه الجريري المستقل الذي انتهى إليه، وفكره الذي استخلصه بعد رحلته الطويلة في طلب العلم، والأخذ عن الشيوخ والعلماء وتمحيص الأقوال وتحقيق الآثار والأحاديث، فقد جلبت له الشهرة الواسعة التي بلغها والمكانة العالية التي حققها الكثير من المتاعب مع الأقران والمنافسين، وأجج لهيبها التعصب المذهبي الذي سيطر على قلوب وعقول خصومه من أصحاب المذهب الحنبلي الذي كان سائداً بأرض العراق خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين، وذلك بفضل صمود الإمام أحمد - رحمه الله - في محنة خلق القرآن وهذا الصمود أعلى من شأن الحنابلة ورفع قدرهم في أعين الناس، وأقبلوا على تعلم العلم وفقاً للمذهب الحنبلي، حتى أصبح الحنابلة أغلبية بأرض العراق، وكان رأس الحنابلة بالعراق الإمام أبا بكر محمد بن الحافظ أبي داود صاحب السنن، وكانت بينه وبين الإمام ابن جرير الطبري مشاحنات وخلافات، غير أن هذا الخلاف أخذ منحى جديداً، عندما غلب حزب أبي بكر بن أبي داود التعصب المذهبي المقيت وشنعوا على ابن جرير وأشاعوا عليه الأكاذيب والأباطيل واتهموه بالإلحاد والرفض وألبوا عليه العامة والبسطاء، واستندوا في ترديد الافتراءات إلى اجتهادات ابن جرير التي وردت في مصنفاته خاصة جمعه لطرق الحديث في أربعة أجزاء باهرة تدل على سعة علمه ومروياته، وهو الحديث الشهير “من كنت مولاه، فعلي مولاه...”، وكان السبب وراء جمع ابن جرير لطرق هذا الحديث، هو قيام أبي بكر بن أبي داود وغيره من علماء الحنابلة بتضعيف هذا الحديث، فوجد ابن جرير في بحثه من باب الأمانة العلمية وليس من باب الميل للتشيع أو التأثر به، وأقر فيما بعد أبو بكر بن أبي داود بصحة حديث الغدير.
محنته مع الحنابلة
قام الإمام ابن جرير الطبري بتأليف كتاب ضخم في اختلاف العلماء، ولم يذكر فيه الإمام أحمد بن حنبل على أساس أنه من كبار المحدثين، فظن الحنابلة أن الطبري قد تعمد ذلك للتقليل من شأن فقه الحنابلة، وثارت ثائرتهم عليه وشوشوا عليه في مجالسه، ونفروا الطلبة منه، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس، ومنعوه من الجلوس للتدريس، وحاربوه ومنعوه من الخروج من بيته ورموه بالحجارة، ولما نقل الطبري دروسه إلى بيته، حاصروا بيته ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، وظل حبيساً في بيته يعاني الاضطهاد الشديد، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، حتى توفي - رحمه الله - في شوال سنة 309 هـ، وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب والغلو إلى ذروته، عندما ظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد.
المصدر: القاهرة