يرجع الفنان التشكيلي الكبير منير كنعان الفضل في توجهه إلى طريق الفن إلى خاله، الذي ما إن استشعر موهبته في الرسم حتى ألحقه بالعمل بوكالة صغيرة لرسم العلامات التجارية وتنسيق الواجهات وكتابة اللافتات بخط جميل، وكان في سن السادسة عشرة، فعرف في تلك الفترة كيف يتعامل مع الخامات المختلفة وواجه أساليب فنية عديدة مثل الرسم على الزجاج، حتى أقام وكالته الإعلانية الخاصة، ثم لجأت إلى خبراته الفنية شركة إنجليزية ليقدم لها الملصقات المرسومة، وبعد ذلك عُين خبيراً للخرائط الجغرافية في إحدى المؤسسات الأميركية، ولم يكن خلال تلك الفترة متوقفاً عن إنتاجه الفني.
مجدي عثمان (القاهرة) - أنتج الفنان التشكيلي الكبير منير كنعان أول لوحة تجريدية عام 1945 ليعرضها في بينالي سان باولو بالبرازيل، وكانت تلك بداية انطلاقه لاستجلاء الحقائق وقيم الجمال من خلال التجريد، وهى الفترة ذاتها التي اعتنق فيها الإسلام، وارتبطت بإنجاز تلك اللوحة التجريدية الأولى، وهو ما يؤكده كنعان بقوله: أعتقد أن شهادة التوحيد التي أعلنتها كانت مع أول لوحة تجريدية أتممتها.
وقال كنعان: إن التجريد لا يعني السلب لكنه يعني التخلص من الثرثرة حول الفكرة، وتصوير الحقيقة في لبها مع إسقاط الظاهر المادي المخادع المعوق لرؤية لب الحقيقة واستشعارها، وهذا هو جوهر العقل الإسلامي ومنطق تعامله مع الكون وأشيائه المرئية واللامرئية، والآية القرآنية (ليس كمثله شيء) تُعلم المسلم كيف يؤمن بالله كحقيقة مجردة، وأن المدى الأبعد المتطور من هذا المنطلق هو ما حاولت البحث عنه طوال رحلتي الفنية، والتي بلغت أوجها خلال الستينيات حين أصيب المشاهدون بالفزع لمعرض التشكيل بالخشب والمسامير، ولم يفهمني البعض وقتها مع أنني كنت أريد أن أقول للمشاهد المصري، عد إلى منهج عقلك التجريدي الذي دربك عليه الإسلام ولا تنظر إلى الخامة بشكلها الظاهري، بل انظر إلى دلالة موقعها في هذا التكوين الجديد وحرر عينك من دائرة التشخيص الضيقة.
البعد عن التعصب
وأضاف: بمناسبة أن الإنسان في الحب والحياة كائن واحد أتذكر كم عشقت صوت فضيلة الشيخ محمد رفعت، وكنت أقول إنه صوته من السماء، ومبكراً أدركت قيمة البعد عن التعصب، كما أنني نشأت في بيئة إسلامية لا تعاني من مشكلة التعصب، وهذه هي مصر.
وأوضح أنه واجه رفضاً منذ وقت مبكر، ولكنه واصل تجربته الفنية من منطلق فهمه واستيعابه للحضارة المدنية الحديثة، كمصري عربي مسلم، شرب من ماء النيل وعاش في القاهرة واستوعب خصائص حضارته، حيث إن الفن التشكيلي لغة عالمية لا بد أن يجيدها الإنسان المعاصر، وكان قد وصل إلى حقيقة أن اللوحة لابد أن تغني، وأن تُسمع المشاهد، ومن ذلك اكتشفت الباحثة الفرنسية كريستين روسيون أنه مع مصريته، إلا أن لديه رؤية تشكيلية عالمية معاصرة، وأشارت في دراسة لجامعة السوربون إلى أنه أخذ طريقه الحديث مبكراً ومواكباً للآخرين في العالم دون أن يلتقيهم أو يتعرف بهم.
كلمة «تراكيب»
وأكد كنعان أنه لم يندم أبدا على اختياراته في الحياة، وأن العناية الإلهية كانت ترعاه، فقد كان هناك نداء قدري يدفعه نحو اختياراته، فعلى سبيل المثال بعد رحلته لبولندا عاد إلى مكتبه في أخبار اليوم، وقرر أن يتوقف تماماً عن الرسم التشخيصي، وبدأ رحلة جديدة في مرسمه بدرب اللبانة وبشكل أقوى، إلى أن أقام معرضه “المجهول لا يزال”، وأنه عندما اخترع كلمة “تراكيب” اكتشف لاحقاً أن هناك تركيبات مماثلة في أوروبا جاءت بعده، وللأسف سافر إلى أوروبا بعرض شامل متأخر جداً، وأن التجريد الذي مارسه في درب اللبانة ظل محملاً برموزه المحلية، الحوائط الرطبة التي سجلها أو حملها في لوحاته تعكس الهوية، وأن الفنان لا يستطيع أن يهرب من تاريخه، ولكنه أيضا من حقه أن يضيف ويكتشف الرموز والدلالات الأشمل التي يجدها في العالم الواسع، وبعد أن عجز عن الرسم قام بمسح العديد من اللوحات أو محاولة شطبها والاعتداء عليها، ثم عاد ينظر إليها، فاكتشف أن هذا الهجوم على اللوحة هو ما كان يبحث عنه، وقدم معرضا عن الرفض اشتملت لوحاته على حرف “X”.
الشكل الدائري
وأضاف كنعان أنه استخدم “منخلاً” في إحدى لوحاته، وأن ذلك المنخل أو الشكل الدائري، جاءه من النافذة المدورة الكبرى في واجهة جامع السلطان حسن، ولم يكن يعرف تاريخه، ولكنه لم يهتم في حياته بالمسجد المجاور له- جامع الرفاعي- رغم ضخامته، وكان يدخل كثيراً إلى جامع السلطان حسن، لأنه كان مجاوراً لمرسمه في درب اللبانة، حيث عاش 25 عاماً، وكان يعمل ويعيش داخل المرسم، ولم يكن يعرف أن هذا الجامع تحفة فريدة في العمارة الإسلامية، ولكن دائرته تسحره، ثم وجدها تخرج رغماً عنه في أحد أعماله، وهذا أمر داخلي غير معلن، ولا يجب أن يربط من يشاهد العمل هذا بذاك، وألا يجد أي إشارة إلى الجامع، ويعتقد أن هذا هو جوهر علاقته بالقاهرة، وبكل مكان آخر، وأنه أحياناً ينظر إلى الأشياء وعلاقاتها داخل مكان محدد ويفكر في أن التجريد ما هو إلا خلق علاقات جديدة بين المرئيات وليس غياب الأشكال المتعارف عليها.
وأوضح أنه رغم أنه خطاط ماهر، فإنه استخدم في بعض لوحاته الحروف اللاتينية بالكولاج - القص واللصق - وأخرى استخدم فيها الحروف العربية، ولكنه أحب أكثر أشكال الأرقام التي تستخدم في أوروبا وأصولها عربية، حيث يحب رقم 3000 مكتوباً ببنط كبير، واستخدمه في أعماله، وأن الرقم مرتبط بروح العصر ولديه إيقاع أسرع في الدلالة، التي لا يمكن الاستغناء عنها، فإذا كانت العناصر ضرورية يصبح العمل صادقاً.
شجاعة حتى الموت
يميل الفنان التشكيلي الكبير منير كنعان إلى ذلك الفنان الملتصق بلحظته، الذي يتحرك بلا خوف ويحمل روحه معه ويسير بها بشجاعة حتى الموت.
وقال كنعان: لقد كانت حياتي كلها أبيض وأسود، كنت في “درب اللبانة “ في الليل فناناً متمرداً وطليعياً وأجرب الخامات، وشبه مجنون، وفي الصباح ألبس بدلة الرسام الصحفي وأذهب إلى عملي، وأنا من البداية مقتنع بهذه الازدواجية، وأعطتني الصحافة إحساسا بالاحتكاك بالحياة والأفكار والصراعات، وكانت تعيدني دائماً إلى الواقع، إلى جانب أنها وفرت لي الضمان المادي لأنني كنت حاسماً في أن يكون فني الحقيقي بعيداً عن أي مغازلات تجارية من أي نوع، وأعتقد أن ما ميّز تجربتي، وقد يكون أيضاً هو الداء الكامن فيها، هو أنني فنان له بدايات وليست له نهاية، فأنا لا أتوقف عند المكاسب لترسيخها بل أهجرها سريعاً”.