فضل الله الإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً، وجعل له مميزات يتفرد بها عن سائر المخلوقات، ووهبه نعما اختصه بها ومنها نعمة الكلام والتعبير عن المراد، وهي من أجل النعم التي امتن الله تعالى بها على عباده وميزهم بها عن البهائم، قال تعالى: (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)، "الرحمن: الآيات 1-4"، وأمر الكلام يتعدى مجرد النطق بكلمات يفهمها السامع، ففيه بيان للناس، بقواعد تنظيم الحياة وتوضح الحلال والحرام.
أحمد محمد (القاهرة) - يقول أهل العلم إن هذه الآيات تعلمنا كيف منّ الله على الإنسان بنعمة البيان فلم يقل علمه الكلام لأن تعلم الإنسان للغة أو الكلام ليس كافياً إنما يجب عليه ربط الكلمات ببعضها واسترجاعها عند الضرورة، وحثنا الإسلام على الكلمة الطيبة ونهانا عن كلمة السوء.
وقال ابن كثير، يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه، وقال الحسن «علمه البيان» يعني النطق.
ويرى الطبري أن البيان أشمل من مجرد النطق، والصواب من القول إن الله علم الإنسان ما به الحاجة إليه من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام، والمعايش والمنطق، وغير ذلك مما به الحاجة إليه، لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بخبره ذلك، أنه علمه من البيان بعضا دون بعض.
ميزة الإنسان
قال الطاهر بن عاشور إن الله علم الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيد غيره ويستفيد هو، والإعراب عن المقاصد والأغراض وهو النطق، وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
وهذه النعمة أناطها الله باللسان وإليه تنسب البلاغة وحسن المنطق والبيان، وبه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ليبلغوا رسالة ربهم، وليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).
واللسان هو العضو الذي تخرج منه الحروف للنطق، وبه يعبر عما في داخله وما يدور في فكره، وبواسطته يتمكن من البيان والإفصاح عما في نفسه، ويتمكن من تعلم القرآن وتعليمه، وحصائد اللسان من الخير كثيرة فمنها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وذكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم، والقول الخير كالصلح بين الناس.
كشف الباطل
هو العضو المؤهل فقط للشهادة بكلمة التوحيد، وقول الحق، وكشف الباطل وزيفه، وكشف ألوان الخديعة والمكر وكل وسائل البهتان والزور، إن الله يلهم الإنسان ويجعله يتكلم، ولا يستطيع أن يفتح فمه ولو بكلمة واحدة بغير إذنه، فمهارة التكلم هبة من الله، ومعجزة الكلام عند الإنسان لا تزال تحير العلماء ولم يجدوا لها تفسيراً، ولكن القرآن أشار إلى هذه المعجزة منذ مئات السنين.
ويقول العلماء إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خلقه الله ناطقاً مبيناً، وجهزه بالبرامج والوسائل والأجهزة الحيوية التي تمكنه من تعلم الكلام بسهولة، ولذلك فإن هذه العملية لا تخضع للتطور المزعوم ولو كان النطق وتعلم الكلام يتم عن طريق التطور لكانت بعض الحيوانات لديها قدرة على الكلام، وجهاز الصوت موجود لدى الحيوانات، وتعمل بنفس الآلية التي تعمل بها حنجرة الإنسان، ولكن الإنسان يتعلم النطق بسهولة وبعملية لا إرادية، بينما الحيوانات عاجزة عن القيام بذلك.
المواقف
والإنسان اجتماعي بطبعه يصعب أن يعيش منعزلاً عن مجتمعه وأمته لحاجته لهم وحاجتهم له، يتحدث ويتكلم ويعمل معهم يحاورهم ويحاورنه حسب ما تقتضيه المواقف والمصالح الإنسانية.
ويشير الله عز وجل إلى نعمة اللسان والبيان، يقول: (ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين)، «البلد: الآيات 8-9»، والكلمة هي عنوان العقل، وترجمان النفس، وبرهان الفؤاد، لها مكانتها وأثرها وخطرها، جعل الله الإنسان وحده المخلوق الناطق، ينفرد بالكلام، ويتميز بصوت الكلمة، هو المخلوق الفريد القادر على التعبير عما بداخله من عواطف وانفعالات وأشجان ومقاصد ورغبات وإرادات، يعبر عنها بالقول.
واعتبر الفلاسفة أن ميزة الإنسان الوحيدة عن الحيوان هي القدرة على البيان والكلام، إذ يعتبر ذلك مظهراً من مظاهر الإدراك، وممثلاً عن الفكر والعقل، ولولا ذلك لما أمكن الإنسان أن يحيا حياته الاجتماعية.
وكما أن ألوان البشر تختلف من بيئة لأخرى كذلك تختلف اللغة، ويبين الله تعالى في كتابه تعدد اللغات التي يتكلم بها الناس، قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).
محكم التنزيل
وقد عني الإسلام بأمر اللسان أيما عناية، فحث ربنا جل وعلا في محكم التنزيل وعلى لسان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه على حفظ اللسان وصيانة المنطق، ومجانبة الفحش، فقال جل وعلا: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا)، «الإسراء: الآية 53»، ووصف الله عز وجل ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون)، «المؤمنون: الآيات 1 ـ 3».
الشكر على النعم الإلهية
كل نعمة إلهية مهما كان حجمها تستوجب الشكر لله، الشكر الذي يتجلى في استخدام اللسان في التعبير عن الحق والحقيقة، وتجنب الكذب والغيبة والنميمة، لقد خلق الله الإنسان ليكون داعياً إلى الحق وهادياً إلى الصراط المستقيم، لا وسيلة للخداع والضلال والضياع والنفاق.