دينا محمود (لندن)
أصبح رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم وعددٌ من كبار أعوانه قاب قوسين أو أدنى من الوقوف في قفص الاتهام أمام القضاء البريطاني، بعدما شدد القاضي المسؤول عن محاكمة 4 من قيادات القطاع المصرفي سابقاً في المملكة المتحدة بشأن صفقة مشبوهة مع جهاتٍ قطرية، على أن إدانة هذه القيادات ستؤكد تورط أركان النظام القطري بلا شك في ما حدث من جرائم احتيال وتلاعب على خلفية الصفقة.
وفي تصريحات شديدة اللهجة بدت موجهةً لـ«نظام الحمدين»، حذر القاضي روبرت جاي من عواقب القضية التي كُشِفَ النقاب خلال جلسات الاستماع المتواصلة فيها، عن حصول حمد بن جاسم على عمولات تُقدر بملايين الجنيهات الإسترلينية، في إطار الصفقة التي أُبرِمَتْ قبل أكثر من 10 سنوات، بهدف إنقاذ مصرف «باركليز» العريق من الانهيار جراء الأزمة المالية التي ضربت العالم في ذلك الوقت, وفي أول مداخلةٍ له منذ بدء نظر القضية قبل أكثر من أسبوع، قال القاضي إن «الاتفاق الزائف» الذي تورطت فيه عدة مؤسسات قطرية مرتبطة بنظام الدوحة مع «باركليز» في سياق صفقة الإنقاذ، يتطلب طرفيْن وليس طرفاً واحداً، في إشارةٍ إلى أن التهم الجنائية التي يوجهها مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في المملكة المتحدة في إطار الدعوى، لا تشمل سوى قيادات المصرف البريطاني السابقين وحدهم.
ولم يكتف القاضي البريطاني بالتلميح - حسبما قالت صحيفة «فاينانشال تايمز» واسعة الانتشار - بل أكد أن «الطرف المقابل في الاتفاق كان كياناً قطرياً»، وهو ما يعني أن التهم الموجهة لمسؤولي «باركليز» بالاحتيال والغش وعدم الأمانة، تفيد كذلك بأن هناك «شخصاً أو أكثر على ارتباطٍ بالكيان القطري المتورط في الاتفاق هم الآخرون مخادعون أو غير شرفاء بالمعنى الجنائي، لا يمكن الالتفاف حول ذلك».
وفي مداخلته أمام هيئة المحلفين بمحكمة «ساذرك» التي تنظر القضية بجنوب لندن، قال جاي إن ثبوت التهم الموجهة في الدعوى لقيادات «باركليز»، يعني ضرورة اعتبار «الكيانات القطرية الضالعة في الصفقة مُذنبةً بالكذب والغش»، في إشارةٍ واضحةٍ لحمد بن جاسم الذي شارك في الاتفاق المشبوه خلال شركة «تشالنجر يونيفرسال المحدودة» التي تُوصف بأنها الأداة الاستثمارية التابعة له. كما كان هذا الرجل رئيساً لوزراء قطر خلال الفترة التي جرى فيها التفاوض مع مسؤولي المصرف البريطاني، لتأمين حصوله على حزمة إنقاذٍ بلغت قيمتها نحو 12 مليار جنيه إسترليني (16.6 مليار دولار أميركي)، بهدف تجنيب تلك المؤسسة المالية سيناريو التأميم الذي طال آنذاك منافسيْها «لويدز بانك جروب» و«رويال بانك أوف سكوتلاند». لكن الاتفاق الذي شمل كذلك شركة قطر القابضة (الذراع الاستثمارية لهيئة الاستثمار القطرية) تضمنت أيضاً تقديم المصرف البريطاني قرضاً للشركة بقيمة 2.7 مليار جنيه إسترليني (أي ما يوازي ثلاثة مليارات دولار أميركي) في إطار صفقةٍ جانبيةٍ، تم إبرامها لإتمام تفاصيل حزمة الإنقاذ المالي، مع الزعم في الوقت نفسه بأن القرض ليس سوى مقابل لحصول «باركليز» على خدمات استشارية من الجانب القطري.
وفي هذا السياق، أكد القاضي جاي في اليوم السابع للمحاكمة، أن أي إدانةٍ لمسؤولي «باركليز» الأربعة الذين يمثلون أمام القضاء، لا بد أن تُبنى على أن «لا خدمات استشارية حقيقيةً قُدِمَت في إطار هذا الاتفاق من جانب الجهات القطرية المنخرطة فيه، وأنه لم يكن سوى محاولةٍ لتبرير تقديم رسومٍ مُبالغاً فيها لممثلي هذه الجهات، ومن بينهم حمد بن جاسم بطبيعة الحال». وكان إدوارد براون ممثل الادعاء في القضية قد تجنب في مرافعته الافتتاحية التي اختتمها يوم الأربعاء الماضي، توجيه اتهامٍ مباشرٍ لأي شخصياتٍ قطريةٍ، كما لم يطلب مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى أياً منها للشهادة أمام المحكمة. لكن براون ألمح في المرافعة إلى أنه كان من الضروري أن يُحاكم المسؤولون عن الجهات القطرية التي مثلت «نظام الحمدين» في الصفقة، جنباً إلى جنب مع مسؤولي «باركليز» المتهمين، وعلى رأسهم جون فارلي الرئيس التنفيذي للمصرف وقت إبرام الاتفاق، وروجر جينكنز الرئيس السابق لمجلس إدارة وحدة التمويل الاستثماري المختصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيه. وأبدى ممثل الادعاء أسفه ضمنياً لأن الدوحة ونظامها الحاكم غير مشمولين في الدعوى، التي تضم قائمة المتهمين فيها أيضاً توم كالاريس وريتشارد بوث، المسؤوليْن السابقيْن عن كلٍ من وحدتيْ إدارة الثروات ومجموعة المؤسسات الأوروبية في المصرف البريطاني. وقال في هذا السياق بأسفٍ: «القطريون ليسوا أمام المحكمة هنا»، بالرغم من أنهم انخرطوا في هذه الآلية عن علم كامل بما تنطوي عليه من تحايل وتلاعب.
ويتهم الادعاء مسؤولي «باركليز» الأربعة بأنهم دفعوا عمولات سرية لحمد بن جاسم والجهات القطرية المشاركة في الصفقة، مقابل مسارعتهم بضخ مليارات الدولارات في شرايين المصرف في غمار الأزمة المالية العالمية. ويؤكد مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في بريطانيا أن تلك العمولات بدأت بـ125 مليون جنيه إسترليني ثم قفزت إلى 280 مليوناً، دون أن يُكشف للمستثمرين في أسواق المال البريطانية عن طبيعتها بشكل محدد ومفصل، وهو ما يشكل انتهاكاً للقواعد التي يخضع لها «باركليز» باعتباره مصرفا مُدرجا في البورصة في المملكة المتحدة ويلتزم بحكم القانون بالكشف علناً عن تفاصيل الاتفاقات التي يبرمها. ونقلت «فاينانشال تايمز» عن ممثل الادعاء قوله إن اتفاق الخدمات الاستشارية الزائف الذي أُبرم مع حمد بن جاسم وأعوانه لم يكن سوى «ستار دخاني» للتعمية على منح هذه الشخصيات القطرية المثيرة للجدل عمولات بلغت قيمتها ضعف ما حصل عليه المستثمرون الآخرون في المصرف في ذلك الوقت.
ويبرر المدعون عدم توجيه تهم رسمية حتى الآن لأركان النظام القطري الضالعين في هذه المؤامرة الشائنة، بأنهم لم يكونوا هم الملزمين أمام الرأي العام في بريطانيا بكشف جوانب الصفقة، بل كانت قيادات «باركليز» هي المعنية بهذا الأمر، بموجب القوانين السارية في المملكة المتحدة.
وأبرزت «فاينانشال تايمز» ما شهدته الجلسات الماضية من أقوالٍ لبعض المتهمين، أقروا فيها بأنهم كانوا يعلمون منذ البداية بعدم مشروعية العمولات السرية التي دُفعت لشركائهم القطريين ومن بين هؤلاء ريتشارد بوث الذي أبدى قلقه بُعيد الاتفاق على ترتيبات الاتفاق المشبوه مع قطر، من أن تُعتبر الأموال التي حصل عليها رئيس الوزراء السابق للدويلة المعزولة عمولةً غير قانونية. كما استمعت هيئة المحلفين لاعترافات أفادت بأن روجر جينكنز الرئيس السابق لمجلس إدارة وحدة التمويل الاستثماري المختصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «باركليز»، كان يُعد بمثابة المسؤول الأول عن العلاقات مع النظام القطري في المصرف، وأنه حصل على مكافأةٍ تُقدر بنحو 25 مليون جنيه إسترليني بعد إتمام الاتفاق معها.
ويُشار، إلى أن القضية التي تخص ثاني أقدم المصارف في بريطانيا على الإطلاق، شكلت محوراً لتحقيقات جنائية واسعة أجرتها السلطات البريطانية منذ عام 2012، وشملت 40 شخصاً من بينهم 12 من كبار المديرين التنفيذيين للمصرف الذي أُسس عام 1690.
وتحظى المحاكمة التي يُنتظر أن تستمر 6 أشهر على الأقل، باهتمام واسع النطاق من جانب الأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا، في ضوء أنها تميط اللثام عن جانب من المحاولات القطرية المستميتة لتعزيز الروابط مع المؤسسات الفاعلة على مختلف الأصعدة في المملكة المتحدة، وذلك في إطار حملة حشد التأييد المكثفة التي أطلقتها الدوحة منذ فُرِضت المقاطعة على نظامها الحاكم قبل نحو 20 شهراً من جانب الدول العربية الأربع الداعمة لمكافحة الإرهاب «السعودية والإمارات ومصر والبحرين».
ويؤكد محللون اقتصاديون في لندن أن من شأن الجدل المُثار حول التعاملات المالية التي جرت بين مصرف «باركليز» والنظام القطري قبل سنوات، التأثير سلباً على العلاقات بين هذا النظام والمؤسسات المالية البريطانية، والإضرار بفرص إبرام أي صفقات مستقبليةٍ بين الجانبين.