محمد نورالدين أفاية
تكثف علاقة التكنولوجيات بالثقافة العديد من المناقشات العالمية الجارية، اليوم، حول التغيرات الكبرى التي تحصل على السياسات والمجتمعات والثقافات والقيم، وعلى أنماط تدبير الحياة المادية والاجتماعية والنفسية، وعلى مجال الحرية وأشكال «العبودية الطوعية»، بتعبير «إيتيان دو لابوويسي» De La Boétie Etienne.
لعل التقدم غير المسبوق للتكنولوجيات والأدوات الرقمية، بواسطة الربط بالأنترنت عالي الصبيب والحواسيب والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية ومختلف أنواع التطبيقات ومواقع التواصل الاجتماعي، بصدد اجتياح كل مجالات النشاط الإنساني، بما لهذه الابتكارات التكنولوجية من تداعيات واضحة على حياة الناس اليومية؛ حيث تقوم بتغيير جل الممارسات وطرق التعامل والتبادل، وتتيح الحصول على المعلومات (مع توافر المواقع بشكل مفتوح)، وولوج مصادر المعرفة (المعاجم، الموسوعات، دراسات، وكتب..) والوصول إلى معطيات تهم الصحة والنقل والسفر.. وهو ما غيَّر ويغيّر، جذرياً، أنماط تنظيم وتدبير الشغل وأدوات الترفيه والتسلية، فضلاً عن أنها تمس التعبيرات الحميمية المتعلقة بالأمور الشخصية، كما يتم عرضها في مواقع التواصل الاجتماعي، والروابط الجديدة التي تنشأ من خلال الصداقات، ومواقع المناقشة وتقاسم المعلومات مع الآخرين.
متحمسون وقلقون
وقد أنتج هذا المدّ الجارف للتكنولوجيات نوعين متضاربين من المواقف، حسب الباحث «ريمي ريفيل» Rémy Riffel:
ـ موقف مُتحمّس يشيد بالإمكانيات الخارقة التي توفرها الثورة الرقمية ولا تكف عن ابتكارها وتطويرها من خلال الولوج المباشر (وغالباً ما يكون مجانياً) لكمية لا محدودة من المعلومات والمعارف والمعطيات، وما تسمح به من طرق جديدة للتواصل بين المنخرطين والمُبحرين في الشبكة العنكبوتية، وما تعرضه من تنوّع كبير في الاستعمال والاستثمار.
ويعتبر «المتحمسون» لهذه الثورة أننا بإزاء «ذكاء ابتكاري استثنائي» يعبّر عنه الجيل المُنغمس في الرقمي، الذي يؤكد يوماً بعد يوم أننا نشهد إعادة تحديد لطرق العيش والمعرفة، بل ونشهد على دخول البشرية إلى مرحلة مفصلية في تاريخها بواسطة هذا الاكتشاف الرقمي؛ غير أننا نجد، في مقابل ذلك، موقفاً مغايراً من التكنولوجيات يتميز بنوع من القلق بسبب السطوة التي بدأت تمارسها على حياة الناس وعلى الروابط الاجتماعية، وما تحدثه من تغييرات تظهر على العلاقات جرَّاء الاستعمال المفرط لأدواتها، وبسبب الأشكال المختلفة للإدمان عليها؛ فضلاً عن المخاطر التي يتعرض لها الناشئة بسبب ما توفره المواقع المختلفة المشارب والمذاهب من مضامين ومؤثرات، وعما تتعرض له الحياة والمعطيات الشخصية من رقابة أو سهولة الكشف عنها.
ويدعو بعض أصحاب هذه الموقف إلى النضال ضد سيطرة التكنولوجيات، الرقمية منها على وجه الخصوص، على حياة الناس لأنها تهدد العلاقات الإنسانية بسبب أشكال الفردانية التي تنتجها، ويدعون إلى التحرر من «الانبهار الرقمي» الذي يزج بالناشئة في نوع من «العبودية الطوعية» والإدمان والاستلاب، وما تمارسه من تأثير على القيم والسلوكات والعلاقات.
عالم الفردانية
لقد دخلت مجموعة من التكنولوجيات إلى منازلنا ومحفظاتنا وجيوبنا، منذ ما يقرب من ربع قرن، وعملت على خلخلة حياتنا اليومية؛ وغيّر دخول الإنترنت والتكنولوجيات المصاحبة له شروط العمل والبحث التي وفّرت إمكانيات التواصل المباشر واللامحدود مع العالم. ذلك أن التفاعل مع الآخرين، سواء عن طريق الصوت والصورة أو الكتابة، يفرض علينا إيقاعاً تبادلياً جديداً، وأحياناً غير مريح، فضلاً عن توافر كمية هائلة من المعطيات أصبحت تستدعي انتباهاً ونظرة نقدية لم يتعوّد الإنسان على تعبئتهما.
وإذا كان ولوج الإنترنت وغرف الدردشة تعبيراً عن زمن تكنولوجي مُغرٍ وساحر فإنه أيضاً مجال لتفريغ العديد من مظاهر الإحساس بالفراغ النفسي والوجداني لدى شريحة لا بأس بها من مستعملي هذه المواقع، خصوصا في سياق اجتماعي واقتصادي تطغى فيه الاعتبارات المادية والمصلحية والفردانية. كما أن المبالغة في الإقبال على الإنترنت وغرف الدردشة يكشف في غالب الأحيان عن عجز الأسر على ضبط تطور سلوكات أبنائهم الذين أصبحوا يتبرمون من نمط العلاقات الاجتماعية السائد، وينغمسون في عوالم محكومة بالسرية والكتمان، لدرجة يلاحظ البعض أن هذه الغرف أصبحت الفضاءات الأكثر جذباً للناشئة والشباب لمخاطبة ذواتهم، والتعبير عمّا لا يمكن التعبير عنه من خلال الاحتكاك المباشر بأفراد الأسرة والأصدقاء. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ قد تكون هذه المواقع مفيدة وبنّاءة، كما يمكن أن تكون مصدر انحراف واستقطاب من طرف جهات وقوى تعمل، بكل وسائل الإغراء والإثارة، على الزجّ بالشباب في متاهات التطرف والكفر بالمجتمع، وبالقيم المتعارف عليها.
ولعل الواقع الجديد الذي خلقته مواقع التواصل الاجتماعي بكل أصنافها، أنتج معطيات وفضاءات تعبّر عن إحساس مغاير بالوجود بالذات؛ وتوفّر هذه المواقع للمشاركين بناء هويات جديدة، وانتحال شخصيات مختلفة، وتقديم أسماء وعناوين متعددة. وهنا تكمن إحدى مفارقات التكنولوجية الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ ذلك أن الاتجاه الذي يقول إن تكنولوجيات التواصل غيّرت سلوكاتنا في اتجاه سيئ ينسى، من جهة أخرى، إن هذه التكنولوجيات شكّلت عاملاً كاشفاً لنزوعاتنا حين سمحت لمزايانا كما لنقائصنا من أن تظهر بأشكال مختلفة، فضلاً عن تأثيرها الكبير على محيطنا القريب. فإذا أخذنا ظاهرة الغش في الامتحانات، على سبيل المثال، فإنه من الواضح أن من يمارسه من الطلبة يمتلكون اليوم وسائل ناجعة تمكنهم من الوصول إلى غاياتهم بشكل محكم. كما أن احتمالات الانفلات من العقاب يشجع طلبة آخرين على الغش أكثر مما كان في السابق، ليس لأن عدد الذين يلجؤون إلى الغش كبير، وإنما لأن الإمكانية أصبحت متاحة بسهولة بفضل التكنولوجيات ومن دون مخاطر كبيرة.
إنسية رقمية
وبقدر ما تُغير الثورة الرقمية طرق تدبير شؤون الدولة والإدارة والشغل والاقتصاد، فإنها بصدد خلخلة أشكال التواصل والروابط الاجتماعية، وإنتاج مواقف وسلوكات وقيم جديدة تماما، لدرجة يذهب فيها البعض إلى أننا نشهد بروز «إنسية رقمية» بفضل الأدوات التكنولوجية التي لا تتوقف عن التجدد والإبهار. وهو ما يستدعي إعادة النظر في المنظومات التي تؤطر الأنظمة والممارسات التربوية وأنماط التواصل، كما في مرجعيات القيم الإنسانية المرتبطة بالعمل والهوية والصداقة والتسامح والرابط الاجتماعي، والحرية الخ... بحيث تفرض الثورة الرقمية تصورات وممارسات جديدة للثقافة بحكم كونها تؤسس لعلاقات مختلفة تماما ومتجددة دوما بين الأدوات التكنولوجية وبين الإنسان، على كافة المستويات المرتبطة بالتصور والعمل والتدبير والإبداع والتلقّي.
لذلك لا مناص من النظر إلى العلاقة ما بين التكنولوجيا والمجتمع وما تحدثه من مؤثرات على الروابط الاجتماعية والقيم في تفاعلهما مع «الممارسات» و«الاستعمالات» الجديدة التي تنتجها. تغير عملية تملك التكنولوجيات واستعمالها لا محالة، وبدرجات متفاوتة ولا شك، حياتنا وعلاقاتنا والقيم المؤسسة لهذه العلاقات، ولا سيما بالنسبة للناشئة والشباب الذين فتحوا أعينهم على الأدوات الرقمية، واستدمجوها في كل مستويات وجودهم الإدراكي والشعوري والاجتماعي والثقافي (الترفيهي والتعليمي)؛ أي أن استعمال التكنولوجيات غدا مُكونًا للبناء الاجتماعي الذي يشمل كل المقومات الاقتصادية والثقافية التي تميز الكثير من المجتمعات.
من هنا أهمية التساؤل عن الأبعاد الاجتماعية والوجودية للتكنولوجيا وتداعياتها الثقافية والقيمية، والنظر في قدرات المجتمع على التدبير الأنجع لهذه الأدوات، حتى ولو كانت «ثورية» وملزمة، اليوم. فتطور التكنولوجيات، ولا سيما توسع استخدام الأنترنت، لا يمكن الاقتصار في التعامل معه من زاوية طرق استعمال العُدة التقنية فقط، وإنما يتعين مواكبة طرق استقبال وفهم وتصريف مضامينها ودلالات الأفكار والقيم التي تموج في المسارات الشبكية، وتأثيرها على المواقف والسلوكات والعلاقات الاجتماعية (كما يحصل ذلك في منتديات المناقشة و«البلوغات» ومواقع التواصل الاجتماعي...).
إيجابيات وسلبيات
وعلى الرغم من أن التكنولوجيات الرقمية ثوّرت «الممارسات الثقافية» وأنتجت علاقات جديدة بالآخرين، بالإبداعية وبالمعارف، فإن المرء يجد صعوبات كبرى في استخلاص أو إنتاج أفكار حول موضوع متموج من قبيل تأثير التكنولوجيات على عالم الثقافة والقيم. ومهما كانت هذه الصعوبة فإن «ريمي ريفيل» (1) يعتبر أنه يمكن تسجيل جملة ملاحظات، منها:
أولاً: إن التكنولوجيات الرقمية أدوات ذات حدين، فهي تمثل وسائل لحل مشاكل لا حصر لها يواجهها الإنسان، وتساهم في معالجة العديد من التعقيدات في كل المجالات، لكنها قد تشكل سبباً في إنتاج العديد من الاضطرابات العلائقية والعملية. والظاهر أن مناقشة البعد المزدوج للتكنولوجيات الرقمية يذكر بالمناقشات التي واكبت تطور وتوسع التلفزيون، حيث تعامل الناس معه باعتباره اكتشافاً هائلاً، لكنه اعتبر، أيضاً، وسيلة لتعلم السلبية، ولاستبلاد الجمهور.
ولذلك بقدر ما خلقت الثورة الرقمية ولا تزال تخلق تحولات، بل وقطائع تتفاوت تأثيراتها حسب المجالات، تُوفر في نفس الآن أشكالاً متنوعة من «الترابطية» والعلاقات. وهو ما أنتج نوعاً من «الفردانية المربوطة»، تسمح بفرص التفاعل وتولد آليات الاعتراف.
ثانياً: إن الرقمي خلخل تراتبيات مختلفة في التعليم والعمل والمعرفة والسياسة، كما زعزع الحدود ما بين الإبداع والإنتاج والمستهلكين. تخلق التكنولوجيا الرقمية ثقافة «تعاونية» بفضل «الويب» ومواقع التواصل الاجتماعي، تشجع الهواة وتسهل رواج الأعمال التي تبدو «هجينة»، كما تسمح بالمجانية.
ثالثاً: تتيح التكنولوجيات الرقمية تجريب مهارات ذهنية جديدة بفضل الاستعمال الكثيف لأدوات التواصل الجديدة، وألعاب الفيديو، كما تسمح بولوج مضامين ثقافية في كل مجالات الإبداع والتعبير، وتساهم في تغيير إدراكات مستعمليها للعالم، والمجتمع والقيم.
رابعاً: وفّرت التكنولوجيات الرقمية ما يسمّيه البعض بـ«دمقرطة المعارف» حيث سهّلت الوصول إلى المعلومات في كل المجالات (من معاجم، وخزانات، ومواقع علمية ومجلات..)، فضلاً عن أن التكنولوجيات الرقمية حرّرت الكلام العادي ووسعت من دوائر التعبير عن الآراء والمواقف، بطريقة أفقية ومفتوحة، بحيث يتداخل في فضاءاتها ما هو بنّاء وإيجابي، بما يمكن اعتباره غير بناء.
خامساً: عمل الرقمي على زعزعة اليقينيات والقناعات والعادات، وأنتج أخرى مختلفة من حيث موضوعاتها وأشكال التعبير عنها، وهو ما أفضى إلى تحولات ومخاطر، منها:
أ ـ اهتزاز المرجعيات التقليدية، من الناحية الثقافية، إبداعًا، وإنتاجًا، ورواجًا؛
ب ـ تقلّص أدوار المؤسسات الوسيطة والوسطاء في المجتمع، أو ضعف تأثيرهم؛
ج ـ سطوة الآنية، ومقتضيات زمن المدى القريب، والتأثير الكبير للاعتبارات التجارية الحاضرة بقوة في المواقع والشبكات.
أفق تشاركي
غير أنه إذا كانت البحوث التي تجرى لقياس التطورات الإيجابية لتجهيزات الأسر والأفراد بوسائل التكنولوجيات الرقمية، تُبين الحضور الكثيف للإنترنت في الحياة اليومية، فإنها لا تساعد على تبيان الطرق الخاصة التي يتملّك بها الناس العُدّة الرقمية ونوعية ممارساتهم، وتغفل عن الكشف عن تمثلاتهم للإنترنت وطرق تملّكهم له، وأنواع الممارسات الافتراضية التي يسمح بها، بحيث تكتفي هذه الدراسات بالمقاربة الإحصائية التي غالباً ما تعمل على إخفاء العديد من مؤثرات الإنترنت السلبية، وتتجنب الوقوف عند مختلف تعبيرات الإدمان على الهواتف الذكية. وهو الأمر الذي يقلق المختصين في الصحة النفسية الذين يلاحظون أن قضاء وقت طويل أمام شاشات الهواتف يعرض الأطفال والمراهقين لمشاكل سيكولوجية أكيدة (مثل الكآبة والغُمّة النفسية والميل إلى الانتحار..)؛ بحيث يستلزم هذا الواقع الانكباب على تطوير ما يسميه بعض الباحثين بـ«الصحّة الرقمية».
واعتبارا لذلك يمكن القول إننا نعيش مرحلة تخطّت مفردات «الخطاب الطوباوي» عن الإنترنت الذي كان يُبشر بأفق إنساني ديمقراطي وتشاركي «فاضل»؛ بحيث نشهد كيف أن دولاً كبرى وظّفت العُدّة الرقمية لتوجيه اتجاهات تصويت ناخبين في أعرق الديمقراطيات (بريطانيا، أمريكا...)، وكيف تغلّب المنطق التجاري لمتعهدي الإنترنت الكبار على كل الاعتبارات التي بشّرت بها الثورة الرقمية، وكيف تمكّنت جماعات التطرف العنيف بفضلها من توسيع دائرة الاستقطاب لأفكارها وتوجهاتها، وكيف عملت دول على استخدام أدواتها للتأثير على مواطنيها ومراقبة أفكارهم واختياراتهم، وكيف تتسبب هذه العدّة التقنية في إضعاف الذاكرة، وتلويث الحواس، والتشويش على التفكير والتمييز، ونسيان الكائن، والتعايش مع تعبيرات متنوعة للاستلاب والتبعية؛ وتأكد من دون منازع أن هذه العدّة تمتلك قدرات لامحدودة على تطويع الأذواق، وتوجيه السلوكات، ومراقبة الرغبات.
وفي كل الأحوال، فإن التكنولوجيات الرقمية ليست سوى انعكاس للطرق التي بها يستعملها الناس، بحكم أن تأثيرها على الثقافة والقيم لا يمكن فهمه، حقّاً، أو الإحاطة بسهولة بانعكاساته على السلوك والمواقف خارج الفاعلين الذين يستعملونها، وخارج السياقات العامة التي يتم فيها هذا الاستعمال. ذلك أن هذه التكنولوجيات تخلق عالماً يتغير بسرعة فائقة من دون أن يعرف المرء، بيقينية، طبيعة الحاضر الذي يتشكل أمامه ولا نوعية المستقبل الذي سيحصل.
هامش:
1 _ Remy Rieffel, Révolution numérique, révolution culturelle ? Ed. Gallimard, Paris, 2014, PP.107 -108