19 يناير 2011 20:10
كيف يمكن لبطل رياضي أن يتصدر الواجهة، وان يكون حريا بالفوز والتفوق إذا كانت حياته خارج مضمار الرياضة محاطة بهزات وزلازل اجتماعية وعائلية تنمو وتتوزع بقسوة ومن دون توقف أو هدنة محتملة، وكيف يمكن لشخص تعود على الانتصار أن يرضخ لهزيمة داخلية وتشويش ذاتي لا يدع له مجالا للنهوض مجددا.
وهل يمكن لبعض المعجزات الصغيرة أن تنتشل الإنسان من واقعه المرّ، كي يحلق بعيدا فوق درب الآلام، وكي يردم ذاكرته السوداء في حفرة عميقة، ومن دون أن يلتفت وراءه ولو للحظة.
هذه الأسئلة وغيرها تبدو لصيقة بالاقتراحات الذهنية والفنية التي يقدمها فيلم “المقاتل” The Fighter للمخرج ديفيد راسل والمستوحى من قصة حقيقية حول حياة الملاكم الأميركي ذي الأصول الأيرلندية “مايكي وارد” ـ يقوم بدوره الممثل مارك والبيرج ـ والذي خاض في الثمانينات من القرن الماضي حياة حافلة خارج الحلبة بحيث باتت هذه الحياة هي الصيد الثمين للسماسرة وللمنتفعين من تحويل الأبطال الرياضيين إلى أيقونات تجارية وإعلانية لا أكثر، ولعل في هذا “الصيد التجاري” ما يمكن استثماره كي يتحول إلى “صيد فني” يستغله مخرج الفيلم هنا كي ينسج خيوط الحبكة الأساسية للعمل والتي كانت حلبة الملاكمة فيه مجرد انعكاس لحياة مرهقة ولمناوشات وضربات خاطفة وأخرى قوية وقاضية.
هشاشة العنف
يقدم الفيلم في مشاهده التأسيسية صيغة بصرية أقرب للأسلوب التسجيلي، خصوصا مع اعتماد المخرج على الكاميرا المحمولة والطابع التلفزيوني كي يسرد حكايته المعتمدة على مزج الطابع الدرامي مع البعد الواقعي، والخروج بعمل مفعم بشحنة عاطفية عالية تضع المتفرج وسط مناخ افتراضي لا ينفصل عن الصورة الحاضرة والفائرة للحياة، وللذاكرة المنكسرة في أكثر مراحلها ضمورا، وللذاكرة المتعافية أيضا وفي أكثر لحظاتها توهجا واحتضانا لقيمة الفوز ومعنى الانتصار.
في المشهد الأول للفيلم نرى الملاكم مارك برفقه أخيه غير الشقيق ديكي ـ يقوم بدوره كريستيان بيل ـ وهما يتحدثان أمام الكاميرا عن تفاصيل حياتهما وعن شغفهما برياضة الملاكمة، تخرج معهما الكاميرا بصحبة فريق التصوير التابع لإحدى القنوات التلفزيونية المحلية إلى خارج المنزل في إحدى الضواحي الصغيرة بولاية مساشوستيس وهناك يتعرف المشاهد على مدى الشهرة التي يتمتع بها الأخوين في الحي، خصوصا أن الأخ الأكبر ديكي كانت له صولات وبطولات وحياة حافلة على حلبات الملاكمة، فهو البطل السابق الذي كرس وقته وخبرته بعد الاعتزال لتدريب وتهيئة أخيه الأصغر كي يتحول إلى بطل جديد يمثل مجدا قادما للعائلة ولأبناء مدينتهم الصغيرة التي يعشقان تفاصيلها والتي استحوذا على تعاطف ومحبة سكانها القليلين.
بعد هذا الاستهلال المشهدي الأقرب للدوكيودراما ينتقل المخرج إلى ضفة الدراما الخالصة عندما يعرض التشوهات العائلية والخلل العاطفي المحيط بحياة البطل الشاب المترنح على إيقاع الهشاشة والعنف معا، وما يزيد من وقع هذا الخلل رغبة الأخ الأكبر وكذلك الأم ـ تقوم بدورها بتميز واستحواذ كامل على متطلبات الدور الممثلة ميليسا لو ـ التي رأيناها في دور مدهش آخر مع فيلم “نهر متجمد” ـ من أجل احتكار وإدارة المباريات القادمة لمايكي، خصوصا أن العائلة تعيش وضعا ماديا صعبا وتتمنى خوض الابن لأية مباراة قادمة بغض النظر عن أهميتها الإعلامية من أجل الخروج بحفنة من الدولارات وتغطية الديون المتراكمة عليها، تتصاعد رغبة مايكي في الخلاص من هذا الأسر العائلي، والحصول على هامش من الحرية والاستقلالية من خلال البحث عن وكيل رياضي محترف وذي خبرة في إدارة مسابقات الملاكمة، إلا أن رغبته دائما ما تصطدم بقوة شخصية الأم وبالأحكام العاطفية للأخ الذي يعيش حياة بوهيمية مفرطة قوامها الإدمان على مخدر “الكراك” والهرب من استحضار مجده الرياضي الآفل من خلال اللجوء إلى بيت يضم مهاجرين آسيويين حيث يشبع هناك رغباته ويحقق متعته العابرة والمتبخرة والتي تنتهي بمشاكل وأزمات شخصية تكاد لا تنتهي.
يتعرف الأخ الأصغر على شارلين (آمي آدامز) بإحدى الحانات الصغيرة في البلدة، ويتحول هذا التعارف تدريجيا إلى حب جارف وأعمي، خصوصا ان شارلين تنتشل البطل المطلق الذي يخلف ابنة وحيدة من أزمته العائلية والنفسية الطاحنة، وتعوضه الكثير من الخسارات المغروسة فيه والمحيطة به، ومع تفوق الملاكم الشاب في بعض المباريات تبدأ العشيقة في تحريضه على السفر إلى ولاية فيجاس كي يتدرب بشكل احترافي ويجابه خصوما أكثر شهرة في نزالات قوية يمكن أن تحقق أحلامه المادية والمعنوية قبل أن تتناثر أوراق عمره الرياضي هباء، وقبل أن يتحول إلى مطية وجسر لأنانية الأم المشوشة وسيطرة الأخ المدن والتائه وسط أحلامه المستحيلة.
تتفاقم أزمة العائلة عندما يزج بالأخ الأكبر ديكي في السجن إثر مشاجرة مع الشرطة، بعد محاولات غير مشروعة للحصول على المال من أجل تغطية تكاليف التدريب للأخ الأصغر، وعلى عكس ما هو متوقع يتحول السجن إلى مطهر وإلى درس اجتماعي يستعيد فيه ديكي إحساسه بقيمة الحياة التي تركها خارج السجن، يتعافى ديكي من الإدمان ويخرج من السجن وهو أكثر إصرارا على تحويل مايكي إلى بطل حقيقي، الأمر الذي يبدو وكأنه سيتحقق عندما يبدأ الأخ الصغير في التعملق والفوز بمباريات داخلية مهمة تسلط عليه أضواء الإعلام والشهرة، وتهيئه للذهاب بعيدا نحو عاصمة الضباب لندن وخوض مباراة عالمية كبرى، ويبرع المخرج هنا في إسقاط كل الصراعات والتفاصيل الموزعة بين الإحباط والأمل على الحلبة، وكأن البطل يخوض تحديين في ذات، التحدي الأول يتمثل في هزيمة خصمه، ولكن التحدي الأهم كان في الإجهاز على فقره والانتصار لعائلته وعشيقته وأبناء مدينته البعيدة، تتجمع كل الأحاسيس والذاكرات الهائلة وسط الحلبة الصغيرة ووسط الأضواء والفلاشات الخاطفة، تدور الكاميرا وتجسد عن قرب أكثر اللحظات إثارة وخطورة داخل هذه الساحة الضيقة المفعمة بالآمال والتقلبات والمناورات المنهكة والتي تفضي في آخر المطاف إلى فوز مدو لمايكي ضد خصم عنيد ومتمكن، فوز يزيح في النهاية كل المرارات والهزائم الداخلية والشروخ العائلية لبطل بدا وكأنه صنيع خجله وعزلته ومأساته الشخصية، هذه المأساة التي ينهض من رمادها وحرائقها الصناع الحقيقيون للبهجة.
يختلف فيلم “المقاتل” عن أفلام سابقة تناولت السيرة الرياضية والحياتية للملاكمين ونذكر هنا سلسلة أفلام روكي التي صنعت شهرة سيلفستر ستالوني، وكذلك فيلم “الثور الهائج” الذي قدم روبرت دي نيرو في دور لن يمحى من ذاكرة السينما، وهناك فيلم “المصارع” الذي ترشح بطله مايكي رورك لجائزة أفضل ممثل قبل أعوام قليلة، واختلاف فيلم “المقاتل” عن هذه الأفلام يتمثل في مقولته التي تشير إلى أن الصراع دائما ما يبدأ خارج الحلبة، حيث تحولت الحياة الخارجية ذاتها من خلال صياغة ذكية من المخرج إلى حلبة مليئة بالإغواءات السينمائية والمقاربات النفسية للبطل وللمحيطين به وكذلك بالانعطافات والظروف التي يمكن أن تنتقل إلى الحلبة الحقيقية بكامل عنفها وبكامل رهافتها أيضا.
مغازلة الأوسكار
تميز الفيلم أيضا بقدرة معظم ممثليه على تقديم أدوار متماهية تماما مع الشخوص الحقيقيين الذين عاصروا البطل مايكي مارك، مع إضفاء مسحة من البهارات الأدائية لخلق حالة درامية مطلوبة في هذا السياق، تميزت ميليسا لو في دور الأم المشتتة بين حنانها الأمومي والأنثوي وبين ضغوط الحياة المرهقة التي سلبتها الإحساس بالأمن العائلي، وأفصح الممثل كريستيان بيل في الفيلم عن طاقة كوميدية عالية تخبئ خلفها الكثير من الألم الذاتي، وقدم واحدة من أفضل أدواره بعد أن خلع بزة الرجل الوطواط في الجزء الأخير من هذه السلسلة الخيالية لأفلام الكوميكس الرائجة، وكان لبيل دور مؤثر آخر في فيلم “إنقاذ” للمخرج العتيد ويرنر هيرزوج الذي صنع متاهة شائكة للبطل وسط غابات شرق آسيا، وجعله يعيش أقصى حالات التأزم الروحي والجسدي للأسير الذي تتحول حياته إلى جحيم ممتد من الكوابيس والهلوسات والمجابهة الصريحة مع الموت، آخر ما قدمه كريستيان بيل للشاشة كان دور جون كونور في “تيرميناتور” أو “المبيد”، فيلم خيال علمي آخر يصبو لأن يكون علامة لأفلام الكوارث المستقبلية المفتوحة على كل التأويلات والتفاسير الداكنة.
سبق لمخرج الفيلم دايفيد راسل تقديم فيلم “الملوك الثلاثة” مع الممثل جورج كلوني في العام 1999، كما أخرج في العام 1996 فيلم “مغازلة الكارثة”، ويبدو أنه هيأ لممثليه من الآن الأرضية الأدائية المناسبة في الفيلم كي يغازلوا جوائز الأوسكار في احتفالية شهر مارس القادم!