السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جبل الطير.. هنا اختبأت مريم

جبل الطير.. هنا اختبأت مريم
11 أكتوبر 2018 00:10

حنان حجاج

على بعد ما يقارب 250 كيلو متراً جنوب القاهرة، وعلى الضفة الشرقية للنيل، حيث لا شيء سوى النهر، وشريط أخضر ضيق والصحراء، اختارت مريم الهروب. وبعد أكثر من ألفي عام، تحول مكان هروبها بصغيرها لنقطة ضوء شديدة الخصوصية وسط محافظة اشتهرت ولا زالت بحوادث الفتنة الطائفية المتكررة والرفض الدائم لقبول الآخر.

بينما أقف على العبّارة البسيطة التي نقلتني من الضفة الغربية لنهر النيل إلى الضفة الشرقية، كان الشاطئ الآخر الذي يقع بالكامل على هضبة جبلية يصل ارتفاعها لنحو 100 قدم يبدو مهيباً جداً ومختلفاً تماماً، مباني قديمة وأخرى لا تزال تحت الإنشاء.. كلها تحمل قباباً يعلوها الصليب، كان المكان يبدو وكأنه قرية جبلية للعبادة، الكنائس تحتل الحافة الجبلية المواجهة للنيل بالكامل. سبع كنائس يزيد عمر أقدمها عن 1700 عام وأحدثها لم يكتمل بناؤه بعد. لكن خلفية المشهد كانت مختلفة؛ ففي ظل تلك المباني الدينية وتحت أصوات أجراس الكنائس السبع يعيش سكان القرية الاثنا عشر ألفاً مستظلين ببركة العذراء، ومحتفين كل عام بواحد من أكبر أعيادها، الذي يشاركهم فيه ما يزيد على مليوني مصري من الأقباط والمسلمين.. هنا قرية «جبل الطير» حيث تختلط بركة مريم ووليدها بروح الصعيد فتخلق عالماً شديد التميز والدهشة.
تقع قرية «جبل الطير» على الشاطئ الشرقي لنهر النيل بمركز «سمالوط» أحد مراكز محافظة المنيا بصعيد مصر، ويبلغ عدد سكانها 12 ألف نسمة من السكان الأقباط بالكامل، وهي من القرى القليلة التي لا زالت منغلقة تماماً على سكانها وطبيعتها الثقافية والدينية. ويعمل أكثر من 90 في المئة منهم في المحاجر المجاورة، بينما تنقسم النسبة الباقية بين العمل بالزراعة في الشريط الضيق بين حافة الجبل الذي تقع فوقه القرية ونهر النيل الذي يجري أسفلها، وبين من اختار أن يعمل في خدمة الكنائس وزوارها. والوصول للقرية من الضفة الأخرى للنيل حيث تقع محافظة المنيا، يكون بعبّارات بسيطة يملكها الأهالي، بينما تتوافر وسائل نقل خاصة تصعد بالسكان عبر طريق ضيق لأعلى الجبل حيث مدخل القرية الرئيسي الذي تتوسطه ساحة تتوزع حولها البيوت، ويتفرع من تلك الساحة طريقان يؤديان لتجمع الكنائس أحدهما يمر بمقابر سكان «جبل الطير»، وهو الطريق القديم كما يسمونه، والذي يصل إلى كنيسة العذراء مباشرة، أما الطريق الثاني، فيعبر بيوت القرية ويفصل بين سكانها، حيث يمر ببيت الأب متى كمال راعي الكنيسة الذي لم يغادرها منذ أكثر من 45 عاماً عندما تم ترسيمه ككاهن لها في بداية السبعينات.

أساطير ومعجزات
يحكي الأب متى الذي صاحبنا بمشيته الهادئة في رحلة زيارة الكنيسة والكهف قائلاً: «جبل الطير هو أقرب لمنطقة أساطير بعضها يدخل في إطار المعجزات التي نصدقها بحكم منظومة إيماننا القبطي، وبعضها روايات شعبية يميل الناس لتصديقها والإيمان بها، ولكن المؤكد أن السيدة العذراء عندما هربت بوليدها عيسى،كان جبل الطير هو أحد أهم خمس محطات في رحلة العائلة المقدسة؛ فقد عبرت العائلة 29 محطة منذ خروجها من فلسطين حتى وصلت لجنوب مصر، ولكن أهم خمس محطات كانت هي: دير المحرق، وجبل الطير، وكنيسة أبو سرجه بمصر القديمة، والكنيسة المعلقة، ووادي النطرون، وكلها أماكن بها أديرة وكنائس مهمة، وقد ظلت العذراء ووليدها مختبئين في الكهف هنا لمدة ثلاثة أيام. وهناك أساطير تعلقت بالمكان، ومنها أنه أثناء عبور السيدة العذراء ووليدها للنهر كادت صخرة تسقط عليهما من أعلى الجبل فرفع الطفل يسوع يده، وأشار للصخرة دون أن يلمسها فظلت معلقة ولم تسقط، وطبعت كفه عليها. ويقال إن من سلط عليهم الصخرة ساحرة شريرة كانت تسكن الجبل أرادت أن تمنعهم من صعوده ولكن بركة المسيح حالت دون هذا بل وأنهت أسطورة تلك الساحرة. ويقال إن تلك الصخرة تمت سرقتها وتهريبها خارج مصر، وإنها موجودة بأحد المتاحف البريطانية».
وبحسب كلام الأب متى، يوجد حالياً بقرية «جبل الطير» سبع كنائس، إحداها الكنيسة القديمة التي بنيت قبل ما يقارب الـ1700 عام، وست كنائس أخرى بنيت على مراحل متعاقبة لاستيعاب الزوار والمصلين من أهل القرية أو القادمين لزيارتها، وكلها سميت بأسماء مرتبطة بالمكان وأساطيره، ومنها كنيسة الهروب، والتي تتجاور مع نفق طويل في الجبل يقال إن العذراء مرت به مع وليدها وهي تترك المكان هاربة، وهناك كنيسة القديس يوسف البار الذي رافقها في الرحلة وكنيسة القديسة سالومي وكنيسة العائلة المقدسة وكنيسة رفائيل مفرح القلوب.

في كهف الهروب
وكما تعددت أسماء الكنائس، اختلفت مسميات القرية من حقبة تاريخية لأخرى: «ومن الأسماء التي عرفت بها القرية دير الكهف وجبل البكارة، ودير الكهف نسبة إلى الكهف الذي اختبأت فيه السيدة العذراء ووليدها، ثم عرفت بجبل البكارة بعد أن بدأ الناس يفدون للمكان ولم يكن هناك طريق للصعود للجبل. ويقال إنهم كانوا يستخدمون بكرة تشبه التليفريك الآن ليصعد بها الزائرون للمكان، وظلت تستخدم حتى القرن العاشر، ثم استقرت القرية على اسمها الحالي حيث ذكر المقريزي أن هناك طائراً يشبه أبو قردان وهو طائر البوقيرس وهو من الطيور المهاجرة وكان يسكن المنطقة بكثرة ولذا سميت بجبل الطير وأصبح هو الاسم الحالي لها».
وبينما كنا نسير عبر الطريق القديم للوصول لكهف السيدة العذراء، كانت تحيط بنا مقابر القرية التي تتجاور مع بعض بيوتها ذات الطراز القديم. الطريق المترب انتهى بمبنى حديث عرفت أنه قد تم إنشاؤه قبل سنوات قليلة ليكون دار ضيافة للزائرين، وملحق به مكتبة تحوي كتباً دينية ومكاناً لبيع التذكارات للسائحين. أمتار قليلة ونصل إلى البوابة القديمة للكنيسة الأقدم تاريخياً، والتي تقع على حافة الجبل وتطل على نهر النيل. المكان هادئ تماماً بينما الكنيسة القديمة تستقبل الزائرين القلائل بحذر، حيث بدأت أعمال الترميم، التي يخبرنا المسؤول عنها أنها تأخرت كثيراً؛ فآخر عملية ترميم شهدتها الكنيسة التي يقارب عمرها ألفاً وسبعمائة عام كانت في عام 1938حيث تم إنشاء طابقين فوق الكنيسة القديمة وترميم الكنيسة الأثرية لتتسع للوافدين للصلاة، لا تزيد مساحتها عن 100 متر نحتت بالكامل في الجبل الملاصق لكهف العذراء، وهي مذبح وساحة صغيرة للصلاة مرفوعة على عشرة أعمدة تحمل المبنى الذي تم تفريغه ليكون كنيسة رائعة بأمر من الإمبراطورة هيلانه أم الملك قسطنطين الأول في عام 328 بعد الميلاد. أعمدة الكنيسة شديدة الجمال زينت رؤوسها بالنقوش الرومانية بينما الأعمال الخشبية الحديثة في الأبواب هي خليط ما بين الفن الإسلامي والقبطي، وهي التي أضيفت للمكان في ترميمه الأخير قبل ثمانين عاماً.
المدخل الرئيس الذي يضم الكنيسة والكهف عبارة عن بوابة خشبية تعقبها ساحة صغيرة تضم في جانب منها لوحة ضخمة من الفسيفساء يزيد عمرها عن 500 تمثل رحلة العذراء ووليدها بصحبة يوسف النجار.. أمامها مباشرة حوض النذور الصغير، حيث يضيء الزوار الشموع مصحوبة بالأمنيات والتبرك بالعذراء ووليدها. خطوات صغيرة وندخل إلى كهف العذراء المغلق بباب حديدي سمح لنا بشكل استثنائي بالدخول إليه والجلوس لدقائق، الكهف لا تزيد مساحته على ثلاثة أمتار مربعة، ويعلو سقفه لحوالي مترين ونصف فقط، بينما نحتت في جانب منه على الأرض مصطبة صغيرة لا تتسع سوى لجلوس شخص واحد وفي واجهته وضعت صورة العذراء. قريباً من كنيسة العذراء وعلى حافة الجبل تقريباً يقع كهف الهروب، ثاني أقدم أماكن القرية والذي تم اكتشافه بعد بناء الكنيسة بسنوات، ورجح وقتها المكتشفون أنه كان أحد ممرات الهروب للعائلة المقدسة واستخدم فيما بعد كمكان لاختباء الرهبان في عصور الاضطهاد.

قرية الأشقاء الأربعة
التجول في طرقات قرية «جبل الطير» هو أشبه بالسير في قرية قبطية قادمة من التاريخ. ورغم أن كثيراً من بيوت القرية القديمة التي بنيت من الحجر والطين والخشب قد تهدمت، وبنيت بدلاً منها بيوت حديثة من الطوب والخرسانة المسلحة، إلا أن رائحة المكان وملامحه لم تتغيرا، والصلبان التي نحتت في الحوائط أو دقت على الأبواب تعطي الانطباع الدائم بخصوصية المكان.. لم تتغير، أحد البيوت الحديثة -مثلاً- وضع فوق بوابته تماثيل مختلفة الأشكال للسيدة العذراء بينما قوالب الطوب الأحمر شكلت على هيئة صلبان، وحرص أهالي القرية على ترك الساحة الواسعة جداً التي تتوسط القرية، وتكاد تقترب من نصف مساحتها، فارغة تماماً لأنها -وكما قال لنا حفيد مقار العمدة آخر عمد القرية- هي لاستقبال أحباب العذراء الذين يأتون في شهر مايو من كل عام للاحتفال بها.
ويحكي مقار حفيد أقدم عمد القرية (مقار الكبير) -كما يسمونه- والذي تولى المسؤولية في عهد الملك فاروق، وانتقلت لابنه والد مقار، ومؤخراً آلت لمقار الذي يبلغ الخامسة والأربعين، يقول مقار: «في منتصف مايو من كل عام وبعد أن ننتهي من الصيام الكبير يقام احتفال السيدة العذراء أو مولد العذراء -كما يطلق عليه الزوار-حيث يأتينا للقرية ما يقارب المليوني زائر أكثر من نصفهم من المسلمين من جميع أنحاء مصر، وتمتلئ الساحة بالخيام لإقامتهم لمدة أسبوع كامل ومن تضيق عليه نستقبله في بيوتنا».
التجول في شوارع القرية القليلة والتي تتشعب كلها من ساحتها الواسعة، يكشف لنا عن ملمح آخر تتميز به «جبل الطير»؛ فالوجوه القليلة التي قابلناها في نهار القرية الصعيدية الساخن، كلها تشبه بعضها بعضاً بشكل كبير، وهو أمر طبيعي تماماً، لو عرفنا أن القرية بالكامل -وبقراءة بسيطة لأسماء الموتى على مقابرها أو ما يذكره الأحياء ويفتخرون به بشكل دائم- انحدرت من أب واحد سكن القرية قبل مئات السنين، وأنجب أربعة ذكور شكلوا عائلاتها الأربع الرئيسة، والتي انحدرت منها كل العائلات فيما بعد.
يذكر لنا القصة الشيخ نظمي عدلي شيخ البلد فيقول: «القرية كلها من أب واحد وأم واحدة وانقسمت لأربعة أفرع سميت حسب أسماء الأبناء الأربعة، وهي: أبناء بشارة، وأبناء السايح، وأبناء حنا، وأبناء حنين، هؤلاء الأربعة هم أصل القرية، ولذلك فالقرية كأنها بيت واحد وصعب جداً أن يأتي أحد من خارجها ليقيم بها. كما أنهم جميعاً مرتبطون بالعمل أو المصاهرة وأكثر من 80% من السكان يعملون في المحاجر القريبة،والبقية في الزراعة بينما أصبح الشباب وخاصة المتعلمين منهم يفضلون ترك القرية للعمل في الخارج».
بقي أن نعرف أن «جبل الطير» ورغم أن بها نقطة شرطة صغيرة لم تسجل ولسنوات أي محاضر أو جرائم قانونية. وصلة القرابة جعلتها أقل قرية في الجرائم، فنقطة الشرطة هنا ليس بها محاضر أو جرائم مسجلة فلا يلجأ أبناء القرية للشكاوى الرسمية ضد بعضهم، بل على العكس -كما يقول نظمي- لو حدث وذهب أحد أبناء القرية للشكوى أو عمل محضر يرسلونه لي بصفتي شيخ البلد فأقوم بحل المشكلة بشكل ودي.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©