20 يوليو 2011 19:33
الشعراء يلتقون بالعاشقين،
الفرحون، المبتهجون بالحياة يقتربون من المحبين
المسرحيون يسمعون الأغاني القريبة من خشبة المسرح،
وثمة أمواج بعيدة آتية، تريد أن تصعد الجرف كي تؤدي دورها على الخشبة القريبة، أمواج بحر ترقص بين شاطئ المدينة والمسرح الذي بات يستقبل البحر من عشرين طريقاً.
طريق للفرح.. طريق للأغاني.. طريق للشعر.. طريق لفنون الناس.. طريق للناس
عشرون طريقاً تحيط بمسرح يطل على المدينة، مسرح يعيش وسط البحر، مسرح مهاجر مع السفن المبحرة، مسرح يستقبل السفن الآتية كل مساء وصباح.
عند مدينة أبوظبي، ومن جهة البحر، ثمة كاسر للأمواج، صنعته عقلية عبقرية، صار ذراعاً يحتضن المدينة، يخلق حناناً غير مرئي، حناناً يعيشه كل ليلة حين يترنم العاشقون بأغانيهم.
عند كاسر الأمواج ثمة مسرح أطلق عليه “مسرح أبوظبي” في آخر الطريق عند انفتاح تلك الذراع عن كفٍ عريضة تمنح البحر شعراً وموسيقى وأداءً إنسانياً خلاقاً.
عند مسرح أبوظبي يرتفع صوت الوطن والفن والتراث ما بين سارية العلم العملاقة التي تحمل في قمتها علم الإمارات وما بين البناء المعيني لمسرح تجسدت في هيكليته فنون متعددة، نهلت جزئياتها الجمالية من الفن الإسلامي المغاربي والفن الغربي المتمثل في “العلبة الإيطالية” والجذور والإبداع الاجتماعي في قرية جمعت التراث فتباهت به.
قبل أن نقرأ العلاقة الوجدانية والجمالية بين “مسرح أبوظبي” وسارية العلم لابد أن نشير إلى أن هذه القراءة هي تأويل جمالي لطبيعة مكان جمع الفنون كلها، وهو بالضرورة قد اختلف عن الكثير من الأماكن كونه جاء بالفن أولاً وأخيراً ليضارع البحر، إنه مكان الشعر، والمسرح، والتشكيل، والتراث، ورقصات العيالة والرزفة.
ارتحال المقدس
“مسرح أبوظبي” من أغرب المسارح في العالم، لماذا؟
أولاً هو مسرح أشبه بالمسجد تصميماً يجاوره بأمتار قليلة سارية علم الإمارات التي هي أشبه بالمئذنة. وكأن هناك تقابلاً ذهنياً لا واعياً يسيطر على الرائي حين تجمع عيناه بين قبة مسرح/ شبه مسجد، وسارية علم/ شبه منارة إسلامية.
هنا ارتحل المقدس إلى الفن بشكل لا واعٍ، وجميع هذه العناصر مقدسة على المستوى الإنساني، أما السارية فهي رافعة لعلم الإمارات وقبة المسرح “هي بيت أبي للفنون” الأقدم صنعة وكلاهما يرتفعان إلى درجة التقديس.
ولم أقل إنه أغرب المسارح في العالم، إلا لأنه لم يشيد مسرح على شكل قبة إلا هذا المسرح، ولكن كيف؟
لنتفق معا على أن هيكلية مسرح أبوظبي تشكل فضاءً داخلياً كبيراً حاول المعماري أن ينشئ داخله جسماً معينياً يضم قاعة المسرح على شكل العلبة الإيطالية بـ 500 مقعد وهو رقم غير قليل.
اكتشف المعماري أنه صمم جسدين، الأول الخارجي يشبه فضاء المسجد الذي تعلوه قبة، والثاني داخلي يشبه المعين الذي يضم فراغاً، وبمعنى آخر أن المصمم المعماري خلق فراغين فضائيين، الأول محدب والثاني مسطح، وهنا نتساءل لماذا؟ لماذا لم يكتف بالفضاء الأول: “المحدب” ليقيم تحته مسرحه مباشرة بلا سقف؟
الصوت والصدى
ونجيب.. إن من طبيعة الصوت أنه موجة طولية تتحرك باتجاه واحد قابلة للانعكاس عن الجسم أو الجسد الذي ترتطم به، ولو افترضنا أن المعماري اكتفى بالقبة وجعلها سقفا لقاعة المسرح لخلق مشكلة كبرى حقاً وهي تشتت الصوت عبر ارتطامه بالقبة المحدبة التي ستعكس أصواتاً، بل موجات صوتية تتداخل وتتقاطع مع بعضها، لذا كان أفضل حل لديه هو الحل الأروع حقاً بأن يعزل القبة كلها بسقف المسرح أي يحيد القبة، وكأن القبة أصبحت زينة جمالية لا يأتيها الصوت مطلقاً، بل لا يقترب منها، حيث يظل الصوت داخل علبة المسرح المستطيل بسقفه المسطح الذي أغلق القبة من جميع زواياها والتي أصبحت معزولة تماماً إلا من شكلها الجمالي، وما دام المسرح بشكله المضلع جدارا مصمتا فإنه قادر على استقبال الصوت وامتصاصه دون أن يعكسه ثانية إلى الداخل، وهذا هو الدور الرئيسي للعلبة.
وقد نتساءل كيف إذاً يُقرأ في المساجد؟ فنجيب.
إن ما هو مقروء في المساجد يخرج من صوت أحادي ذي نبرة وخطاب واحد، إذ لا تنويعات على الصوت داخل هذا الفراغ ولا وجود لآلات صوتية فيه، كما أن المعماري الإسلامي استطاع حل إشكالية الصوت بأن رفعه “أقصد الصوت” فوق المئذنة المجاورة المعزولة عن القبة، أي أن المئذنة تمارس بسبب علوها دور المنبه للمقدس. وهذا هو ذات الدور الذي أدته سارية العلم الإماراتي التي جاورت “مسرح أبوظبي” كونها احتفت بالمقدس الوطني فرفعته حتى أقصى بعد يبيحه التصميم الذي اشتغل على 12 جزءاً، الأكبر في الأسفل والأضيق في الأعلى وهو الرافع للعلم وما بينهما أجزاء تتناقص جزءاً بعد جزء وهو منصوب على تلة محاطة بشكل معيني لقاعدة مرمرية حمراء، هذا الشكل المعيني للقاعدة يوازي بكليته الشكل المعيني للمسرح الذي قسم إلى 3 أقسام أو لنقل تكون من ثلاث كتل، الكتلة الأولى قبة البناء، والكتلة الثانية شكل معيني مصغر يضم 12 زاوية أو ضلعاً غير ظاهرة، والكتلة الثالثة شكل معيني أكبر يضم 12 زاوية أو ضلعاً جميعها ظاهرة وتنتهي جميعها بمقوسات مائلة إلى الداخل تحيط بالمسرح وهي بمجملها 20 قوساً إسلامياً تحمل كل واحدة 9 مقرنصات نصف دائرية مرتبطة مع بعضها في الأعلى.
الدلالات الجمالية
لقد كان المصمم عبقرياً عندما رسم 20 قوساً إسلامياً ولم ينفذ 24 قوساً بعدد مضاعف للأضلاع الكبيرة التي حملت كل ضلع فيها قوسين متجاورين إلا الأبواب الرئيسية الأربعة للمسرح التي احتوى كل باب فيها على مدخل كبير (3 أبواب خشبية ورابع وهمي مرتفع)، الأبواب توزعت بين كل 3 أضلاع، أي في وسط كل 5 أقواس، وما دامت هي أربعة أبواب لذا كان من الطبيعي أن يكون هناك 20 قوساً. فن عددي بارع يوحي بدلالات جمالية مذهلة، أقواس أربعة كبيرة تنفتح على البحر، على مدينة أبوظبي، وهي جميعها تواجه بوابات العالم الأربعة شمالها وشرقها وغربها وجنوبها.
يأتي رافع العلم، يتقدم ببطء وبوجل صوب السارية، يتحسس نبضها بأصابعه، يتأملها بعينيه، يعيش معها حالة من الحلم اليومي، حالة من الوجد الصوفي المقدس، العلم وهو يتطوح مع هواء آتٍ من البحر، ذاهب صوب أبوظبي.
يأتي رافع العلم ويمسح على جسد السارية الفارع، ومتى ما احتاج العلم إلى أن يتجدد فإنه يهمس له برقة العارف، المتمرس، كي يعيد له ثوبه، بينما تبدو هناك أضواء في الأسفل عند قاعدة العلم وهي تمد نورها حتى صفحة العلم التي ترفرف دوماً.
بلا أسوار
ما يلفت حقاً أن مسرح أبوظبي هو المؤسسة الثقافية الوحيدة التي لا تحيط بها أسوار، بل هي المؤسسة الثقافية الوحيدة التي يحيط بها الماء من 4 جهات، بل إن الماء يرفعها، وهي المكان الوحيد الذي ترى منه ساحل أبوظبي من أقصاه إلى أقصاه.
وظائف المسرح
قبة من الفن الإسلامي مزجت فنياً وظائف المسرح فتحولت إلى قبة مسرح وانفصلت وظيفياً عن دلالتها الأولى متحولة إلى دلالة جديدة اتخذت من التاريخ والموروث شكلاً لها وهي بهذا حققت جانبين، الأول جمالي، متفرد، غير مسبوق، والثاني غرضي أرادت الاستفادة من فضاء الفن الإسلامي لتكوين فن آخر إنساني، ولكن المعماري لم يعطها لوناً، بل أبقى على بياضها في المسرح كلا لا يتشابه مع قباب المساجد القرميدية.
حسناً، قد نتساءل كيف التقت جماليات الفن في السارية والمسرح فتضارعا؟
تأكيداً على ذلك أنني لم أجد ـ حقاً ـ صورة فوتوغرافية لمصور هاوٍ أو محترفٍ لم يمزج بين القبة والسارية وكأن هناك شيئاً يستدعي ذهنه ليقول له: إن القبة والمئذنة جسدان متضارعان.. وعليه أجد أن المقدس الكوني انسحب على المقدس الحياتي فاقتربا من بعضهما إلى حد كبير.
لم يكتف المعماري أن شكل جسد المسرح من 12 ضلعاً متكررة على مجسمين “معينين” ـ صغير في الداخل وكبير في الخارج ـ بل رسم خارجهما رسوماً استخدمت في الفن الإسلامي من قبل، بل لا تزال تستخدم في جداريات المساجد وفي حزام قبابها وفي إطار الحروفيات العربية بوصفها “حلية”.
من هذه الحلية رسم الفنان مستطيلاً طولياً يتعرج مع الأقواس العشرين ويحيط بها جميعها إلا أنه يبدو أكثر وضوحاً عندما يتوزع عند الأضلاع الأربعة الكبيرة، فهو هنا يحتوي فراغ الجدار المتبقي، أي يكسر البياض الواسع الذي يحيط بالقوس الأكبر، وبذلك يعوض عن قوسين صغيرين في ضلع واحد، أما فراغ هذا المستطيل الطولي فهو محشو بتموجات متصلة صاعدة وهابطة وكأنها مثلث متصل مقلوب يتعشق فيه خطان مع بعضهما البعض ليلتقي بعد أن يدور المبنى عند نقطة غير محددة.
وفي أعلى هذا الشريط الطولي المستطيل وعلى الأضلاع الكبيرة نجد أربع كتل متشابهة لشكل هندسي قاعدته إلى الأسفل ورأسه إلى الأعلى، أي أن كل ضلع كبير به أربع كتل، وفي أعلاه وعند الأضلاع الصغرى في الداخل أعلى المبنى نجد كل ضلع صغير يحمل الأشكال الهندسية نفسها، ولكن بعدد أقل هو 3 أشكال هندسية مقلوبة قاعدتها للأعلى ورأسها للأسفل وهنا يتقابل رأسا الشكلين الهندسيين في الضلعين الصغير في الأعلى والكبير في الأسفل، وفي نهاية الأضلاع الصغيرة في الأعلى ثمة شريط عند الحافة يحيط بالمبنى كلها وهو متصل تماماً مملوءة بذات الشكل الهندسي نفسه، ولكن رأسه للأعلى وقاعدته للأسفل بألوان صفراء وخضراء وزرقاء.
لم يتعد المصمم أربعة ألوان في تنفيذ جسد زخرفته وهي الأزرق والأصفر والأحمر والأخضر. وجميعها تمتلك دلالتها متضارعة مع ألوان العلم والبحر وخضرة أبوظبي.
جناح الصقر
من بوابة رئيسية تنفتح مباشرة على الموجة والأغاني وهمسات العاشقين، ثمة زجاج يفتح وقد رسم على وجهه صقر وجمل ونخلة وزعت هذه الرسمة الجميلة على 3 أبواب زجاجية وفي كل باب رسمتان.
وتنفتح الأبواب على قاعة استقبال تتوزع إلى سلمين ذاهبين إلى الأعلى، سلم في اليمين وآخر في اليسار، وترفع القاعة كتلتان نصبتا على بعد مترين من أول عتبة في السلمين، وتفضي القاعة إلى سقف معلق كأنه جناح صقر، جناح طائر يريد أن يرتحل فوق سطح البحر الذي يطل عليه في كل لحظة ينفتح فيها الباب الزجاجي ليأتي هواء البحر ليوقظ فيه الشوق إلى الارتحال في سماء بعيدة، مصحوباً بأغاني العشاق المتهامسين ونغمات الوجد التي تصدح حول مبنى مسرح أبوظبي.
الطريق إلى الخشبة
عند قاعة الاستقبال، في مدخل مسرح أبوظبي، تحجب كتلتان مرمريتان السلمين المقوسين المؤديين إلى الطابق الأعلى من المسرح بانسيابية وبلا خفاء، حيث تنفتح الأبواب الزجاجية عن قاعة صغيرة تحتوي الفراغ الأول، قاعة صغيرة تحتوي على أربعة مسارب، اثنان يؤدي بهما السلمان إلى الأعلى واثنان أرضيان يذهبان من جهة اليسار واليمين إلى بابي قاعة المسرح الكبيرة.
المسرح فاره بقاعته التي صممت بعناية وبدقة وشفافية، فضاء يحتوي المكان بحيث لا يبدو شيء خالياً في صمت المكان، إذ كل جزء يحتوي ذاته أو الحيز الذي وضع فيه.
مسرح طولي، مقام على أساس الشكل الغربي بعيداً عن الأنماط القديمة التي شكلت في ضوء الهندسة المربعة لقاعة المسرح. كما أنه لم يقترب من الشكل نصف الدائري المغلق «حدوة الحصان» كونه مدرجاً لمسرح العصر الروماني أو المسرح الأمامي غير المغلق لشكل المسرح الاغريقي، بل بدت قاعة مسرح أبوظبي في نظامها المستطيل محاولة لخلق حميمية عالية بين الجمهور والخشبة التي هي جزء أمامي من عمق المسرح.
عند عتبة الخشبة ثمة حاجز ساجي مستطيل مغلق من ثلاث جهات ومفتوح من الجهة الرابعة المستطيلة المواجهة للخشبة وهي بذلك تخلق حالة من التناظر والتوازي بين الخشبة وجمهورها المقابل.
وتتوزع المقاعد الـ 550 مقعداً على ثلاثة أقسام يميناً ويساراً ووسطاً، أما القسمان اللذان يقعان على جهتي اليمين واليسار فهما متناظران من حيث عدد المقاعد مع بعضهما، كما أنهما يتسعان كلما اتجهنا من الأسفل إلى الأعلى، حيث يبدآن بثلاثة مقاعد حتى يصلا إلى ما يقرب من عشرين مقعداً. وهذا يحصل في الجهتين على طرفي المسرح. في الوسط ثمة كتلة من المقاعد على شكل أقواس في كل قوس ثمانية عشر مقعداً وهي متعاقبة بعضها وراء البعض حتى تصل إلى أعلى المسرح.
هذا التوزيع العددي يقابله توزيع متناظر آخر في الطابق الأعلى حيث يشرف المتفرجون على فضاء المسرح برمته. الجدران مغلقة بالخشب الساجي الذي تتكاثف قدرته وتتنامى في امتصاص صدى الصوت واستقباله صافياً بلا صدى من قبل المتفرجين.
هذا التوزيع الكمي يسهل عملية الخروج والدخول إلى قاعة المسرح. أربعة أبواب، بابان كبيران على جهتي المسرح الأماميتين في الأسفل يميناً ويساراً، وبابان في الأعلى يؤديان إلى السلمين الهابطين حتى قاعة استقبال المسرح المؤدية إلى فضاء البحر المفتوح.
عندما يحل الغروب تتسلل ظلمة الليل الباهتة مع بقايا ضوء النهار المنسحب ببطء إلى ذلك الفراغ الذي يحيط بالمسرح عبر عشرين قوساً إسلامياً تتجاور مع بعضها بشكل دائري تحيط بجسد المسرح برمته.
الغروب الشفيف يرسم أقواساً صغيرة على الأرض المحيطة بالمبنى وثمة أشكال كأنها طيور تريد أن تهاجر حقاً وكأنها ممرات من ضوء سماء تريد الدخول، لم يكتف المصمم بذلك، بل كان بارعاً في التعامل مع الصوت داخل قاعة المسرح المستطيلة حيث بنى أربعة مستطيلات فراغية ملأها بالأشكال المثقبة المغربية وثبتها بجداري المسرح على يمين ويسار الخشبة، وهي في فراغاتها الممتدة طولاً من أعلى السقف حتى أسفل الجدارين عندما يقرب من مترين عن أرضية المسرح قادرة على تفريق ما يتبقى من صدى ولفظه خارج القاعة، بينما يرتفع فراغان طويلان، الأول أشبه بحاجب العين فوق إطار الخشبة، والثاني أشبه بالحزام عند السقف وكلاهما يؤدي غرض الفراغية الصوتية.
هذا الشكل الهندسي المرسوم بدقة هو نفسه، بسقفه العلوي يعزل القبة العلوية للمبنى ويحيدها ويجعلها شكلاً جمالياً فقط.