الثلاثاء 15 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 34 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ديكتاتورية الزبون وعبوديته

ديكتاتورية الزبون وعبوديته
12 يوليو 2012
أصدر الباحث والمترجم المغربي الدكتور سعيد بنكراد الترجمة العربية لكتاب: “الإشهار والمجتمع” لمؤلفه الفرنسي بيرنار كاتولا، والكتاب هو واحد من أهم الكتب التي تناولت الظاهرة الإشهارية (الإعلان) في نهاية القرن الماضي من حيث تاريخها وتقنياتها ووظائفها. وما يُميّز هذا الكتاب في المقام الأول هو أن مؤلفه من مهنيي التواصل الإشهاري، فهو صاحب وكالة إشهارية، وساهم بنصيب وافر في ظهور ما يسمى “الإشهار الجديد” في أوروبا، وفي فرنسا على الخصوص. وهو بالإضافة إلى ذلك، مؤسس لأكبر مركز للدراسات الإشهارية في فرنسا وهو مركز التواصل المتقدم. لذلك لا يكتفي الكتاب، حسب المترجم، برصد آليات هذا التواصل من خارجه، أي من موقع المتلقي الناقد، بل يبحث في الإنتاجية ذاتها، في المستوى الإبداعي والتوزيعي، كما يبحث في كل الآليات الإقناعية التي تعتمدها الوسيلة من اجل الوصول إلى وجدان المستهلك وحثه على الشراء. ويرى المترجم أن منطق المؤلف كان واضحا وصريحا موضحا فلسفة مبتكر الإشهار في أنه لا يستطيع الوصول إلى الزبون والدفع به إلى الشراء إلا إذا كان عارفا بكل تفاصيل حياته: نفسيته، ووضعه الاجتماعي، وسنه، وجنسه، وانتماؤه المهني، وكذلك تاريخه وثقافته العامة والثقافات الفرعية التي تبلورها الانتماءات المهنية أو الطبقية. تعد هذه المعرفة عنصرا مركزيا في عملية صياغة الوصلة وبناء خطابها واختيار ألوانها وأشكالها، وكذلك شعاراتها اللفظية. فلا وجود لمستهلك كلي إلا من حيث الغاية الاقتصادية القائمة على مبدأ البيع، اما على مستوى الفعل الشرائي ذاته، فهناك أنواع متعددة من المستهلكين. ويشيرالمترجم إلى أن المؤلف وفريقه من مركز التواصل المتقدم الذي أنشئ سنة 1971 في فرنسا، قاموا ببلورة خريطة للاستهلاك وزع وفقها المستهلكون على فئات تتميز عن بعضها البعض بخصائص تقتضي التوجه إلى كل واحدة منها من خلال خطاب يستند إلى هذه المعرفة بالذات. ذلك أن الاعتماد على المنتج وحده من أجل الإقناع لا يمكن أن يخلق رغبة حقيقية تقود المستهلك دائما إلى الشراء. “فما نقتنيه هو صورة للمنتج أو الماركة لا الموضوع ذاته” بتعبير المؤلف، إن الرمزي والاستعماري وما يصنف ضمن المخيالي والأسطوري كلها عناصر تتسرب إلى هذا الشراء وتقود إلى انتقاء هذا المنتج دون ذاك. عوالم الاستهلاك عوالم الاستهلاك هي جزء من ثقافة يُبرمج وفقها المتلقي سلوكه بشكل واعي أو لا واعي. فما يصدق على الأميركي أو الفرنسي قد لا يصدق بالضرورة على المستهلك المغربي أو الآسيوي. إن الأمر يشير إلى سلسلة من المحددات التي تتحكم في الاستهلاك وتوجهه. إنه يتجاوز الفرد وعوالمه الضيقة لكي يشمل “المستهلك الثقافي” الذي لا يحيل على فرد معزول بل على قيمة ثقافية، إنه الأساس الذي قامت عليه مقولة المستهلك ذاتها. لذلك لا يمكن خلق تواصل فعال إلا بالاستناد إلى هذه التفاصيل وصياغة الوسيلة اعتمادا عليها. ولا تختلف حالات استهلاك مواد نفعية عن استهلاك الأفكار، إلا في الظاهر. يرى الدكتور بنكراد أن الوسائل الإشهارية الوافدة من الخارج “كشفت عن الكثير من المفارقات الغريبة؛ لعل أولاها وأهمها التفاوتات المرعبة بين “الوضعيات الموصوفة في هذه الوسائل”، ديكورات ولباسا ووجوها، وبين الواقع الفعلي لحشود المستهلكين الذين تتوجه إليهم. والحال أن هذا الشراء لا يمكن أن يتحقق، خارج هذا الوضع أو في انفصال عنه، إلا من باب الزامية الحاجة المباشرة، أو من باب الاستلاب الثقافي. وقد تستوعب الرؤية “الساذجة” هذا التفاوت ضمن حالات الإسقاط الاستيهامي الذي يوازي سرا، بين “حياة” فعلية تعاش “هناك” ضمن محددات لها امتداد في التاريخ والثقافة، وبين “نماذج للتماهي” هي ما يوضع للاستهلاك المحلي، وهي ما يتم تداوله نفسيا واجتماعيا أيضا. فالراجع في كل حالات الشراء أن المنتج “لحظة استهلاكي” عابرة في حياة “الزبون”، إلا أن مضمونه الرمزي يخترق بيته “الذات الاجتماعية” كلها ويضعها في مواجهة مع نمط حياتي ضمن وضعيات للتسوق مفصولة عن أسسها الثقافية. ذلك أن للمنتج ذاكرة أيضا، ومن خلال هذه الذاكرة وحدها تبنى كل الدلالات المضافة. لذلك، بحسب الدكتور بنكراد: “فإن أمر الشراء أعقد مما نتصور واكثر تشبعا مما توحي به حالات الاستهلاك النفعي للمنتجات. فلا يكفي، في التلقي المباشر وفي تصور الحاجات أيضا، تقديم صيغة معربة أو مدرجة لكي يتسلل المنتج الممثل إلى عوالم ثقافية جديدة مغايرة لما يقتضيه “أسلوب الحياة” الجديد. فقد يكون للغة سلطان على كل شيء، بما فيها قدرتها على خلق كائنات وأشياء لا وجود لها، ولكنها لا تستطيع “تذويب” الفارق بين المضامين التي تبنى ضمن غيرها، وبين ما تقوله ذاكرتها الثقافية. ذلك أن وجود الأشياء والكائنات في اللغة أقوى من وجودها في الواقع، وقد يكون التمثيل اللساني هو الوجه الوحيد الذي تحتفظ به الذاكرة وتستند إليه في أحكامها”. لذلك، تقتضي الحاجة، في هذا المجتمع، وجود مستهلك تتحدد رغباته ضمن سياق ثقافي هو الذي يحكم الأفراد ويوجه نداءاتهم. فالأنا تنتقي بعيون “النحن” الاجتماعية، إنها مستهلك ثقافي وليست زبونا تائها تشده الحاجة إلى منتج نفعي فقط. إن قلة المنتجات وندرتها توحد المستهلكين في الذوق الميول والرغبات، أما كثرتها فتربك وتجلب الحيرة، ولكنها تفتح الذات على آفاق للتعدد والتنوع وإمكانية الانزياح عن المألوف والمشترك. تاريخ الاستهلاك وللاستهلاك تاريخ منظور. فعندما اختفت “المانيفاتورة” اختفى الفرد أيضا، ومعهما اختفت أشكال تنظيمية لاقتناء المنتجات وتداولها واستعمالها. وقد كانت هذه الأشكال وثيقة الصلة بالحميمية واللقاء المباشر بين التاجر والزبون، وبين هذا وبين منتجات محدودة في الكم والكيف والممكنات الدلالية أيضا. حينها انحاز “المستهلك”، أو أجبر على ذلك، إلى اقتصاد المنتجات العيارية المتشابهة في الشكل والوظيفة والإحالات النفعية. وكانت الحاجة إلى “النصيحة”، إلى من يساعد على الشراء ويدفع إليه ويرغب في اقتناء هذا المنتج دون ذاك. وليس لموضوعية المنتج ونفعيته إلا الأثر القليل من القيمة في ذلك. “فالتوجيه” و”الإرشاد” و”الإقناع” عمليات تتم كلها بالإيحاء، من خارج دائرة الاستهلاك أو ضدا عليها، بمزايا تخفيها حقائق المنتج أو لا تود الكشف عنها إلا ضمن ما يمكن أن تأتي به الاستعمالات باعتبارها مضافا يمكن من تحقيق صورة مثلى أو وضع مميز أو حظوة عند الآخر. ووفق هذه المحددات الجديدة في الإنتاج والتوزيع والتنافس انتشرت، من خلال الأداة الإشهارية، صورة الزبون في تفاصيل العوالم التي تبنيها الوضعيات الموصوفة في الوصلات حقيقة أو مجازا. لقد أسقط المستهلك، من خلال المضافات الرمزية للمنتج، “أناه” الاخرى، أو اكتشفها ضمن “لذة الشراء” أو لذة تختفي في انفعالات يسربها “نظير” لا عقلاني إلى الشيء وإلى كل استعمالاته الممكنة. إن المنتجات لا تغري بحقائق الاستعمال فيها؛ فلا خير في أحذية لا تهب أقداما جميلة، ولا خير في عطر يطرد الروائح ولكنه لا يعد بزوج أو عشيق، ولا خير في مسحوق لا يأتي سوى بالبياض دون أن يجعل المرأة زوجة مثلى في عين زوجها وفي عيون نساء الحي كله. ذلك أن الإشهار يمنح وجودا جماعيا لما كان في الأصل فردية غير قابلة للفهم، إنه يمنح قيمة مخيالية أو وظيفية أو رمزية اجتماعية لموضوع محايد في أصله. نمط الحياة إننا نشتري، من خلال هذا المنتج أو ذلك، نمطا في الحياة أو أساليب عيش فهي المدخل الضروري نحو الخروج من عوالم الذات الضيقة للانخراط في المجموع الاجتماعي ضمن معايير مخصوصة، وهو ما يعني أن المستهلك لا يكترث للمتانة والقوة والصلابة وكثير من صفات أخرى يعد بها المنتج أو يشير إليها إلا في حدود تجسيدها لما يود الوصول إليه، حقيقة أو استيهاما، من ميولات تخص الهيمنة والتفوق والتسامي والتحكم في الامتلاك والكينونة. إنه يعيش الحلم في الأشياء وما يمكن أن تحيل عليه من دلالات توسع من دائرة النفعي وتملأه بصور تتضاعف من خلالها الذات ويمتد نفوذها إلى ما هو أبعد من ناظر في المدى والإدراك. وهذه الصور وحدها تجعل الأشياء “ناطقة” من خلال شكلها ولونها وحجمها وامتدادها، فكل ما فيها يصبح رمزا أو استعارة أو دلالة تجد صداها في الدهاليز المظلمة للاشعور. فنحن لا نستهلك منتجات “حافية” و”عارية” من كل غطاء ثقافي. إننا نشتري، من خلال هذا المنتج أو ذلك، نمطا في الحياة أو أساليب عيش فهي المدخل الضروري نحو الخروج من عوالم الذات الضيقة للانخراط في المجموع الاجتماعي ضمن معايير مخصوصة، أي الذوبان في ما يطلق عليه “الشخصية الأساس”، تلك الأنا الشاملة القادرة وحدها على استيعاب كل ما يصدر عن الشخصيات المخصوصة، أو “شخصيات الوضع الخاص”. فالثانية لا تحيل على فرد معزول، بل تتحقق من خلال نموذج يبرر ما يصدر عنها، والأولى ليست مجموعا عدديا يراكم، بل هي بلورة ثقافية للمشترك القيمي بين أفراد المجموعة، في الاستهلاك وفي أساليب الحياة. فقد تلتقط عين المستهلك آلة منذورة لوظيفة أو خدمة، إلا أن لا شعوره سيظل مشدودا إلى وضع اجتماعي، أو نمط حياتي، أو إلى حالة من حالات الاستهواء التي يوفرها الشراء؛ وهي حالة ترتد بالذات الاجتماعية إلى حالات انفعالية سابقة على كل استقطاب مميز، حيث تختفي ثنائيات الوجود لتنصهر في وحدة مستعادة من خلال منتج أو خدمة. فما توحي به الآلة وتعد به أشد إغراء مما تكشف عنه وظيفتها. ويرى بنكراد أن هذا الكتاب يقدم معرفة ثمينة لكل المشتغلين بميدان التواصل الإشهاري، من مهنيين وطلبة وباحثين. فهو لا يمدح الإشهار ولا يذمه، فهذه مواقف لا قيمة لها في عمليات التحليل؛ بل حاول رسم حدوده التقنية وطاقاته التأثيرية فقد أصبح الإشهار حقيقة اجتماعية وثقافية قبل أن يكون آلة اقتصادية تدفع إلى البيع. إن المؤلف يعلن، من موقع الفاعل المهني، أن الإشهار جزء من الفضاء الاجتماعي وجزء من الفضاء الجغرافي وجزء من وجدان كل المواطنين في كل البلدان؛ إن آلياته لا تقتصر على البيع، إنها خالقة لثقافة تشمل كل سلوك الإنسان في الحب والكراهية والزواج والعشق وتقديم الهدايا. وقد صرح لو دوكا Lo Duca قائلا: “أفرغوا المدن والمحطات والطرق والقطارات من ملصقاتها، فستجدون أنفسكم أمام عالم مختلف، وقد يؤدي ذلك إلى تغيير في سلوك الناس”. وطبيعة هذا الحضور القوي في حياة الناس هو الذي حاول هذا الكتاب الإجابة عنه. أما مؤلف الكتاب برنار كاتولا فيقر قي بحثه “من السوق إلى الأسواق الممتازة” أن الإشهار “يعد ظاهرة حديثة، فقد ُولد وتطور في أحضان ثقافتنا مع انتشار شكل اقتصادي جديد. وقد تدفعنا هذه الحقيقة إلى البحث عن جذوره الأولى في الإعلانات القديمة؛ إلا أن الممارسة تؤكد أن الإشهار ظاهرة حديثة مرتبطة بتبادل المعلومات ضمن إطار اجتماعي بعينه. وقد أصبح، استنادا إلى ذلك، رمزا لحضارة الوفرة الموجهة نحو الاستهلاك، إنه يشكل لغتنا الخاصة؛ بل قد يكون هو صوفيتها وحلمها وروحها... الدعاية والفن إن الإشهار برأي مؤلف الكتاب “مقولة حديثة، موطنها سيكو ـ سوسيولوجيا خاصة بالمعلومات المطبقة على غايات سلعية؛ إنها تستعير طرقها من العلوم الإنسانية إلا أن غاياتها النفعية هي غايات اقتصادية. ويعد في جوهره أداة اقتصادية، إلا أن الفصول التي يتضمنها هذا الكتاب ستقودنا إلى توسيع دائرة تعريفه، وكذا الإطار المحدود للوصف التقني الخاص به لكي يشمل دوره وموقعه في الثقافة وهو دور عادة ما يتجاهله المختصون في هذا الميدان. يُنظر إلى الإشهار عادة باعتباره مجموعة من الوسائل والتقنيات الموضوعة في خدمة مقاولة تجارية، خاصة أو عمومية، وغايته هي التأثير على أكبر عدد ممكن من الأفراد عن بعد ودون تدخل مباشر من البائع. والهدف من كل فعل اشهاري هو اكتساب المزيد من الزبائن، وذلك من خلال التعريف بالمقاولة، لو من خلال بيع منتجات أو خدمات. إن الإشهار يتحرك في هذا الاتجاه من خلال البرهنة على جودة المنتج، أو بشكل غير مباشر، من خلال الإيحاء وتنمية الحاجات الواقعية أو المتخيلة للمستهلكين وإشباعها. ويرى بيرنار كاتولا أن “جوهر الإرسالية هو الاحتفاء بالمنتج والموضوع، سواء تعلق الأمر بخدمة أو بمؤسسة، وهو ما يجب أن يركز عليه ألإشهاري في استقلال عن مواقفه الشخصية في الحياة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض