دينا محمود (لندن)
واصلت كبريات وسائل الإعلام البريطانية تغطياتها المكثفة لوقائع المحاكمة الجارية حالياً في لندن لعددٍ من كبار المسؤولين السابقين في مصرف «باركليز»، بشأن صفقةٍ مشبوهةٍ تم إبرامها مع أركان النظام القطري قبل أكثر من 10 سنوات، بهدف إنقاذ المصرف العريق من الانهيار في غمار الأزمة المالية التي ضربت العالم في ذلك الوقت.
وفي اليوم الخامس للجلسات، ألمح ممثلو الادعاء إلى أنه كان من الضروري أن يُحاكم المسؤولون عن الجهات القطرية التي مثلت «نظام الحمدين» في الصفقة، جنباً إلى جنب مع مسؤولي «باركليز» الأربعة الذين تشملهم القضية، وعلى رأسهم جون فارلي الرئيس التنفيذي للمصرف وقت إبرام الاتفاق، وروجر جينكنز الرئيس السابق لمجلس إدارة وحدة التمويل الاستثماري المختصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فيه.
وأبدى الادعاء - ضمنياً - أسفه لأن الدوحة ونظامها الحاكم غير مشمولين في الدعوى، التي تضم قائمة المتهمين فيها أيضاً توم كالاريس وريتشارد بوث، المسؤولين السابقين عن كلٍ من وحدتيْ إدارة الثروات ومجموعة المؤسسات الأوروبية في المصرف البريطاني.
وفي هذا السياق، نقلت صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية واسعة الانتشار عن إد براون - أحد المحامين الممثلين عن مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في المملكة المتحدة - قوله بأسفٍ : «القطريون ليسوا أمام المحكمة هنا»، على الرغم من أنهم «انخرطوا في هذه الآلية عن علمٍ» كاملٍ بما تنطوي عليه من تحايل وتلاعب.
وبحسب الصحيفة المتخصصة في تغطية الشؤون المالية والاقتصادية، ندد براون في مرافعته بالصفقة التي اتفق عليها المتهمون مع مسؤولين قطريين - على رأسهم رئيس الوزراء السابق حمد بن جاسم وعددٌ من أعوانه - بهدف تأمين حصول «باركليز» على حزمة إنقاذ بلغت قيمتها نحو 12 مليار جنيه إسترليني (16.6 مليار دولار)، واصفاً الترتيبات التي تضمنها هذا الاتفاق بـ «الزائفة» و«غير القانونية».
ويشير الرجل في هذا الشأن إلى قرضٍ تبلغ قيمته 2.7 مليار جنيه إسترليني (أي ما يوازي ثلاثة مليارات دولار)، وافق مسؤولو «باركليز» أواخر عام 2008 على تقديمه إلى شركة «قطر القابضة»، وشكّل على ما يبدو جزءاً من صفقةٍ جانبيةٍ، تم إبرامها لإتمام تفاصيل الاتفاق على حزمة الإنقاذ المالي للمصرف، التي استهدفت تجنيب تلك المؤسسة المالية سيناريو التأميم الذي طال آنذاك منافسيْها «لويدز بانك جروب» و«رويال بانك أوف سكوتلاند».
واستنكر براون التبريرات الكاذبة التي قدمها مسؤولو «باركليز» لمنح تلك الأموال للجانب القطري، والتي تمثلت في الزعم بأنها تشكل مقابلاً للحصول على «خدماتٍ استشاريةٍ». وأشار إلى أن عدم توجيه اتهامٍ للمسؤولين القطريين الضالعين في هذه المؤامرة الشائنة، يعود إلى أنهم لم يكونوا هم الملزمين أمام الرأي العام البريطاني بكشف جوانب الصفقة المخزية، بل كانت قيادات المصرف البريطاني هي المعنية بهذا الأمر، بموجب القوانين السارية في المملكة المتحدة.
وألمح ممثل مكتب مكافحة جرائم الاحتيال الكبرى في بريطانيا - الذي تم تحريك الدعوى الحالية بطلبٍ منه - إلى الدور المشبوه الذي لعبته قطر في تخريب القطاع المصرفي في البلاد عبر مساعدة المسؤولين الفاشلين في المصارف الرئيسية مثل «باركليز» على البقاء في مواقعهم رغم سياساتهم الفاشلة، التي ألحقت خسائر فادحةً بمؤسساتهم.
ومن بين الجهات القطرية الضالعة في ما بات يُعرف في بريطانيا بـ«فضيحة قطر باركليز»، شركة قطر القابضة وهي الذراع الاستثمارية لهيئة الاستثمار القطرية، وشركة «تشالنجر يونيفرسال المحدودة» القطرية أيضاً، التي تُوصف بأنها الأداة الاستثمارية التابعة لحمد بن جاسم، الذي كان رئيساً لوزراء قطر خلال الفترة التي جرى فيها التفاوض مع مسؤولي المصرف البريطاني.
وفي مرافعته أمام محكمة «ساذرك» بجنوب العاصمة البريطانية، أشار إد براون إلى أن تكالب المسؤولين المتهمين في القضية على الأموال القطرية، جاء لرغبتهم في تجنب الحصول على مساعداتٍ ماليةٍ حكوميةٍ من أموال دافعي الضرائب، ما كان «سيعني أنه سيتعين على بعضٍ ممن يقبعون في مناصب الإدارة العليا في «باركليز» ترك وظائفهم».
وقالت «فايننشيال تايمز» في تقريرها إن هيئة المحلفين أطلعت خلال الجلسة التي عُقِدَتْ أمس الأول الثلاثاء، على أدلةٍ تثبت أن روجر جينكنز - وهو أحد المتهمين - طلب الحصول على «مدفوعاتٍ خاصةٍ» على خلفية دوره في تسهيل إتمام اتفاق العمولات، التي مُنِحَتْ للقطريين، وخاصة حمد بن جاسم الذي عَلِمت المحكمة التي تنظر القضية، أنه حصل على ملايين الجنيهات الاسترلينية بمفرده.
وأشارت الصحيفة إلى أن المحكمة أطلعت خلال الجلسة على رسالة بريدٍ إلكترونيٍ وجهها جينكنز في نوفمبر 2008 إلى زميله المدير التنفيذي الآخر في المصرف وقتذاك ريتش ريتشي، بُعيد موافقة المسؤولين في «باركليز» على الاتفاق سيئ السمعة مع قطر.
ويتساءل المتهم في رسالته عن السبب الذي يحول دون أن توافق اللجنة الخاصة بمنح المكافآت في المصرف، على إقرار «مبلغٍ ماليٍ خاص» له على ما يبدو، قائلاً إن اتفاقه المشبوه مع الجانب القطري «أنقذ وظائف» العديد من المسؤولين في «باركليز».
ومن جهتها، أبرزت صحيفة «الجارديان» - ذات توجهات يسار الوسط - ما كُشِفَ عنه خلال الجلسة، من أن روجر جينكنز حصل على مكافأةٍ قدرها 25 مليون جنيه إسترليني على الأقل لدوره في إتمام الصفقة مع قطر، على الرغم من تأكيد الادعاء أن تصرفاته على الصعيد العملي أظهرت «عدم اكتراثه على الإطلاق» باستقلالية المصرف، خاصة في ظل سعيه لتأمين الأموال القطرية من أجل خدمة مصالحه الشخصية.
وقال ممثلو الادعاء في القضية إن المسؤول السابق في «باركليز» سعى إلى إرجاء حصوله على أي مكافأةٍ في هذا الصدد، لحين انتهاء تصويت حملة الأسهم في المصرف على إتمام الصفقة القطرية «لأسبابٍ واضحةٍ» تتمثل في ضمان تمريرها دون إثارة أي شكوكٍ حولها.
ونقلت «الجارديان» عن الادعاء تأكيده على أن كل الترتيبات التي جرت مع الجهات القطرية وأفضت إلى دفع عمولاتٍ ضخمةٍ لها، كانت عبارةً عن «اتفاقٍ زائفٍ» ومحاولةً «للتغطية على الحقيقة» المتمثلة في أن ذلك جاء استجابةً لطلبٍ من الدوحة للحصول على عمولةٍ أكبر مقابل توفيرها الأموال اللازمة لحزمة الإنقاذ الخاصة بـ «باركليز».
ونقلت الصحيفة عن إد براون قوله إن تلك الرسوم المزعومة بدأت بـ 125 مليون جنيه إسترليني ثم قفزت إلى 280 مليوناً دون أن يُكشف للمستثمرين في أسواق المال البريطانية عن طبيعتها بشكلِ محددِ ومفصل، وهو ما يشكل انتهاكاً للقواعد التي يخضع لها «باركليز» باعتباره مصرفاً مُدرجاً في البورصة في المملكة المتحدة ويلتزم بحكم القانون بـ «الكشف علناً عن تفاصيل الاتفاقات التي يبرمها».
ويشار إلى أن القضية التي تخص ثاني أقدم المصارف في بريطانيا على الإطلاق، شكلت محوراً لتحقيقاتٍ جنائيةٍ واسعةٍ أجرتها السلطات البريطانية منذ عام 2012، وشملت 40 شخصاً من بينهم 12 من كبار المديرين التنفيذيين للمصرف الذي أُسِسَ عام 1690.
وتحظى المحاكمة - التي يُنتظر أن تستمر أربعة شهورٍ على الأقل - باهتمامٍ واسع النطاق من جانب الأوساط السياسية والاقتصادية في بريطانيا، في ضوء أنها تميط اللثام عن جانبٍ من المحاولات القطرية المستميتة لتعزيز الروابط مع المؤسسات الفاعلة على مختلف الصعد في المملكة المتحدة، وذلك في إطار حملة حشد التأييد المكثفة التي أطلقتها الدوحة منذ فُرِضت المقاطعة على نظامها الحاكم قبل نحو 20 شهراً من جانب الدول العربية الأربع الداعمة لمكافحة الإرهاب (السعودية والإمارات ومصر والبحرين).
وفي سياق تغطياتها للمحاكمة المتعلقة بحزمة الإنقاذ القطرية، أفادت وسائل إعلام بريطانية بأن الجلسات التي ستواصل المحكمة عقدها حتى مايو المقبل على أقل تقدير، قد تكون حافلةً بالمفاجآت «المتفجرة»، حتى وإن كان مصرف «باركليز» نفسه كمؤسسةٍ لا يواجه تهماً فيها.