ناصر الجابري (أبوظبي)
اختتمت، أمس، أعمال ملتقى أبوظبي الاستراتيجي السادس، الذي نظمه مركز الإمارات للسياسات بالتعاون مع وزارة الخارجية والتعاون الدولي في قصر الإمارات، وامتدت فعالياته ليومين تحت عنوان «تنافس القوى القديم في عصر جديد»، برعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي.
وتضمنت الملاحظات الختامية لملتقى أبوظبي الاستراتيجي التأكيد على الحاجة لإعادة النظر في معادلة التسلح والأمن، والعمل ضمن التحدي الدولي لتطوير آليات لضبط سباق التسلح والذي شهده العالم في الفترة التي تلت الحرب الباردة بين القوى الكبرى، خاصة مع وجود الحاجة الاستراتيجية لتوجيه الموارد نحو المجالات والقطاعات التنموية.
وشملت الملاحظات ضمن إطار المحور الجيو مالي في الملتقى، التطرق إلى أن عملة الدولار تمثل عملة الاحتياط العالمي والمهيمنة في مجال التحويلات المالية، والإشارة إلى أن نظام الطاقة العالمي يشهد تغيرات نوعية، ولا يزال يواجه تحديات تتصل بعدم اليقين بسبب السياسات الدولية والمتطلبات البيئية المختلفة. وضمن محور القوة التكنولوجية، خلصت الملاحظات الختامية للملتقى إلى أن القرن الـ21 سيشهد تحول العالم المادي إلى عالم رقمي، مع التزايد الكبير للتوجه من قبل القوى العالمية والشركات لوضع استثمارات ضخمة للذكاء الاصطناعي الذي سيشكل مستقبل العالم، بينما تحمل القدرات السيبرانية فرصاً كبيرة، ولكنها تنطوي على تهديدات مع وجود التحدي أمام المجتمع الدولي في كيفية تعزيز الحوكمة في مجال السيبرانية لمنع استغلالها بشكل سلبي يهدد أمن البشر من قبل الجماعات المتطرفة.
وأشاد حضور الملتقى في الملاحظات بنهج التنوع الاقتصادي لدى دولة الإمارات والتحضير للمستقبل عبر إطلاق عدد من المبادرات والاستراتيجيات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، ومنها إطلاق جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي تهدف إلى تخريج الكادر البشري الذي يمتلك علوم المستقبل ولديه الأدوات اللازمة لتوظيف الطاقات المطلوبة التي تضمن الارتقاء في مؤشرات التنافسية والاستدامة. وخلص المشاركون إلى أن كل أنواع القوة، تتطلب وجود الدول والمجتمعات التي لديها مؤسسات راسخة وقوية، وتمتلك الثقة بشعوبها وتتسم بالانفتاح، فهي الدول الأقدر على اكتساب القوة سواء العسكرية أو الاقتصادية، بينما يتمثل الأمر الحاسم لبناء العرب للقوة في القدرة على تحويل القوة الكامنة إلى فعلية، وهو المرتبط بوجود القيادة والرؤية.
وبحث المشاركون في الملتقى التحولات العالمية المختلفة في العالم المعاصر، ومجموعة التحديات التي يشهدها، إضافة إلى تقسيم النظام الدولي من حيث توزيع القوة واتجاهاتها المختلفة وطبيعة العلاقات بين الدول الكبرى المتنافسة على اكتساب مزيد من القوة بمنظورات مختلفة، كما وفر الخبراء تحليلاً علمياً لآليات عمل النظام الدولي.
وأكدت الدكتورة ابتسام الكتبي، رئيسة مركز الإمارات للسياسات، أن من سينجح في احتلال موقع متميز في توزيع القوى الجديد بالمنطقة، هو من ينظر للقوة بمنظورها الشامل وتتضمن العلوم والتكنولوجيا والمعرفة وتحسين حياة المواطنين، حيث إن امتلاك القوة الخشنة وحدها ينتج الاستبداد والحروب، فالقوة ليست مرتبطة بالمساحة أو السكان أو القدرات العسكرية، بل مرتبطة بتنمية الداخل وإيجاد القوة المعرفية التي تقود المنطقة.
تنافس الأطراف
وأشارت، خلال جلسة حوارية حول القدرات والتحولات في منطقة الخليج، إلى وجود تنافس شديد بين كل الأطراف ومحاولة لأن يحتل كل منهم موقعاً مميزاً في إعادة توزيع القوة، وهو ما يفرض تحقيق التوازن بين كم التسليح والقدرة على الدفاع عن النفس، مع وجود التنمية المعرفية التي ستؤدي إلى إنجاز معادلة الأمن والاستقرار المطلوبة التي نحتاجها في العالم العربي.
ومن جهته، أكد الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة، رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، أنه إذا استمرت معدلات النمو الاقتصادي لدول الخليج في المستويات الحالية في الـ10 سنوات المقبلة، فإن كتلة دول مجلس التعاون الخليجي ستكون سادس أكبر قوة اقتصادية في العالم بحلول عام 2030.
وأضاف: زيادة الاضطرابات والنزاعات في المنطقة، وتصدير مفاهيم الإرهاب والتطرف والطائفية وخطاب الكراهية لها تأثير على خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة، وهو ما يفرض أهمية التدابير الأمنية الوقائية التي تسهم في حماية الجبهة الداخلية لدول الخليج، مشيراً إلى أن الاجتماع المقبل لقادة دول مجلس التعاون الخليجي سيبحث جميع الملفات التي تهم الدول بشكل استراتيجي.
مفاهيم الطائفية المرفوضة
وأشار إلى أن السياسة الإيرانية الحالية مرفوضة، فلا يمكن أن تقبل دول الخليج بمحاولة صناعة فكر يستند على مفاهيم طائفية تتجاهل معنى الدولة الوطنية، لافتاً إلى أن الإشكالية الحقيقية هي تباين الخطاب السياسي الإيراني مع السلوكيات الرسمية الواقعية، برغم المحاولات والنقاشات لإيجاد سبل للتفاهمات التي تصب في مصلحة جميع الأطراف.
ومن ناحيته، أشار الدكتور سعد العجمي، وزير الإعلام الكويتي الأسبق، إلى أن النفوذ الإيراني الحالي في المنطقة يعود إلى غياب المشروع العربي، حيث لا يمكن أن ينهض أي مشروع عربي من دون وجود مصر، التي بدأت تعود الآن وتتعافى وتستطيع أن تقود المشروع الموحد الذي ستشكل دول الخليج رافداً له، لافتاً إلى أن إيران استثمرت الكثير خلال العقود الماضية في لبنان والعراق لنشر مفاهيم الولاء السياسي لها، إلا أنها فوجئت بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية مؤخراً، التي تعدت المفاهيم الطائفية الضيقة إلى الدولة الوطنية الموحدة، وهو ما يمثل فرصة لإيجاد المشروع العربي القادر على ملء الفراغ في المنطقة، وإيقاف التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية الإقليمية.
دول الخليج ومفاهيم المستقبل
ومن جهته، أكد جميل الذيابي، رئيس تحرير صحيفة «عكاظ» السعودية، أن دول الخليج تتجه الآن نحو مفاهيم المستقبل وإنشاء وزارات ومؤسسات مختصة للذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، ووقعت مجموعة من الاتفاقيات والشراكات نحو تعزيز هذه المفاهيم، بما يعكس التفكير المستقبلي والتوجهات المعرفية الحالية التي ستؤدي إلى رفد قطاعات المستقبل بالكفاءات القادرة على قيادة دفته. وأشار إلى أن دول الخليج تتميز بوجود المواطن الخليجي المدرك جيداً لأهمية دعم سياسات قادته ورغبته في الدفاع عن وطنه ومعرفته الحقيقية بما يطرح من أفكار ومشاريع وطنية حقيقية لمصلحة المواطن الخليجي، لافتاً إلى وجود العديد من التغيرات الإيجابية في المنطقة، والتي حدثت بالمقارنة مع الأوضاع قبل السنوات الـ4 الماضية، ومنها انحسار النفوذ الإيراني في عدد من الدول العربية، بوجود الدور الخليجي الفاعل والوعي الشعبي العربي بخطر التدخل الخارجي في شؤون الدول الداخلية. ولفت إلى أن الدول الخليجية اليوم تعمل بفعالية وبتحالفات واتفاقيات، ولا تنقصها القوة أو التسليح الحقيقي، وهو ما يصحبه وجود تغيرات رئيسة في الخريطة الإقليمية العربية، وخاصة بعد تطهير نحو 80% من الأراضي اليمنية، ووجود الشارع اللبناني الذي يقف في وجه شعارات «حزب الله»، وتنديد الشارع العراقي بالتدخلات الخارجية.
«لحظة الخليج»
ومن ناحيته، وصف الأكاديمي الإماراتي الدكتور عبدالخالق عبدالله، الوضع الحالي في المنطقة بأنه «لحظة الخليج» حيث إن دول الخليج أصبحت الآن أكثر ثقة بنفسها وبقدراتها أكثر من أي وقت مضى، كما أن حصيلة التحولات الإقليمية عبر العقدين الماضيين جميعها تصب في مصلحتها، كما فهمت دول المنطقة بروز القوى الصاعدة وعقدت الشراكات معها وارتبطت بها، وهو ما يشير إلى أن هذه الدول قادرة على قيادة خريطة القوة الإقليمية الجديدة.
وأشار إلى أن القيادة السياسية للخليج شابة وطموحة، وتحلق بجناحين قويين، هما الجناح السعودي والإماراتي، حيث جاء هذا التحالف ليبقى ويستمر قوياً ومؤثراً إيجابياً في المنطقة، بوجود مختلف معايير القوة، سواء الصلبة أو الناعمة أو الذكية، وهو الأمر الذي يبشر بالمستقبل الإيجابي للثقل الخليجي ضمن المنطقة العربية.
عناصر القوة
وشهد الملتقى، تنظيم جلسة نقاشية حول توزع القوى في الشرق الأوسط وعناصرها المتمثلة في القوة الخشنة والناعمة وقوة الذكاء الاصطناعي.
العرب والحاجة لإطار عقلاني
من جهته، أكد الدكتور زياد عيادات، مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، أهمية التفاعل بين مفاهيم القوة المتحولة والناعمة والصناعية، لافتاً إلى أن المعطل الحقيقي للقوى هو عجزها عن تحقيق أهدافها عبر الخلط بين مجموعة من القضايا، دون الأخذ بعين الاعتبار الحاسم الحقيقي في ميزان التأثير، وهو التحول من القوة الكامنة إلى الفعلية، عبر وجود القيادة الحكيمة والرؤية الثاقبة التي تستطيع الاستفادة من الإمكانيات المتاحة. وأضاف: إن العالم العربي بحاجة إلى إطار واقعي وعقلاني يقوم على الحسابات العلمية الدقيقة، وأخلاقي يضمن العدالة وتحقيق المساواة، وتتم قيادته عبر تطوير الدولة الوطنية بقادة قادرين على تحويل القوة الكامنة إلى فعلية وإيجاد شبكة من المصالح العقلانية التي تحقق الاستقرار، وهو ما يتحقق عبر التوازن الذي يضمن تحقيق أهداف الإطار.
صفقة القرن والقضية الفلسطينية
شهد اليوم الختامي للملتقى، تنظيم مجموعة من الجلسات الحوارية التي تناولت مفهوم صفقة القرن وتداعياتها على القضية الفلسطينية، إضافة إلى الأدوار الإقليمية الإيرانية، والتركية، والإسرائيلية في المنطقة العربية، كما بحثت جلسات الملتقى الدور المصري المؤثر خلال المرحلة المقبلة لإيجاد الحلول السياسية، والأوضاع الحالية في كل من العراق وسوريا.
المشروع الحضاري العربي
قال معالي محمود جبريل، رئيس الوزراء الليبي السابق: إن قياس القوة يتغير بشكل لحظي وفقاً للموقف الذي يراد قياسه، حيث توجد قوة كامنة تشمل المصادر التي تمتلكها الدولة من قوة عسكرية وبشرية وعلمية، وقوة فعلية يتم عبرها توظيف الإمكانيات المتاحة وزيادة فاعليتها بالنسبة للدولة الوطنية وتعزيز دورها وتحويلها إلى قوة مؤثرة تصنع القرار في المنطقة، وتمكن الدولة من ممارسة دور مهم وبارز في مختلف الملفات السياسية الإقليمية. وأضاف معاليه: توجد العديد من المحركات التاريخية التي ستستمر معنا إلى نهاية القرن الحالي، وتشمل السكان الذين يشكلون عنصراً بارزاً في مفهوم القوة، حيث من المتوقع أن يصل عدد السكان في أفريقيا إلى نحو 2 مليار شخص بحلول عام 2050، بما يجعل أفريقيا الأكبر في عدد السكان، إضافة إلى الشباب الذين يعدون جزءاً طبيعياً ثابتاً طوال التاريخ، والتغير المناخي الذي يتطلب منا التفكير فيه، نظراً لتعرض عدد من الدول والمدن لخطر الاختفاء خاصة المعتمدة على الأنشطة الزراعية بوجود الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، والذي سيتسبب في التصحر والجفاف.
وأشار إلى ضرورة النظر إلى مفاهيم الانفجار المعرفي للتعليم والاستثمار التكنولوجي، حيث توجهت عدد من الدول المؤثرة في العالم العربي باتجاه التقنيات الحديثة ومفاهيم الذكاء الاصطناعي والاهتمام بالتعليم النوعي الذي ينمي الكوادر البشرية، ويعمل على تعزيز المهارات المطلوبة التي تتناسب مع المستقبل الذي سنواجهه، ولذلك تمتلك هذه الدول تأثيراً كبيراً في عالمنا بالعمل على تحديد احتياجات المستقبل وتجاوز مفاهيم الماضي.
ولفت إلى أهمية إيجاد مشروع حضاري حقيقي يتعدى الأيديولوجيات، ويمنح للفرد العربي قوة المشاركة في بناء وطنه، حيث إن الحصانة الحقيقية للدول والأنظمة العربية هي الشعب، فالفرد عندما يكون مشبعاً ومشاركاً ومحققاً لذاته، وعندما يشعر بأن مصلحته في استمرار الوضع الحالي، فسيكون المساند الأول لمبادرات الدول الوطنية وأنظمتها والداعم الرئيس لاستمراريتها، بما يسهم في تحقيق الاستقرار المطلوب والدفع بعجلة التنمية والتقدم، داعياً إلى التوصل لإطار مرجعي تعمل عليه مجموعة من الخبراء العرب، ويتم تبنيه من الدول العربية، ويشمل الأطر العامة التي تضمن أيضاً الخصوصية والاختلاف بين دولة وأخرى حسب ظروف كل منها.