19 فبراير 2009 23:25
نزل أبو نصر الفارابي بدمشق، ودخل على سيف الدولة بن حمدان، وهو إذ ذاك سلطانها، ووقف بين يديه، فقال له سيف الدولة: اجلس! قال: أجلس حيث أنا أو حيث أنت؟ فقال: حيث أنت·
فتخطى رقاب الناس حتى انتهى الى مُسند سيف الدولة، وزاحمه فيه حتى أخرجه عنه·
وكان على رأس سيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يسارهم به، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني سائله عن أشياء، إن لم يعرفها فاخرجوا به!
فقال له أبو نصر بتلك اللغة: أيها الأمير، اصبر، فإن الأمور بعواقبها· فعجب سيف الدولة منه، وعظُم عنده·
ثم أخذ يتكلم مع العلماء والحاضرين في كل فن، فلم يزل كلامه يعلو وكلامهم يسفل، حتى صمتوا ، وبقي يتكلم وحده·
ثم أخذوا يكتبون ما يقول، فصرفهم سيف الدولة، وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل لك أن تشرب؟ قال: لا· فقال: هل تسمع؟ قال: نعم·
فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في الصنعة، فخطأ الجميع، فقال له سيف الدولة: هل تحسن هذه الصنعة؟ قال: نعم·
ثم أخرج من وسطه خريطة ففتحها، فأخرج منها عيداناً وركبها، ثم لعب بها، فضحك كل من في المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، فبكى كل من في المجلس، ثم فكها وغير تركيبها فنام كل من في المجلس، فتركهم نياماً وخرج!
قال أبو السمراء:
خرجنا مع الأمير عبدالله بن طاهر متوجهين الى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذا نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ فيه بقية، على بعير له أورق، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، وكان معنا إسحاق بن إبراهيم الرافقي، وإسحاق بن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا أفره من الأمير دواب، وأجود منه كُساً·
فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا، فقلت: يا شيخ، قد ألححت في النظر! أعرفت شيئاً أم أنكرته؟ قال: لا، والله ما عرفتكم قبل يومي هذا، ولا أنكرتكم لسوء أراه فيكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم، فأشرت له الى إسحاق بن أبي ربعي، فقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتباً داهي الكتابة بين عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن إنه عليم بتقسيط الخراج بصير
ونظر الى إسحاق بن إبراهيم الرافقي: فقال:
ومُظهر نُسكٍ ما عليه ضميره يحب الهدايا بالرجال مَكور
إخال به جبناً وبُخلاً وشيمة تُخـــــبر عنــــــه إنـــــه لوزيــــــر
ثم نظر إليّ، وأنشأ يقول:
وهذا نديم للأمير ومـــــــُؤنس يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه للشعر والعلم راوياً فبعض نديم مرة وسمــــــير
ثم نظر الى الأمير وأنشأ يقول:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه فما إن له فيمن رأيـــت نظــــير
عليه رداءٌ من جمـــــال وهيبـــــــة ووجه بإدراك النجاح بشــير
لقد عُصم الإســــلام منــــه بذائد به عاش معروف ومات نكير
ألا إنمــــا عبــــــدالإله بن طاهــــر لنـــــا والدٌبــــــرٌ بنــــــــا وأمــير
فوقع ذلك من عبدالله أحسن موقع، وأعجبه ما قال الشيخ، فأمر له بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه!
التلميح
روي أن رجلاً مر على جسر بغداد فمرت فتاة جميلة فأبصرها شاب كان جالساً وقال رحم الله علي بن الجهم، فقالت ورحم الله أبا العلاء! وانصرفت فتعجب الرجل مما سمعه من الفتى والفتاة فتوجه الى الفتى وأقسم له إن لم يوضح له الأمر ليشكونه الى رجل الشرطة· فقال له إني قلت رحم الله علي بن الجهم أقصد قوله في قصيدة له:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فردت هي مترحمة على أبي العلاء المعري ففهمت أنها فهمت قصدي وأنها تقصد بيت شعر لأبي العلاء يقول فيه:
أيا دارها بالخيف إن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال
يقول الرجل فانصرفت وأنا لا أدري بأي شيء أكون أكثر عجباً، أمن ذكاء الفتى أم من لماحية الفتاة وحسن حفظها، أم من غفلتي وجهلي وعدم حفظي!
بصيرة المكفوف
خرج أعرابي مكفوف البصر، ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما، فقال الشيخ: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري، قالت: أراها كأنها ربرب معزى هزلى، قال: ارعي واحذري·
ثم قال لها بعد ساعة: إني أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري· قالت: أراها كأنها بغال دهم، تجر جلالها، قال: ارعي واحذري·
ثم مكث ساعة ثم قال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا فانظري· قالت: أراها كأنه بطن حمار أصحر· فقال: ارعي واحذري· ثم مكث ساعة فقال: إني لأجد ريح النسيم فما ترين؟ قالت: أراها كما قال الشاعر·
دانٍ مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بالرّاح
كأنمـــــا بين أعـــــــــــلاه وأسفلـــــه ريط منشرة أو ضوء مصباح
فمــــن بنجوتــــه كمـــــن بعقوتـــه والمستكن كمن يمشي بقرواح
فقال: انجي لا أبا لك! فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء عليهما!
أقــوال
؟ لما احتضر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام قال: هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ قال: فاقبض روحي الساعة·
؟ قيل: مات عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكثير عزة في يوم واحد فقال رجل: اللهم كما جمعتهما في زيارة القبور فلا تفرق بينهما يوم النشور، فما بقي في المدينة أحد إلا استحسن كلامه·
؟ سمع الخوارزمي بالصاحب بن عباد فقصده وقال للحاجب أخبره أن أديباً بالباب وهو يظن أن الصاحب لا يعرفه، مع أن شهرته طبقت الآفاق، وكان الصاحب عازفا يومذاك عن استقبال أحد فقال للحاجب قل لمن يزعم أنه أديب أنه لا يدخل عليّ أديب إلا إن كان يحفظ 20,000 بيت من الشعر، فلما قال الحاجب ذلك للخوارزمي، قال: أخبر سيدك أهذا القدر من شعر النساء أم الرجال؟! فلما بلغ ذلك الصاحب قال: إن كان صادقاً فلابد أنه أبوبكر الخوارزمي فأذن له وسر به وأكرمه