13 يوليو 2011 19:07
بصراحةٍ شتاؤنا تافه، فمرَّة ضباب، ومرَّة غبار عاصفة رملية، ومرَّة برودة بلا داع، ومرَّة حرارة في الوقت غير المناسب. ويهلك الأطفال من الأمراض، ويزور الرشح البيوت كبابا نويل، ولا قطرة مطر تسقط، ومن النادر أن تلوذ إلى لحافك من قشعريرة البرد الفتانة.
وكما جاء بسرعة، يهل الصيف بعده بسرعة كذلك. والصيف صديقي، أو أعتقد كذلك، إذ يحس الإنسان وعندما تتعدى درجة الحرارة الخمسين بأنه الآن قد عاد طبيعياً. تنشط كل خلاياه، وعلى ما يبدو فإن العرق المتصبب سيفتح مسامات في جسده كانت مغلقة قبل، وها هو جسده ينتصب في هواء العالم، دون خشية من فيروس تافه يأتي به الشتاء التافه، ويهز تلك الأركان التي تركض بقوة وصلابة تحت السماء التي توشك على الاحتراق.
أحمد راشد ثاني
a.thani@live.com
شتاء 2011، أو إذا اتفقنا على تسميته بذلك، شتاء مختلف وخصوصي. وأظن كذلك بأن صيف 2011 سيكون مختلفا وخصوصياً. هل هناك “ربيع” و”خريف” عند العرب؟. لتحديد ذلك نحن بحاجة إلى مؤتمر يجتمع فيه علماء الفلك ويقولون لنا بصراحة هل عندنا ربيع وخريف وشتاء؟ ثم يا ترى ما تأثير الصيف الطويل ـ إذا ما اتفقوا على تحديد طوله ـ على سيكلوجية عقولنا، وواقعية أحلامنا.
ومنذ الأشهر الأولى لعام 2011 صُدم العالم بحكوماته وتحالفاته وأجهزة مخابراته بما سمي بـ”الثورات العربية”، أو “بالربيع العربي” (في مقال لاحق سأتحدث عن أي “ربيع” يقصده الغربيون)، ففي أقل من شهرين سقطت سلطتين عاتيتين وفاسدتين إلى درجة الفضيحة في كل من تونس ومصر، ورغم أن تلك الأيام كانت مسخاً من شتاءاتنا الماسخة، إلا أنني، ولا أتحدث هنا عن أناي المصابة بالأوهام سلفاً، وإنما كمجموعة بشرية تسمى العرب، أحسسنا بروح ـ ريح خاصة تهبُّ على حياتنا. ريح تشبه “السايبة” التي كانت تفرِّج عن أهالينا القدامى كربة الحر. ثَمَّ شيء خاص، لم نجربه من قبل هب على أرواح وجودنا حين تساقطت السلطتين العفنتين في كل من تونس ومصر. ولقد عصف ذلك الهبوب حقاً في أرواحنا حين قامت القيامة في ليبيا، وتخلت القبائل في اليمن عن خناجرها، وغدت شابة من جديد، وكأن كل شيء صار مرهونا بانزلاق الولادة.
مع التلفزيون
وكذاب وغير مهتم هو ذلك الذي لم يلازم التلفزيون لمتابعة الأحداث في تلك الفترة.
تركنا كل شيء في الحياة، وصرنا جالسين أمام التلفزيون، نقلبه من هذه القناة إلى تلك، وتتقلب أفكارنا ورؤانا معه، ولكن ذلك “النفح الروحاني” ونفخ الصور في “الميادين” والذي أسقط سلطتين في شهرين، تأنى بأرواحنا ومزّقها. القذافي “المجنون” لن يترك ليبيا حتى يلتهمها الجراد. واحترق وجه علي عبدالله صالح، إلا أن ذلك لا يكفي، على الأرجح، كي يرحم اليمن.
جُمعٌ تُمرُّ (= قيل بأنَّ بعض الساسة يفكرون حقاً بإلغاء يوم الجمعة، وتسميته الخميس - 2 -، أو السبت - 1 -) وعيوننا مصبوبة على هذه الشاشات التلفزيونية التي هي حقيقة تسرق دم النظر، وزوجاتنا يكدنَ على رفع دعاوى قضائية علينا من قبيل “إما القذافي أو أنا”، فتقول لها “بالطبع أنتِ”، ولكنك في الحقيقة وبعد أن تُطيِّب خاطرها بهاتين الكلمتين، ستواصل متابعة الأخبار.
قُم يا رجل من مشاهدة هذه الأخبار، الحشرات وصلت إلى غرف النوم، صرور هنا، وكأن زوجتي توهمت بأنها رأت فأراً يعبر الممر، وحشرات أخرى تتجول هذه الأيام في البيت.
قم يا رجل من مشاهدة هذه الأخبار، فأحاول أن أقوم، ولكني أقول لها: أتعرفين بأن الأستاذ معمر القذافي شبه الليبيين بالجرذان؟. ما علينا، ماذا تريدين الآن؟.
فترد: أريدك أن تحضر شركة لمكافحة الحشرات. فأقول: هل هذا كل ما تريدينه؟ حاضر. واتصلت كي أحضر تلك الشركة. في بداية هذا العام، عام 2011 الجليل، كنت أريد صبغ بعض غرف البيت، وفي أحد “المقاهي” التي أرتادها تعرفُت على شاب تونسي يعمل في الصباغة. ورغم أنني اتفقت معه تقريباً على العمل في بيتي إلا أن ذلك لم يحدث، ثم وبعدها بأيام زارني صديقي المترجم محمد لطفي البوسفي ومعه ابنه الشاب والمهندس والذي يعمل من فترة في مصفح.
يومها كانت الثورة التونسية في بدايتها، ورغم تشككنا كمثقفين بائسين - على الأقل أنا - بفاعليتها، إلا أنه وبعد أن افترقنا أنا اليوسفي بيومين، هرب ابن علي، وقال الذي قال: لقد هرمنا ونحن بانتظار هذه اللحظة.
وصرخ من صرخ في الشارع وعلانية: الشعب تونسي حُر.
دبرت موضوع صبغ تلك الغرف، وها هو جرس الباب يرن فقد وصل وفد “مكافحة الحشرات”.
فرقة المكافحة
يا مرحبا، يا مرحبا، سوريان اثنان تبدو عليهما العافية، ومعهما ثلاثة هنود. من أين سنبدأ؟. ابدؤوا من الطابق العلوي، ولكن ما هي الأدوات التي ستكافحون فيها الحشرات، فرَّد عليّ أحد السوريين: إننا لن نكافح الحشرات فقط، وإنما الفئران وأي ما يدب سنكافحهم بنوع من “الجل” الذي من المؤكد بأنه سيقضي عليهم لأكثر من ستة أشهر.
كثيراً ما سمعت مثل هذا الكلام، وأدرك تقريباً بأن الحشرات أذكى من أية مكافحة، كما اللصوص دوماً هم أذكى وأكثر تقدماً من أية شرطة. ولكن يا شباب انطلقوا في البيت، وحاولوا المكافحة، فللمحاولة نصيب ما من النجاح. عن أي نجاح أتكلم. لا عليك يا زوجتي، فالمرء أحياناً، وخاصة حين لا يجد ما يقوله، يُدشّن الحكم.
وبالفعل انطلقت فرقة “المكافحة” ولم تترك زاوية في الطابق العلوي من “الفيلا” إلا ووقعَّت عليه “الجل”، وبدأ “الرش” في الحمامات، ولوجود طفلة صغيرة في البيت لم تتعد الخمسة أشهر اعترضت زوجتي بشدة على موضوع “الرش” هذا، وتكبدنا ما تكبدنا كي نقنع فرقة “المكافحة” بعدم “الرش” في حمامات الطابق السفلي.
إذ يبدو بأنها جادة فعلاً في قتل المزيد من الحشرات.
ولقد توفَّر لي حين وصلت الفرقة إلى المطبخ في الطابق السفلي أن أتحدث مع زعيمها فقال لي: “أنا من درعا، منشأ الثورة” فعلياً أنا تفاجأت بمثل هكذا تعريف. ورغم أنه قال لي بأنه كان منتظماً ذات يوم في إحدى منظمات “طلائع البعث”. إلا أن ما يتمناه اليوم هي سوريا الجديدة والمتحررة من حزب العبث، والتي لن تقبل أبداً أن يتوارث حكمها أبناء وأحفاد ضباط كانوا يسمون أنفسهم ذات يوم أحراراً.
قلت له “الشعب السوري شعب عظيم، ومملوء بكل الخبرات، لديه رأس مال بشري لا يحد، ورأس مال طبيعي لا يحد”. وها هو يثبت شجاعة لا نظير لها كي يتحرر ويكون.
- هل تعتقد ذلك؟
قال لي.
قلت:
- بل أنا مؤمن بذلك.
قال:
- طمنتني يا رجل.
وودعني بحميمية، وودعته. وعندما عدت إلى الطاولة في مكتبي تذكرت بأن السيّد الرئيس يُشبَّه مثل هذا الشاب بالجراثيم.
وكما لو أنني أضحك مع نفسي قلت: عيب جداً، أيها “السيّد الرئيس” أن تشبه شاباً كهذا بالجرثومة، وهو لديه شركة في مكافحة الحشرات. لقد نزعت الثقة منه أيها “السيّد الرئيس” إلى الدرجة التي أتصور فيها الآن بأن الحشرات ستملأ بيتي أكثر من قبل.