سمر إبراهيم (جوبا)
تاريخ طويل من الحرب والسلام المؤجل في جنوب السودان، يجعلك أمام رواية سياسية وإنسانية تشبه مسرحية «في انتظار جودو» للروائي العالمي صمويل بيكيت، فالسلام لا يأتي أبداً رغم أنه لا صوت هنا في جوبا يعلو على صوت السلام. وفي هذا الإطار تقول هيلين، بائعة الخضراوات في سوق «كونجو - كونجو» بجوبا، إنها تريد السلام في بلادها (جنوب السودان)، فهي تحلم بأن يأتي الخير إلى بلادها الجميلة، وأن تشعر بالطمأنينة على أطفالها الصغار.
هيلين التي لا تتجاوز الثلاثين من عمرها، ترتدي ملابسها الملونة في السوق أمام بضاعتها من الخضراوات والفاكهة، تلخص حديث كل رجل وسيدة هنا في جوبا، التي فور وصولك إليها تشعر أنك أمام تحفة فنية من الطبيعة مجبرة على النوم مبكراً بسبب فرض حظر التجول الساعة السابعة مساء كل يوم.
في الفندق بجوبا، تلتقي شباباً من جنوب السودان يحلمون جميعاً بالمستقبل، ولكن المستقبل هنا مرهون بالسلام المؤجل حتى إشعار آخر.
تاريخ الحرب والسلام
كانت رواية الحرب والسلام لتولتستوي هي رفيق الرحلة الأقرب للواقع خلال جولة «الاتحاد» في جوبا. فهذا البلد الوليد بدأ كتابة تاريخه الجديد بحرب أهلية مريرة اندلعت في 2013 (بعد عامين فقط من الانفصال عن السودان) بسبب الصراع بين الحكومة بقيادة الرئيس سيلفاكير، ورياك مشار الذي كان يتولى منصب نائب الرئيس وقتها، وهي الحرب التي استمرت 5 أعوام وخلفت آلاف القتلى وعشرات الآلاف من المصابين، ومئات الألوف من اللاجئين والنازحين.
وبينما كان الجميع يبحث عن خارطة طريق لبناء الدولة الجديدة، برز الخلاف بين سيلفاكير ورياك مشار بسبب اتهام الأول لنائبه بمحاولة الانقلاب على الحكومة الشرعية، وهو ما ينفيه فصيل المعارضة المسلحة. ومن وقتها انتقل مشار للإقامة الجبرية في جنوب أفريقيا، ثم إلى الخرطوم.
قصة الحرب الأهلية المدمرة بدأت في اجتماع في 15 ديسمبر 2013 انتهى بمغادرة باقان أموم ومشار الاجتماع، ما دفع سيلفاكير لإقالة الأخير، لتندلع اشتباكات عنيفة في العاصمة بين القوات الحكومية والقوات الموالية لمشار.
وبعد ساعات كانت جنوب السودان على موعد مع اشتعال نيران الحرب بين قبيلة الدينكا (التي ينحدر منها سيلفاكير وقواته) وقبيلة النوير (التي ينحدر منها مشار وقواته).
ووسط نيران الحرب نجحت جهود إقليمية في 2015 على إجبار الطرفين على توقيع اتفاق سلام لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ويعود مشار نائباً للرئيس، ولكنه فشل قبل تطبيقه في يوليو 2016 مع تجدد القتال في جوبا ليفر مشار من البلاد إلى الكونغو الديمقراطية. ليعود حديث السلام مجدداً في 2018.
وبحسب تقارير منظمات دولية، فإن ضحايا الحرب الأهلية في جنوب السودان بلغ أكثر من 300 ألف قتيل، فيما فر ما يقرب من 2.6 مليون شخص من منازلهم.
العودة إلى الحرب
ويقول مناوا بيتر، المتحدث الإعلامي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان (فصيل رياك مشار)، لـ «الاتحاد» إن المحكمة كشفت الحقيقة بشأن قضية الانقلاب (المزعوم)، حيث جاء في حكمها، إن ما حدث كان صراعاً، ويضيف بيتر أن شهادة رئيس الاستخبارات بجنوب السودان، آنذاك، أمام المحكمة كان مضمونها إنه لم يكن هناك دليل على هذا الانقلاب، فتمت إقالته من منصبه لينضم إلى مجموعة المعتقلين العشرة الذين أعلنوا تحالفهم مع مشار.
رواية المعارضة بالطبع تقابلها رواية الحكومة الحالية، حيث يقول توت قلواك، مستشار الشؤون الأمنية للرئيس، لـ «الاتحاد» إن ما حدث ليس صراعاً على السلطة، نافياً رواية المعارضة بأن قوات كير حاولت قتل مشار خلال أحداث عام 2016، قائلاً: «الرئيس أنقذ حياة مشار من الموت المحقق في أحداث القصر الرئاسي عام 2016، وأمر قوات من الجيش بحمايته في إحدى الآليات العسكرية حتى وصوله إلى منزله» مؤكداً أنه ليس هناك أي شخص في جنوب السودان يستطيع قتل مشار، كما أن الدولة لا تريد العودة إلى الحرب مرة أخرى.
وأضاف أن جنوب السودان تنتظر عودة مشار كنائب أول للرئيس، وبلاده ورئيسها يرحبون بعودته في أي وقت.
انتظار السلام
بعيداً عن رواية من أشعل النار أولاً، سيلفاكير أم رياك مشار، فإن الواقع أن جنوب السودان الآن مازالت تنتظر السلام وفقاً لاتفاقية سبتمبر 2018 التي تنص على تشكيل حكومة انتقالية في مايو 2019 ولكن تم تأجيلها 6 أشهر ليكون الموعد نوفمبر 2019، واليوم تأجلت مجدداً 6 أشهر لتصبح مايو 2020.. سلام مؤجل يحمل تحت الرماد نيران حرب أهلية قد تتجدد في أي لحظة. ولكن ماذا يجعل السلام مؤجلاً دائماً ليتحول من 2013 إلى شبح «جودو» أكثر منه واقعاً، هذا السؤال الذي بحثت «الاتحاد» عن إجابته في جوبا.
نيران النفط والقبيلة
القبيلة والنفط هما سر الحلقة الجهنمية من العنف في جنوب السودان، هكذا تحدث لنا مسؤول سياسي في جوبا، ويروي لنا مناوا بيتر، المتحدث الإعلامي باسم الحركة الشعبية لتحرير السودان (فصيل رياك مشار)، قصة هذا الصراع الذي لا ينتهي في هذه الدولة الوليدة، قائلاً: «نسعى لإقامة دولة مساواة وليست دولة قبلية لوأد الصراعات داخل المجتمع، خاصة إن أحد أهم أسباب اندلاع الحرب الأهلية كان اقتلاع أراض مملوكة لقبائل بجنوب السودان، ومنحها لقبائل أخرى، ما خلق أزمة سياسية حادة لا نستطيع حسمها حتى الآن».
ذلك الانقسام عززه تنامي قوات جيشين وجهازي أمن في البلاد، يعود ولاء كل منهما للقبيلة وليس للدستور، ليقول بيتر «إذا نجحت الدولة في تشكيل شرطة وجيش قومي فقط، وليست قوات لديها ولاء إثني سيتم عقد انتخابات حرة ونزيهة، ووقتها سيكون الصراع سياسياً بالفعل، وليس صراعاً عسكرياً دموياً».
سكان جنوب السودان البالغ عددهم ما يقرب من 12.5 مليون نسمة، ينتمون لعشرات القبائل وينقسمون لثلاث مجموعات قبلية كبيرة هي النيليون والنيليون الحاميون والمجموعة السودانية. ولكن الصراع القبلي يدور بين مجموعة القبائل النيلية والتي تضم نحو 65% من السكان وتنقسم إلى ثلاث قبائل كبرى هي الدينكا (40 %) والنوير (20%) والشلك (5%). وكان الصراع القبلي بين الدينكا والنوير حاضراً منذ عقوداً طويلة، فقبل اتفاق السلام مع حكومة السودان المركزية، كانت الدينكا في حرب مع النوير في مشهد تصدره كل من الزعيم التاريخي جون قرنق (الذي توفي عام 2005) ورياك مشار، حيث كان الأول يمثل زعامة الدينكا السياسية فيما فرض رياك مشار نفسه كقيادة سياسية للنوير، واستمر القتال بين قرنق ومشار من 1991 إلى 1997 قبل أن يتحالفا في نهاية التسعينيات.
ووسط الصراع بين الدينكا والنوير، كانت قبيلة الشلك حاضرة بمثابة رمانة ميزان في أغلب الوقت كانت تميل إلى جانب النوير عبر قادتها السياسيين، سواء باقان أموم أو لام أكول.
النفط في هذا الصراع القبلي كان حاضراً، حيث فرضت قبيلة النوير سيطرتها على ولاية الوحدة التي تمثل أغلب إنتاج النفط في جنوب السودان، وبالتالي تعتبر هذه القبيلة وزعاماتها السياسية أن الدينكا يحاولون عبر السيطرة على السلطة السياسية نزع الفوائد الاقتصادية للنفط الذي يوجد في أراضيهم.
ثلاثية القبيلة والنفط والقيادات السياسية، قد يجعل المشهد أبسط لمن لا يعرف تفاصيل الخلافات في جنوب السودان، والذي يحول دون تحولها إلى أحد الدول الغنية في القارة الأفريقية بما تتمتع به من ثروات طبيعية ونفط وأراض زراعية. ويفسر هذا المثلث سبب الهدوء والتوافق أحياناً بحثاً عن تقسيم للثروة، ثم العودة إلى دائرة العنف والموت الذي يحصد آلاف الأرواح بسبب الخلاف بين القادة السياسيين على تقسيم الثروة وتفجير الأوضاع اعتماداً على قاعدتهم القبلية. وفي ظل هذه الثلاثية، تسعى الأطراف الإقليمية والدولية للبحث عن صيغة ممكنة للسلام، وهي إعادة توحيد الجيش وضم كافة الفصائل المسلحة تحت راية جيش وطني موحد، وهي العملية التي تواجه أزمة تمويل معقدة إلى جانب استمرار شكوك كافة الأطراف بشأن إمكانية نجاحها والتوازنات داخل الجيش الموحد.
سر عدد الولايات
تظهر تعقيدات العلاقة بين القبائل والنفط في جنوب السودان جلية في ملف عدد الولايات، فقد يبدو مستغرباً أن يجد دائماً في أخبار تلك الدولة الوليدة صراعاً بين الحكومة والمعارضة المسلحة حول عدد ولايات الدولة، حيث تصر الحكومة على البقاء على التقسيم الإداري الحالي وهو 32 ولاية، فيما تطالب المعارضة المسلحة بالعودة إلى التقسيم الإداري القديم وهو 10 ولايات فقط.
مراقبون دوليون
أكد مراقبون دوليون، أن النزاع المحتدم بين الحكومة والمعارضة بشأن حدود وعدد الولايات تعود جذور أسبابه إلى النزاع حول سيطرة إثنية على أخرى، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، والأخير للسيطرة على إنتاج حقول النفط.
وحسب روايات سكان ومسؤولي جوبا التي أوضحت لـ «الاتحاد» أن مناطق إنتاج حقول النفط 90% منها يخضع لسيطرة القوات الحكومية حالياً، في ولايات «شمال أعالي النيل، روينق، ليج الشمالية، وجزء من ولاية مايوت»، وإن قوات مشار المسلحة تفرض سيطرتها على أطراف بعض الولايات في منطقة أعالي النيل الكبرى، والتي تنتشر فيها قبيلته (النوير). وحسب مسؤول حكومي التقيناه في جوبا - رفض ذكر اسمه - معلقاً على نزاع الولايات قال: «المعارضة تسعى لإقرار التقسيم الإداري القديم في البلاد إلى 10 ولايات فقط، للسيطرة على حقول النفط، خاصة إنه في حال عودة الـ 10 ولايات ستكون قبيلة النوير إلى ينتمي إليها رياك مشار هي الأغلبية في إقليم أعالي النيل، والذي كان يضم سابقاً (ولاية أعالي النيل، الوحدة، وجونجلي).
عضو اللجنة المستقلة للحدود في جنوب السودان، الدكتور لام أكول، أكد لـ«الاتحاد» أن عدم اتفاق اللجنة حول قرار محدد يعود لتصويت 10 أعضاء لصالح الـ 10 ولايات، بينما صَوت 4 من ممثلي الحكومة لصالح الـ 32 ولاية، فيما غاب ممثل دولة تشاد عن المشاركة في اللجنة، وبما أن الاتفاق ينص على ضرورة تأييد 7 من الجنوبيين من ضمن الأغلبية تجاه اختيار محدد، لم تتمكن المفوضية من التوصية باعتماد عدد معين للولايات. ورغم ذلك، هناك توافق حول إقرار الـ 10 ولايات فقط، إذ أيده كل ممثلي المعارضة الخمس الذين يمثلون 4 أطراف من الموقعين على اتفاق السلام، مؤكداً أن هذا المقترح هو الخيار الوحيد الذي يتمتع بالشرعية الدستورية والقانونية بين كل الخيارات المطروحة.
على جانب الحكومة، فإن المطالبة أن يحسم عدد الولايات «الاستفتاء الشعبي»، فحسب الوزير الدكتور ضيو مطوك لـ«الاتحاد» فإنه «إذا لم يتوصل الأطراف لقرار بشأن عدد الولايات «سيتم طرح القضية للاستفتاء الشعبي حتى يقرر المواطن بنفسه قراره».
القيادي البارز بتحالف القوى المعارضة (سوا) ونائب رئيس اللجنة الوطنية لإدارة فترة ماقبل الفترة الانتقالية، جبريال شانقسون، اتفق مع الرؤية الحكومية، ولكن وضع لها شرطاً مهماً لتحقيقها، قائلاً: «الاستفتاء الشعبي يحتاج إلى موارد مادية ضخمة وقدرات تأمينية عالية، وزمن مقدر وإرادة سياسية».
التمويل كلمة السر
أحياناً يصبح السؤال الجدلي التاريخي أيهما أولاً «البيضة أم الدجاجة» هو إجابة لمعضلات سياسية، وفي جنوب السودان فإن تمويل اتفاق السلام هو تجسيد حي لهذه المعضلة، فهذه الدولة الغنية بمواردها الطبيعية والنفط، تقف اليوم منتظرة التمويل لتنفيذ اتفاق السلام الذي سيجعلها قادرة على البدء «نظرياً» في استغلال حقيقي لثرواتها.
بنود اتفاق السلام تشمل عدة بنود رئيسة هدفها الرئيس هو إنهاء الحرب في البلاد واستقرار الدولة التي تشترك مع 6 دول أخرى في حدودها، وذلك تمهيداً لبدء فترة انتقالية مدتها 36 شهراً يتم عقد انتخابات رئاسية عقب انتهائها.
والتحدي الأبرز الذي يواجه الاتفاق يتمثل في شح الموارد المادية، حيث يجب تمويل اتفاق السلام بتوفير 285 مليون دولار لإدارة مرحلة ما قبل الفترة الانتقالية المعنية بتنفيذ بنود الاتفاق، خاصة في ظل تعثر الدولة في دفع التزامها المقدر بـ 100 مليون دولار لدعم بند الترتيبات الأمنية، ولذلك التزمت عدد من دول الإقليم المساندة لملف السلام بجوبا بتقديم مساعدات لوجيسيتة، وعينية للدولة لدفع عملية السلام.
مستشار الرئيس للشؤون الأمنية تحدث عن أن الحكومة وحدها من تتحمل مسؤولية تمويل الاتفاق بكل بنوده، كاشفاً عن أن مصادر تمويل الحكومة للاتفاق، هما «إيراد البترول، والخزانة العامة للدولة»، مضيفاً أن دول الإقليم المعنية بدعم اتفاق السلام «مصر، السودان، أوغندا، وجنوب أفريقيا» تعهدوا بإرسال مواد التموينية والطبية لمعسكرات التجميع والتدريب.
ولكن مناوا بيتر يرى أنه في حال استقرار الدولة ستعود حقول النفط على الميزانية العامة بعوائد ضخمة للغاية، وأن المجتمع الدولي إذا لم يلاحظ جدية من طرفي النزاع لاسيما الحكومي، بإيداع جزء من تمويل الاتفاق لن يساهموا بأي أموال لدعم السلام، خاصة أن الميزانية ضخمة تستهدف تمويل إعادة توطين اللاجئين والنازحين، وتوحيد الجيش، وترسيم الولايات.
وأشار إلى أن منظمة الأمم المتحدة تنفق سنوياً ما يقرب من 4 مليارات دولار على معسكرات إيواء النازحين في الداخل فقط، قائلاً:«اتفاق السلام أولى بتلك الأموال»، مضيفاً: دولتنا حديثة ولازالت تعاني آثار الحرب، وتشهد أزمة اقتصادية طاحنة، كما أن موارد الجنوب لم يتم حُسن استغلالها حتى اللحظة الراهنة، في مجالات البترول، القطاع الزراعي، الرعوي، والحيواني.
أما ضيو مطوك فيقول لـ «الاتحاد» إن جنوب السودان لا تريد دعماً مالياً، بل تريد دعماً عينياً فقط، مضيفاً أن الصين ونيجيريا عرضا تقديم الدعم لبلاده، ويتمثل في توفير خيم للمعسكرات، وسلع غذائية فضلاً عن المساعدات المصرية اللوجيستية التي وصلت الفترة الماضية.
وبذكر المجتمع الدولي، يواجه اتفاق السلام تحدياً آخر يتمثل في الضغوط الدولية التي تمارسها دول الترويكا الثلاث (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، والنرويج) من جانب، ومجلس الأمن الدولي من جانب آخر، إما بفرض عقوبات على الدولة وقادتها، أو بصدور تقارير عن انتهاكات لوقف إطلاق النار، وارتكاب جنود الجيش لجرائم اغتصاب ضد النساء، أو قتل جنود القوات الأممية، بهدف الضغط على الحكومة لإتمام اتفاق السلام وبنوده في المواعيد المحددة والنهائية له.
فيما أوضح بيتر أن دول «الترويكا» الثلاث على اعتقاد أن الدولة بها موارد مالية ضخمة، ولكن ليس لديها رغبة في تمويل الاتفاق، فضلاً عن رؤيتهم أن هناك فساداً في الدولة، ومن ثم لا يريدون دعم الاتفاق مالياً أو سياسياً.
وحذر بيتر من تغير سياسي خطير بجنوب السودان بأيدي المجتمع الدولي، قائلاً: ليس هناك فرصة لتمديد الفترة ما قبل الانتقالية مجدداً، فالمجتمع الدولي لن يقبل بذلك وإذا حدث، سنفقد ثقة المجتمع الدولي ودول الجوار، كما سيدعم ذلك ظهور أشخاص أخرى ستطرح أنفسها كبدائل للغرب عن كير ومشار، مثل الجنرال السابق توماس سيريليو قائد جبهة الإنقاذ الوطنية التي تقاتل الجيش الحكومي في جنوب البلاد.
ويرى أكول، إن الحرب تسببت في مقتل ونزوح العديد من المواطنين بحثاً عن الأمان، بما في ذلك النازحون داخل معسكرات الأمم المتحدة بالداخل، كما تسببت في خلق أزمة إنسانية كبيرة من جوع ومرض وعنف ضد النساء، ولتخفيف تلك المعاناة، دفع المجتمع الدولي دعماً بلغ المليارات من الدولارات، ولذلك يرغب المجتمع الدولي في إنهاء الحرب ليس فقط لإنهاء معاناة المواطن، ولكن لتوفير هذه الأموال الهائلة التي ينفقها على الإغاثات.
الترتيبات الأمنية
التحدي الآخر الذي يواجه جنوب السودان للوصول إلى السلام هو الانتهاء من تنفيذ بند الترتيبات الأمنية المعني بدمج قوات المعارضة مع القوات الحكومية، لتوحيد الجيش الشعبي الوطني بجنوب السودان ليصبح ولاءه للدستور فقط، وهدفه حماية أمن الدولة.
إن بناء هذا الجيش الموحد يعني تجاوز ميراث الدم بين الأطراف المتنازعة، وأن يصبح أعداء الأمس رفقاء اليوم في الوحدات العسكرية بعد أن وقفا على جبهتي قتال شرسة لسنوات طويلة.
مستشار رئيس جنوب السودان للشؤون الأمنية أوضح أن المرحلة الأولى من تنفيذ اتفاق السلام أطلقتها الحكومة في 31 يوليو الماضي، وبدأت ترحيل قوات المعارضة إلى معسكرات التجميع لفرز وانتقاء الأشخاص التي تتناسب وتتوافر فيهم شروط الالتحاق بقوات الجيش الشعبي الموحد، وقوات الشرطة، وعناصر جهاز الأمن القومي، حيث حددت تجميع قوات المعارضة في 40 معسكراً على مستوى ولايات الدولة، مشيراً إلى أن المرحلة الأولى شهدت تجميعهم في 25 معسكراً فقط كبداية لتنفيذ بند الترتيبات الأمنية.
ويقول شانقسون إنه قد تم الاتفاق على تجميع قوات المعارضة في معسكرات تجميع خاصة، وتجميع القوات الحكومية في معسكرات الجيش، ولكن لم نتمكن من تنفيذ تلك الترتيبات بشكل نهائي، وأوضح بيتر ضرورة الانتهاء من تنفيذ بند الترتيبات الأمنية قبيل بدء الفترة الانتقالية في البلاد،
مستقبل رياك مشار
في ظل ذلك الحراك السياسي بجنوب السودان، وحديث عن إرساء السلام تارة، وحديث عن مأزق سياسي تواجه الدولة، حسم مناوا بيتر في حديثه لـ «الاتحاد» المستقبل السياسي لزعيم المعارضة المسلحة الدكتور رياك مشار، والنائب الأول للرئيس مستقبلاً حسب بنود اتفاق السلام، قائلاً: «مشار سوف يترشح للرئاسة، فقبل انتهاء الفترة الانتقالية وإجازة قانون الأحزاب الذي سيصدر عقب عام ونصف العام من تشكيل الحكومة، وصدور الدستور الانتقالي، سيعمل مشار على تأسيس حزب مدني يمكنه الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية». ولكن الأزمة الراهنة في عودة مشار إلى جوبا بشكل نهائي، تتمثل في استمرار فرض الإقامة الجبرية عليه في العاصمة السودانية الخرطوم من قبل منظمة «الإيجاد» من جانب، ومخاوفه بشأن تكرار سيناريو تجدد النزاع المسلح عام 2016 وهروبه، وعبر عن ذلك بيتر، قائلاً: «مشار لن يعود دون إنهاء بند الترتيبات الأمنية» .
البحث عن الحياة
بعيداً عن تعقيدات الخلاف في بنود اتفاق السلام ولقاءات سيلفاكير ورياك مشار، يبقي الإنسان في جنوب السودان هو الذي يدفع الثمن، حتى وإن انتهت تلك الحرب يظل البشر يسددون فاتورة الحرب إما مادياً باستنزاف الاقتصاد أو فقدان الإحساس بالأمان.
في سوق «كونجو - كونجو» أشهر أسواق دولة جنوب السودان، تذكر جون (بائع القماش) أحداث عام 2013 بمجرد سؤاله عنها، وهو الوقت الذي شهد فيه افتتاح محله الخاص وانتقاله لجوبا واندلاع الحرب الأهلية في البلاد، رافضاً التعليق وذكر الأحداث التي يبدو أنها كانت مؤلمة وصعبة للغاية، قائلاً «لا أريد إن تعود ذاكرتي لهذه الأحداث الحزينة، وأتمنى ألا تجدد الحرب والمعاناة في البلاد».
سوق «كونجو - كونجو» الواقع بالعاصمة جوبا يتسم بالبساطة الشديدة، ويضم كل مستلزمات الشرائية، عند مداخل السوق ستجد محال كثيرة متخصصة في بيع الهواتف المحمولة المستوردة من الخارج، ويشتهر أيضاً ببيع الأقمشة التقليدية لجنوب السودان للسيدات والرجال، كما يضم كل محل أقمشة «ترزي ملابس» لتفصيل الأزياء حسب رغبة الجمهور.
وبرغم الثروات الطبيعية في جوبا وبقية عواصم الدولة إلا أن 95 % من بضائع سوق «كونجو – كونجو» تعتمد على الاستيراد، حيث يتم استيراد «التوابل بكل أنواعها، العطور، الخضار، والفاكهة».