تعد الطبيعة في الصين، وفي معظم بلدان جنوب شرق آسيا، أمّاً مقدسة عظمى مفعمة بالخير والحنان، وإن غضبت أحياناً وتصرفت بشيء من القسوة الموجعة، زلازل وبراكين وأعاصير وانجرافات ثلجية وصخرية، بعيداً عن حكمة الأمومة وحنانها وعمق بصيرتها. وإذا كانت نظرة الغرب ترمي إلى قهر الطبيعة وتدعو للتغلب عليها، عبر تاريخ مديد من الصراع العدائي والاستنزاف الجائع، فإن الحكمة الصينية تدعو إلى استرضاء هذه الأم الكونية، والتماس الخير والرحمة منها. وحسبي هنا أن أشير إلى كلمات مستعرب صيني يقول: «إن الزلازل مؤلمة حقاً، ولكن أبناء شعبنا يواجهون الكوارث بصبر وجرأة متماسكين كإنسان واحد، ونحن واثقون بقدرتنا الجماعية على دفع المصائب بجهودنا وبمساعدة الشعوب الصديقة في العالم، ويظل أملنا في مستقبل بلادنا والعالم أكثر تعاوناً وازدهاراً وسلاماً». ولا ننسى في هذا السياق أن الصين لم تستعمر أي بلد في العالم.
يحتل الشعر أهمية كبيرة ويشغل مكانة مرموقة في البلاط الإمبراطوري منذ أربعة آلاف سنة، كما كان له دور بارز في المنافسات الثقافية بين أمراء البلاط وموظفيه الكبار، ولم تكن وراثة عرش التنين بمنأى عن ذلك التأثير السحري للشعر. ويذكر التاريخ أن عدداً من الأباطرة كانوا شعراء ورسامين. ويبدو أن «جو يوانجانغ»، أول إمبراطور في سلالة (مينغ)، لم يكن مصيباً حين خالف روح الشعر في إيثار حفيده على ابنه في أصول وراثة العرش. فقد طرح على كل من حفيده (جو يونوين) وابنه (جو دي) أن يكملا هذا المطلع الشعري:
تنشر الريح ذيل الحصان في ألف خصلة من الخيوط...
جاء جواب الحفيد في صورة شعرية عادية وكئيبة، إذ قال:
ويرص المطر صوف الغنم في قطع منبسطة من اللباد.
لكن جو دي، الأمير الذي سينتزع العرش من ابن أخيه بعد حين، قال:
وتنعكس الشمس على حراشف التنين في عشرة آلاف قطعة من الذهب.
لا ريب أن الفارق كبير، فكراً وفناً، بين الصورتين. فالحفيد اكتفى بذكر المطر، وهو مقدس لأنه منحة من السماء. أما عمه فقد ذكر الشمس والتنين ورقم الكمال السماوي (عشرة آلاف) في بيت شعري واحد. وإذا كان الشعر قادراً على استجلاء كوامن الوجدان وسبر معارج الروح، فإن روحاً متفائلة قوية تألقت من خلال البيت الأخير، وتركت تأثيرها على الإمبراطور، وإن كانت محبته لحفيده - نجل ابنه البكر الفقيد- هي التي أملت عليه قراره الأخير.
الانسجام الفلكي
الشمس في تراث الصين ترمز للرجل، ويمثلها على الأرض الإمبراطور، والقمر بلطفه الأنثوي يرمز للمرأة، والنساء مراتب ودرجات، والإمبراطورة هي المرأة الوحيدة التي تمثل البدر في ليلة التمام. ولأن التقويم الصيني منذ القدم يعتمد على منازل القمر، فإن علاقة الإمبراطور بزوجاته ومحظياته منذ خمسة آلاف سنة تخضع في الغالب لأيام الشهر القمري. والانسجام الفلكي بين الشمس والقمر لا يبلغ ذروة كماله إلا ليلة التمام.
طبيعة الحياة وتطورها عبر العصور تؤكد أن البيت الإمبراطوري هنالك مر بمراحل مختلفة وتقاليد متنوعة، سواء بألوان المائدة أو بالعلاقات الجسدية الحميمة. الطعام والحب أهم مقومات الفرح والعشرة والبقاء، وإن اختلفت الرغبات إزاءهما، وتباينت الأمزجة بين شخص وآخر، فضلاً عما يمنحانه للإنسان من راحة بال واستمتاع وانشراح صدر. بعض تلك التقاليد لا يخلو من طرافة. وإذا كان بعضهم، خاصة في المراحل المتأخرة، عاش مقتنعاً بعدد محدود من بنات حواء الجميلات، زوجات ومحظيات، فإن آخرين لم يكتفوا بالعشرات ولا حتى بالمئات.
في أول الشهر يبدأ لقاء الإمبراطور بأدنى مرتبة من مراتب الزوجات والمحظيات، ثم ترتقي المراتب صعداً حتى يكتمل القمر بدراً فتكون تلك الليلة الوضاءة من نصيب الإمبراطورة، فمن حقها وحدها أن تقضي تلك الليلة معه لتنعم إلى جانبه حتى الصباح ببركات رجل يحسبونه نصف إله، ولعله يتوهم نفسه كذلك! وهنا لا بد للخيال أن يشط بنا قليلاً، ما دمنا في مأمن من بطش الإمبراطور ومراعاة سلطانه. لعل الرجل يميل إلى إحداهن أكثر من تلك الإمبراطورة، فهل يدير لها ظهره ويتحول إلى جدار من جليد، كما يقول نزار قباني؟ السؤال مشروع وقابل لمزيد من البحث والاستقصاء!
هذا العامل النفسي شغلني، ولو بمسحة كوميدية، دون أن أعثر على الجواب الشافي. ولكن، بعيداً عن رغبة الرجل ومزاجه النفسي، ومهما كان عدد النساء في جناح الحريم، فقد نظمت التقاليد الصارمة، في بعض السلالات، علاقة «ابن السماء» بنسائه ومنحته الحق بمعاشرة 122 امرأة، وتأتي الإمبراطورة على رأس هذه القائمة. وهناك أربع زوجات من الدرجة الثانية، وتسع زوجات من الدرجة الثالثة، و27 من الدرجة الرابعة، و81 من الدرجة الخامسة. ويبدو واضحاً أن ليلة التمام تقسم الشهر إلى نصفين، وتقل أهمية كل ليلة حسب بعدها عن تلك الليلة البدرية المحجوزة للإمبراطورة. وهناك بطاقات خاصة تحمل أسماء الزوجات، وتقضي التقاليد في وزارة الطقوس بأن تحتفظ المرأة أو الخصي المكلف بشؤون غرفة النوم بسجل خاص للقاء الإمبراطور بزوجاته، حفاظاً على سلامة السلالة.
عالمان متناقضان
كان هاجسي الشعري أن أغوص في مدار التنين، وأمتع النفس بمعرفة ما أمكن من تراث هذا العالم الثري وثقافته العريقة. تشير الأساطير الصينية، من قبل خمسة آلاف سنة، إلى أن التنين يرمز إلى الخير والسعادة والخلود والقوة، كما أنه رمز الإمبراطور وسلطانه. لذلك، نراه مرسوماً بكثرة على الثياب والجدران والأدوات وحتى الدمى والملصقات الإعلانية. وغالباً ما نراه يلهو بلؤلؤة (كرة الرعد). ومنذ سلالة هان (226-206) قبل الميلاد، صار التنين يحمل معنى رمزياً حسب لونه. وهو في الغالب أحمر أو ذهبي، فيروزي أو أبيض. فاللون الفيروزي رمز الإمبراطور كما يرمز للشرق، حيث تطلع الشمس، والمطر، والعنصر الخامس من عناصر الفلك الصيني وهو الماء، ويقابله عطارد من الكواكب. والعناصر الأربعة الأخرى على التوالي هي: الخشب، النار، التراب، المعدن. ويقابلها من الكواكب: المشتري، المريخ، زحل، الزُّهَرَة. وإذا كنا ندرك أن المريخ بلونه الأحمر يتفق مع النار، وهو إله الحرب في الأساطير الإغريقية والرومانية؛ وأن الزُّهَرَة، ربّة الحب والجمال، تنسجم مع الذهب (المعدن)؛ لكني لا أدري كيف يتفق عطارد، وهو أشد الكواكب حرارة وجفافاً وصلابةً، مع الماء. ويبدو لي، وأنا من عشاق علم الفلك، أن قربه من الشمس هو الذي جعله يقترن بعنصر الماء، انطلاقاً من المثل العربي القائل:
والضِّدُّ يُظهِرُ حسنَه الضِّدُّ!.
الحكمة الصينية
لا تنفصل الحكمة الصينية عن الشعر، كما لا ينفصل جمال الفن عن روعة الطبيعة وجمال الروح، وأترك محاسن المرأة وروعتها كامنة في القلب دون أن يخطر في بال الشاعر أنه تجاوز ربيعه الثمانين في رحاب عرش التنين. والصينيون مولعون بالأرقام ولعهم باستطلاع الأبراج وعلم الفلك والرياضيات: فالحظ السعيد مقترن بالرقم 6، والثروة مواكبة للرقم 8، والعمر المديد مرتبط بالرقم 9، أما الرقم أربعة (شي) في الصينية واليابانية معاً.. فهو رقم مشؤوم يحمل معنى الموت. ولعلنا نرى في الحكاية الآتية إشارة كافية إلى أهمية الحكمة المتوارثة عن الآباء والمعلمين الأوائل عبر آلاف السنين:
كان المعلم (تشانغ تسونغ) في أواخر أيامه حين قدم تلميذه لاو تسي لعيادته والتزود بقبس من خلاصة حكمته. قال التلميذ اللبيب: «ألا تزودني بآخر كلمات الحكمة، يا معلمي؟».
أجاب المعلم: «عليك أن تنزل من عربتك حين تمر ببلدتك الأم».
قال لاو تسي: «نعم، يا معلمي.. هذا يعني أن على الإنسان ألا ينسى أصله».
وتابع المعلم: «إذا رأيت شجرة عالية فتقدم منها وتطلَّع إليها، كما يليق بك».
- نعم، يا معلمي.. إن عليَّ أن أحترم من هم أكبر مني».
وأخيراً قال المعلم تشانغ تسونغ:«والآن، انظر وأخبرني إن كنت ترى لساني...» ثم فتح فمه بجهد واضح.
- نعم، أراه...
-«وهل ترى أسناني؟».
- لا، لم يبق منها شيء!
وسأل المعلم:«هل تعرف لماذا؟».
أجاب لاو تسي:«في تقديري أن اللسان بقي سليماً لأنه طري مرن، أما الأسنان فقد سقطت لأنها صلبة قاسية... أليس كذلك؟».
وقال المعلم كلمته الأخيرة: تلك هي خلاصة الحكمة في العالم.
وتفكر لاو تسي ملياً وقال:«لا شيء في العالم أطرى ولا أندى من الماء. ومع ذلك ليس في الوجود ما يفوقه في التغلب على الأجسام الصلبة. نعم، إن اللطيف يغلب الفظ القوي. كل إنسان يعرف ذلك، لكن قلة من الناس تعمل بهذه الحكمة».
ومن البسمة الآسرة والتحية الدافئة والمعاملة اللطيفة أينما توجهت، تدرك أن تلك الحكمة ما زالت مغروسة في النفوس أعمق من جذور الخيزران وأقوى من الماس.
الأرض الطيبة
كنت أتطلع إلى زيارة هذا البلد العريق منذ خمسين سنة، عندما قرأت (الأرض الطيبة) لبيرل باك، الروائية الأميركية الحائزة على جائزة نوبل للآداب. وفي تلك السن المبكرة، تعجبت كيف يشرب الصينيون منقوع الشاي بلا سكر! والرواية ترصد حياة الفلاحين في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين وتكشف مدى تعلق الإنسان بأرضه. فما دام يشعر بتربة الحقل تحت قدميه والمعول في يده، ومحصوله يباع في البلدة المجاورة، فإن ذلك أغلى من كنوز العالم. لكن حياة الفلاح تعاني من الجفاف حيناً، مثلما تعاني في أحيان أخرى من غزارة الأمطار وأخطار الفيضان. والأدهى من ذلك أن الأبناء، بعد أن اكتشفوا مباذل المدينة وملذاتها، أخذوا يتآمرون على والدهم طمعاً ببيع الأرض لينتقلوا إلى المدينة. وفي تلك المرحلة بدأ التحول الكبير في الصين، وخلال بضع سنوات كانت المسيرة العظمى التي قادها ماو تسي تونغ ورفقاؤه هرباً من قوات شان كاي تشيك، واستمرت نحو 370 يوماً، وبلغ عدد ضحاياها عشرات الألوف، لكن الدراسات تؤكد أنها كانت نقطة التحول التاريخي الحاسم في طريق بناء كوادر الثورة وانتصار الجمهورية.
منارة الإمارات
وأخيراً جاءت مفاجأة الرحلة كانهمار المطر بلا موعد ولا مقدمات. وفي قسم اللغة العربية بجامعة بكين أبديت إعجابي بما أنجزته الصين الشعبية في سنوات معدودات، فقال أحد الأساتذة: نعم، بلادنا نهضت ودخلت أولى مراحل الإصلاح والانفتاح، ولكنها لم تنجز كامل نهضتها المأمولة بعد، وإن كانت تسير في الطريق الصحيح بكل وعي وتصميم وثقة، بعيداً عن الارتجال والمغامرة والاستعجال. ويقول أستاذ آخر: عوامل النهضة متوافرة بأركانها الثلاثة: وهي القوة البشرية، والعمل الجماعي الدؤوب، والعقل المنفتح والمعتمد على العلم، ثم تأتي الإرادة الحرة الواعية لتكون الإطار والناظم الذي يضم هذه العناصر الثلاثة.
ولعل أجمل ما في تلك الجامعة أنها ما زالت تشهد بمآثر الشيخ زايد وأياديه البيضاء في تلك البلاد، بحروف عربية واضحة أمام كل زائر. وهناك لوحة تذكارية منقوشة بالعربية والصينية تبين ذلك، كما أن اللافتة التي تغطي قسماً كبيراً من جدار الواجهة تقول: مركز الإمارات للدراسات العربية والإسلامية.
وفي منطقة أضرحة (مينغ) الإمبراطورية الواقعة في الجنوب الشرقي من العاصمة، وهي تبعد عنها نحو خمسة وأربعين كيلومتراً، لم يكن ممكناً أن نقوم بزيارة جميع مدافن الأباطرة وهم ثلاثة عشر، وإلى جوارهم ثلاث وعشرون إمبراطورة، إضافة إلى محظية واحدة، حاولت أن أعرف عنها شيئاً فلم يسمح لي ضيق الوقت بذلك. وكان علينا أن نكتفي بزيارة ضريح «جو دي» والنصب التذكاري الفخم. وفي عهد هذا الإمبراطور سادت الصين البحار، يوم قام القبطان المسلم «جينغ خيه» بسبع رحلات قطع خلالها المحيط الهندي متنقلاً بين موانئ الهند، متقدماً إلى سواحل بحر العرب، مواصلاً طريقه غرباً حتى تجاوز كينيا وبلغ سواحل تنزانيا، وذلك قبل الاكتشافات البحرية الأوروبية بنحو ثمانين سنة. وهذا يؤكد أن بحارة الصين الأوائل هم الذين اكتشفوا العالم الجديد في أميركا وأستراليا، قبل رحلات ماجيلان وفاسكو دي غاما وكولومبوس وكوك. وهذا ما يؤكده جافين منزيس في كتابه: 1421 السنة التي اكتشفت فيها الصين العالم.
أضرحة وأشباح
سلالة المينغ، صاحبة هذه القبور الإمبراطورية، هي التي قضت على سلالة المغول (يوان). ومن أشهر أباطرة المغول كبلاي خان، حفيد جنكيز خان، الذي تغنى به الشاعر الرومانسي الإنجليزي كوليردج في قصيدة (جاءته في الحلم أو بتأثير الأفيون) وتعد من أجمل قصائده، وإن لم تكتمل، لأن أحدهم أيقظه قبل أن يستكمل الحلم. وقد جرت العادة منذ سلالة جو، قبل ثلاثة آلاف سنة، أن تبنى القبور الإمبراطورية على رابية مرتفعة وفي أبهى حالة، لأن الأسلاف الراحلين ينبغي أن يتمتعوا في الدار الآخرة بحياة مترفة. وأشباحهم قد تكون خطرة على الأحياء، لذلك يجعلون سبيل تنقلها عسيراً متعرجاً، وهو محاط بالجبال والأنهار لأنهما حاجزان طبيعيان يحولان دون تقدم الأشباح الشريرة التي تسير عادة بخط مستقيم، كما تقول الأسطورة.
اختار «جو دي» الموقع محاطاً بالجبال من ثلاث جهات، بينما بقيت الجهة الرابعة منفتحة من الجنوب على سهل بكين، حيث يقع مدخل المقبرة والنصب الرخامي الأبيض الجميل ببواباته الخمس الذي يقود إليها عبر طريق رئيسي يعتبر مقدساً. ويعد هذا النصب التذكاري أضخم أثر عمراني من نوعه في الصين. وقد استمر العمل في بناء هذه المدافن الإمبراطورية المنتشرة على مساحات واسعة نحو 200 سنة، مما يوحي بالأهمية البالغة التي يوليها الصينيون لموتاهم وللحياة في العالم الآخر. وخلال جولتنا التي استمرت نحو ساعتين كنت أحاول أن أستنطق رخام الأعمدة وحجارة الجدران وأخشاب السقوف، وألتمس النجوى مع الأرواح الهائمة وراء التماثيل والسلالم والزخارف المتقنة والممرات المرصوفة، لعلها تخبرني شيئاً عن الرجال الذين قاموا ببنائها وإتقانها. كنت أشعر بأنفاسهم وخفقات قلوبهم وخدوش أيديهم ما تزال تتردد أصداؤها في الأجواء والساحات وبين الأشجار، ولم تكن سيرة الإمبراطور الذي اختار ذلك المكان تشغلني ما دامت عظامه المتناثرة في قرارة المثوى قد تحولت إلى رماد. إن أجمل ما توحي به تلك المعالم والصروح الأثرية، بكل ما في خزائنها من مخطوطات وما يزين جدرانها من لوحات وما يتصدرها من تماثيل، هو أن الثقافة بتجلياتها الفنية والأدبية والعمرانية هي وحدها الباقية ماثلة أمام الأجيال، حية مشرقة في ذاكرة التاريخ، وكتاباً مفتوحاً لكل من يحب التزود بالمعرفة وتستهويه القراءة والتأمل والمتابعة.
سور وأساطير
زيارة السور العظيم كانت مسألة مختلفة بأكثر من معنى، لا لأنه يعتبر إحدى عجائب الدنيا السبع، ولا لأن أعمال الترميم والإصلاح والتحصين استمرت فيه نحو ألفي سنة، وإنما هو صرح عالمي هائل ورمز عمراني كبير للجهود البشرية المذهلة التي باشرت بإقامته منذ القرن السابع قبل الميلاد، وبالعمل اليدوي المضني. بدأ البناء فيه متقطعاً، كل دويلة من دويلات الشمال المتصارعة تبني سورها الدفاعي الخاص بها. وبعد بضع مئات من السنين، قاموا بوصل مراحل البنيان المنفصلة، واستكمل السور امتداده سنة 221 قبل الميلاد في عهد الإمبراطور (تشين شي هوانغ) الذي استطاع توحيد البلاد في ذلك التاريخ المبكر. وتقول المراجع، إن أكثر العاملين كانوا من الجنود، كما كان للمحكومين بالأشغال الشاقة دورهم في جميع مراحل البناء. وهناك أرقام خيالية تشير إلى أن العدد وصل، في بعض السنين، إلى مليون و800 ألف عامل، إضافة إلى 300 ألف جندي. كان السور يمتد عشرة آلاف لي بالمقياس الصيني، أي ما يعادل خمسة آلاف كيلو متر. والوثائق التاريخية اليوم تشير إلى أن طوله يبلغ نحو سبعة آلاف كيلو متر، بينما تكتفي بعض المراجع الغربية بستة آلاف.
جاء مسار السور متعرجاً دون قصد، وكأنه تنين أسطوري هائل، لأن اتجاه القمم والحواف المسننة العليا من الجبال التي أقيم عليها هي التي تحكمت بانعطافاته المتعددة والتواءاته الحادة، ليشكل خطاً دفاعياً حصيناً لا مثيل له في التاريخ، وقد كان قادراً على صد الغزوات الهمجية القادمة من قبائل الشمال. ويذكر المؤرخون أن الحالات القليلة التي جرى فيها اختراق السور واجتيازه من أحد المعابر الحصينة لم يكن ذلك بسبب ضعف أو خلل في بنيانه، إنما بسبب ضعف الحكومة وعجزها أمام القوة المهاجمة.
وتشير الوثائق المعاصرة إلى أن كثيراً من مقاطع السور تهدمت، والمقاطع الباقية على حالها تعود إلى عهد المينغ، ولا يزيد مجموع طولها على ألفي كيلو متر، وهي متاحة للزيارة والتأمل، ومعظمها يقع على مسافات تتراوح بين 50-130 كيلو متراً إلى الشمال والشمال الغربي من بكين.
قاعدة السور في الغالب تتراوح بين ثمانية أمتار في بعض المناطق وستة أمتار ونصف المتر في مناطق أخرى، وأعلاه يضيق عن ذلك قليلاً لأن الجدران مائلة لتنسجم مع ميلان أعراف الجبال التي بنيت فوقها. ويتراوح ارتفاعه بين ثمانية أمتار وأربعة عشر متراً. وسطح السور طريق معبد يتسع لخمسة أحصنة تعدو جنباً إلى جنب، أو عشرة رجال تسير معاً كتفاً إلى كتف. وبعد كل بضع مئات من الأمتار، يرتفع برج للحراسة والمراقبة أو للمشاعل التي توقد النار أو تنشر الدخان للإنذار والإعلام، وفق نظام محدد كان قادراً على نقل الخبر مسافة خمسمئة كيلو متر خلال ساعة.
هناك حكايات وأساطير شتى تدور وتروى متعلقة بمناطق معينة من ذلك السور العظيم. فهذا القسم مقترن باسم قائد عسكري كبير، وتلك القلعة الشامخة منوطة باسم إمبراطور، وذلك المعبر الاستراتيجي أنجزه إمبراطور من سلالة أخرى، وفي تلك الزاوية أقام كاهن ما كوخه مكرساً نفسه للتأمل والعبادة... وهكذا تعجز الذاكرة عن استيعاب الأسماء والتواريخ والأحداث. لكن إشارة صغيرة أو كلمة عابرة تخطف انتباهك فلا تقوى على تجاوزها أو إغفالها، فتصغي إلى الحكاية بملايين الخلايا المتفتحة:
في جوار أحد الأبراج كانت الظباء ترتع بأمان. وفي وسط سقف البرج تجويف يشبه الصندوق، يقال إنه كان مأوى لإحدى الظباء التي وقعت بحب راع فتجسدت له في هيئة عروس سحرية واقترنت به! والزائر الغريب يتملى جمال العمارة وآثارها الباقية في جدران السور وأبراجه ومعابره، وتسكنه فكرة لا يقوى لها دفعاً: إن صرحاً عظيماً كهذا لا يمكن أن يكون وراء إنجازه إلا الحب، الحب الذي يتسامى حتى يبلغ أصفى درجات العشق الصوفي: بدءاً من عشق المرأة حتى الالتحام بتراب الوطن والذوبان في روح الطبيعة/الأم، روح الكون.
ورغم التعب الجسدي الشديد الذي يذكرك بالأيدي التي أبدعت في بناء السور، حين تنطلق بك الحافلة عائدة إلى أحضان العاصمة، تتلمس مشاعرك وأفكارك فترى أنها معطرة بأنداء تلك الجبال وترى نفسك مغسولة من الأعماق... ولا تملك إلا أن تعيش حالة شعرية غامرة، فتحاول أن تستعيد صوراً من القصائد والأغاني التي احتفى بها تاريخ السور وترددت عبر أرجائه، وكأن أولئك الشعراء والكهنة الذين اعتكفوا في زوايا تلك الجبال قد نقلوا إليك قبساً من تجاربهم الصوفية المشرقة، وكأن أنفاسهم ما تزال كامنة في نضرة الشجر وأنسام الذرى وهمسات الأنهار والوديان.
حكايات مؤثرة
يخترق السور العظيم أكثر من معبر حصين، أشبه ما يكون بالقلعة. جيايوغوان واحد من تلك المعابر الصخرية المنيعة. لكن دموع امرأة أدت إلى تدمير قسم منه! كانوا قد أخذوا زوجها للعمل في السور وانقطعت أخباره عنها سنوات، وهذا ما دفعها للبحث عنه حتى وصلت إلى موقع العمل فقالوا لها: إنه مات! صعقت بالخبر الفاجع وانفجرت في نوبة بكاء حتى تصدع قلبها وقضت حزناً عليه، وهذا ما أدى إلى انهيار شطر من السور. والحكاية تعني أن مئات الألوف من عامة الشعب كانوا مرغمين على العمل في بناء هذا الخط الدفاعي الكبير، وإن لم يعد له من قيمة دفاعية في هذا العصر.
لم تقتصر المآسي على البشر الذين عملوا هناك وضحوا بحياتهم، ولكن الطيور كذلك دفعت نصيبها من الفاجعة في ذلك المعبر. تقول الحكاية: كان هناك زوجان من السنونو بنيا عشهما داخل الحصن، وكانا يسعيان لالتقاط قوتهما طوال النهار ثم يأويان إليه قبل إغلاق الأبواب. وفي أحد أيام الشتاء القارسة، عادت الأنثى وتأخر الذكر. وحين عاد وجد الأبواب موصدة وكانت ليلة قاسية البرودة أدت إلى هلاكه. وفي الصباح، عندما اكتشفت رفيقته ما حدث دخلت عشها وراحت تنوح بأسى ولوعة حتى انفطر قلبها ولحقت به. وتقول الحكاية إن من ينقر على الجدار بحجر يتناهى إلى سمعه زقزقة أشبه ما تكون بالنواح. وتزداد الحكاية عمقاً وتأثيراً حين تخرج من إطارها الفني إلى مستوى الرمز، فالحديث عن الطيور وسائر الحيوانات يشير إلى آلاف الأسر المنكوبة وعشرات الألوف من العمال البسطاء الذين دفعوا حياتهم أثناء العمل الشاق في تلك الجبال الوعرة.
ولعل الماعز هو الحيوان الوحيد الذي احتفظت الحكاية بمآثره، وما زالت تتغنى به وتردد بتقدير بالغ ما فعله أثناء بناء إحدى المراحل الصعبة من السور. كان موقع صنع الآجر بعيداً والوصول إلى السور في أعالي الجبال عسيراً. ولاحظ أحد الرعاة في الجوار ما يكابده عمال النقل من مصاعب، فخطر له أن يحزم عدداً من قطع الآجر على ظهر الماعز ويسوقها نحو السور، فتسلقت الجبل بسهولة. تنبه العمال لذلك وراحوا يستنجدون بهذا الحيوان المقدام حتى ساعدهم بإنجاز عملهم بنجاح.
من نصوص الحكمة الصينية
- بإمكانك أن تهشم جسد كونفوشيوس، لكنك لا تستطيع أن تكسر إرادته.
- حين توجد الإرادة.. فلا بد من إيجاد الطريق.
- عظمة البحر تتجلى في أنه لا يرفض أي ماء ينصب فيه، والجبل عظيم في شموخه لأنه لا يرفض أي مقدار من الصخر أو التراب.
- الشجرة الكبيرة كانت بذرة صغيرة في يوم ما، والمبنى القائم من تسعة أدوار بدأ بكيس من التراب، ورحلة الألف ميل بدأت بالخطوة الأولى.
- إن أدهى الكوارث أن نتخلى عن الفضائل لصالح الشرور.
- السماء لا تغير مسار الفصول من أجل أي كائن، ولا ينبغي للملك الحكيم أن يخالف القوانين من أجل رجل أثير لديه.
- إياك أن تتخلى عن هدفك في منتصف الطريق: بالاستمرار يقطع السلك قطعة الخشب، وقطرات الماء تثقب الصخر.
- عظمة البحار والأنهار الكبيرة أنها تختار أشد الأماكن انخفاضاً.
الكاهن والإمبراطور
يروى أن الإمبراطور مينغ هوانغ من سلالة التانغ كان يحتفظ بـ 40 ألف محظية في جناح الحريم، من بينهن أربع زوجات وإمبراطورة. وتشير بعض الدراسات إلى أن هذا الانغماس العبثي المفرط في الملذات هو الذي جعل متوسط عمر الإمبراطور 41 سنة وحسب، في حين إن متوسط عمر الكاهن البوذي الذي يعيش زاهداً متقشفاً في أحضان الطبيعة 77 سنة.