الإثنين 25 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ولد الفكر الفرنسي.. الشقي

ولد الفكر الفرنسي.. الشقي
6 أكتوبر 2010 20:48
لفت جاك دريدا الأنظار إليه عام 1962 حيث نشر ترجمة لدراسة الفيلسوف الألماني هوسرل عن أصل الهندسة وقدم لهذه الدراسة القصيرة بمقدمة طويلة تتعدى المئة والخمسين صفحة، وحاز الكتاب على جائزة كافاييه. وقد حددت المقدمة المعالم الرئيسية لخط التفكير الذي اتبعه دريدا بعد ذلك في كل كتاباته. والمهم هو أن تحليل دريدا لفينومينولوجية هوسرل كان نقطة البدء لنقده للفلسفة الغربية. وهو نقد عمل على إبرازه وتطويره في ثلاثة من كتبه المهمة التي ظهرت كلها في عام واحد وهو عام 1967 وساعدت في توطيد شهرته. الكتاب الأول “الكلام والظاهرة” وهو عبارة عن دراسة نقدية لنظرية هورسل عن العلامات، وبالذات دور فكرتيّ الصوت والحضور في فلسفته الفينومينولوجية؛ وهو من الكتب القليلة التي يعالج فيها دريدا موضوعاً محورياً واحداً. اما الكتابان الآخران فهما: تحت عنوان “الكتابة والاختلاف” يعرض فيه أعمال عدد كبير من المفكرين المعاصرين واتجاهاتهم الفكرية. والكتاب الثاني بعنوان “الغراماتولوجيا” ويقصد بها علم الكتابة وكان هذا الكتاب من أشهر كتبه على الإطلاق، وفيه يعارض النظرة العامة السائدة عن علاقة الكلام بالكتابة التي تعطي الكلام أفضلية مطلقة على الكتابة. وكما قال جوناثان كللر: هذه الكتب الثلاثة التي ظهرت في عام واحد جعلت من دريدا شخصية أساسية في المناقشات النظرية التي سادت الحياة الفكرية الفرنسية في الستينات. بداية الظهور يعرض الدكتور احمد عبدالحليم عطية في كتاب “جاك دريدا والتفكيك” كيفية ظهور الحركة البنائية في الفكر الفرنسي في الخمسينات من القرن الماضي على أيدي عالم الأنثروبولوجيا الشهيركلود ليفي ستراوس، وملأت الفراغ الذي نشأ عن انحسار الفلسفة الوجودية وانصراف الكثير من المثقفين عنها. تقوم نظرية ستراوس في أساسها على أن هناك أبنية عقلية لا شعورية عامة تشترك فيها كل الثقافات الإنسانية رغم ما بينها من اختلاف وتباين، والوسيلة الوحيدة للكشف عن هذه الأبنية اللاشعورية وفهمها هي اللغة. نقلت أعمال دريدا، وسرت أفكاره في الكتابات العربية، منذ ثمانينيات القرن الماضي وربما قبلها، وازداد الاهتمام بها في التسعينيات لدى عدد كبير. لقد واكب المفكرون العرب الجدد فلسفة الاختلاف وتعددت أسماء من نقلوا كتاباته وكتبوا عنها، ومن عرفوا أفكاره وطبقوها، ومن استخدموا منهجه في التفكيك للتعامل مع النصوص العربية، ومن واصلوا تعميق استراتيجيته حتى البدايات الأولى للفكر العربي الإسلامي. فقرات عرضت فلسفة دريدا في الاختلاف ومنهجه في التفكيك، وتطبيقاته في قراءة النصوص في الفكر العربي المعاصر، في ثلاثة أقسام: الأول في الفلسفة، والثاني في النقد الأدبي، والثالث والأخير ملاحظات ختامية. يشرح هذا الكتاب ايضاً كيف إن فكر دريدا شأنه شأن كل فكر حي يجمع بالضرورة بين الكونية والخصوصية: كونية القيم العليا والأصول الكلية التي تفوق تنوع اللغات وتعدد الثقافات، وخصوصية المواقع الحضارية والرؤى الذاتية وخبرات التمرد والتجديد والأصالة والتقليد. وهو الفيلسوف الجامع لنقائض الأمجاد الحضارية التي سبق وعبّر عنها بقوله: إنه فيلسوف فرنسي جزائري يهودي يرجع اسمه الى العربية الجاهلية. فلقد انتقل بدريدا هنا من دائرة الحوار الأوروبية الى دائرة الحوار العربية. ولما كان الحوار يعني الأخذ والعطاء والنقد والتقويم والمراجعة، فلا محالة من وجود مساحة مرجعية مشتركة متوفرة باعتبارها تأخذ القديم والمستمر بين الخصوصيتين الحضاريتين العربية والعبرية يتأسس عليها الاتفاق والاختلاف. هناك جملة محظورات يحملها ويفرضها تراث وتاريخ الصراع بين هاتين الدائرتين، ومواقف جاك دريدا إزاء اقسى نموذج راهن لهذا الصراع المتمثل في التجني الإسرائيلي الثابت على حقوق الشعب الفلسطيني، مواقف ينبغي أن تحسب له من كل المواقع وبكل المعايير. الحافة الدينية عرضت خلاصة هذه القراءة على الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فال التي كانت نواتها الأولى محاضرة القاها محرر هذا الكتاب في جامعة القاهرة عام 1989 اعرب فال عن اعتراضه بقوله: إن دريدا فيلسوف ملحد، وإن مصدر أهميته يأتي من اتصاله بنيتشه، وفرويد وسوسور، وهوسرل، وهايدغر، وأدورنو، وروزنبرغ وغيرهم من المفكرين الأوروبيين اليهود والمسيحيين والمتدينين والملحدين. ثم عاد فال وفاجأه باتصال هاتفي يقول فيه: إن جاك دريدا قد تحول واصبح على حافة الديني. هنا ربما يقصد فرانسوا فال التحول اي من الثقافي الى الديني، لكن هذا المعنى يظل غامضاً كما يرى الدكتور عطية محرر هذا الكتاب، خاصة والثابت ان حضور وامتداد الخصوصية العبرانية لدى جاك دريدا منذ كتاباته التأسيسية الأولى. يروي ايضاً ان هناك تناقض في تحديد موقع دريدا على خريطة الفكر الفلسفي، فهو يحتل نقطة مركزية في الحوار الفكري العام ولا نقول الفلسفي في فرنسا فقط، في حين أنه يصر على الخروج على المركز والنفور إلى هامش المؤسسة الأكاديمية الغربية التي يتعرض لها النقد والتفكيك، ولعل أهم ما يميز دريدا في مرحلته الإبداعية هي تلك الحرية المرتبطة بموقعه الهامشي وجرأته التأويلية القصوى التي جعلت فيلسوفاً مثل هابرماس يصف منهجه التفكيكي بالخطابية، ويقصد بذلك أنه يطبق مناهج النقد الأدبي على نصوص تراث فلسفي منطقي لا تمثل الأغراض الأدبية شغله الشاغل. لكن دريدا في مرحلته الدفاعية، التي بدأت في الربع الأخير من القرن العشرين، تحوّل بدوره الى مؤسسة ذاتية تذود عن مركز فردي أو الى فرد مركزي يدافع عن تراث إبداعه الفكري وينكر كل من يحاور من منطق نقدي تلك الحرية التي استباحها لنفسه في النقد والتفكيك. فكيف يكتشف البعض في أعماله مواقف أيديولوجية وأحكاماً مسبقة وهو الذي يندد بالمواقف الأيديولوجية والأحكام المسبقة؟ كيف يكتشف البعض لديه بعداً قومياً يهودياً وهو الفيلسوف الذي يندد بالنزعات القومية في الفكر الغربي ويقول عن أنه فرنسي جزائري ويهودي غير يهودي؟ لقد تأثر دريدا بشكل غير مباشر بالإسلام أيضاً عبر تأثر الفقه اليهودي بالقرآن الكريم. إذ يذكر هابرماس استشهاد دريدا بما رواه ايمانويل ليفيناس عن رأي اليعازر الذي قال: لوكانت البحار مداداً ونباتها أقلاماً والأرض والسماء الواحاً كتبت بأيدي البشر أجمعين لما نفذت كلمات التوراة الظاهرة حرفياً التي اعرفها، ولما نقص من التوراة الباطنة حرفياً: في ذاتها، ما يعادل مقدار قدرة من ماء البحر على سن القلم، ويعلّق هابرماس على ذلك مؤكداً التحليل السابق لسوزان هاندل مان بقوله: دائماً ما القبالة... يعلون من قيمة الشروح والتفاسير التي يعيد بها كل جيل من الأجيال امتلاك كلمات الوحي. ذلك إن قول الحق لم يثبت ولم يتموضع مرة واحدة والى الأبد في عدد محدد من المقولات المحدودة لكن هذه الرؤية القبالية تغدو أكثر راديكالية لدى جاك دريدا لتبدو التوراة المكتوبة كترجمة إشكالية لكلام الله بلغة البشر. ولقد وصف علاقة دريدا المباشرة بالإسلام انها تبدو عاطفية ومختلطة، ووصف أيضاً تعلقه بفكرة أن روحه وجسده شأنهما شأن قراباته وارتباطاته ملتقيان لخطوط أسفاره التاريخ وذاكرته اللغوية والحضارية. لهذا وصفه المحرر بأنه يمثل بذلك اتجاهاً جديداً ومهماً داخل المدرسة البنائية. أصبح يطلق عليه اسم ما بعد البنائية كما أصبح هو نفسه يمثل الولد الشقي في الفكر الفرنسي المعاصر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©