الإثنين 5 مايو 2025 أبوظبي الإمارات 29 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما لهم كيف يحكمون.. ويجهلون ولا يحلمون؟

ما لهم كيف يحكمون.. ويجهلون ولا يحلمون؟
23 يوليو 2014 02:57
في اللغة العربية العظيمة باب واسع لا يكاد أحد يحيط به اسمه باب الألفاظ المنقولة، أي الكلمات التي انتقلت عبر الزمان من معناها الأصلي إلى معنى آخر طغى عليها واختفى تماماً أو كاد ذلك المعنى الأصلي للكلمة المنقولة، وهذه الكلمات المنقولة لا حصر لها، وهذه الظاهرة اللغوية التي ربما تنفرد بها لغتنا الجميلة تتطلب الحذر الشديد خصوصاً عند تدبر وتلاوة آيات القرآن الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة، لأن عدم التدبر والإلمام بهذا الباب الواسع جداً كثيراً ما يجعلنا نقع في الخلط ونحن نحاول أن نفهم المعاني في القرآن والسُنْة، وربما نبني أفكاراً ونظريات على أساس خاطئ فنكون من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. الجهل مثلاً ليس ضد العلم، ولكن المعنى منقول بالتداول وعبر العصور إلى ما يضاد العلم، الجهل هو الاندفاع والحمية والحماقة والتهور وهو أيضاً بمعنى الحرب والعدوان والغضب كما قال عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة: ألا لا يجهلن أحد علينا. . . فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقال الفرزدق: أحلامنا تزن الجبال رزانة. . . وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ. والأحلام هي العقول وفضيلة الحلم، أي أن الجهل ضد الحلم، وكان عمرو بن هشام يحمل لقب أبي الحكم، فأطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لقب أبي جهل، أي أن الجهل ضد الحكمة والروية والتؤدة والأناة وليس ضد العلم، لكن اللفظ انتقل بمعناه إلى ما يضاد العلم واستقر الأمر عندنا على ذلك، والعصر الذي سبق بعثة النبي صلى الله عليه وسلم يسمى العصر الجاهلي، ونحن نفهم أن ذلك الاسم ضد العلم، لكن العصر الجاهلي يعني عصر الاندفاع والغضب والحماقة والحروب. قس على ذلك كلمات كثيرة ابتعدت عن معانيها الأصلية لتكتسب معاني جديدة طغت عليها، مثل الكافر، فهو يعني الزارع أو المزارع الذي يغرس البذرة في الأرض ويغطيها بالثرى، أي يسترها ويخفيها، وانتقل اللفظ بمعناه إلى المعنى المضاد للإيمان، لأن غير المؤمن على عينيه وبصره غشاوة تحجب وتستر الإيمان وتخفيه، ويُقال إن الليل كافر أي يستر ويخفي الأشياء، وفي ريف مصر تسمى القرية (كفراً)، والكفر هو المزرعة بالمعنى القديم، وكذلك كلمة الفسوق والفسق، ويقال: فسقت الرطبة أي انفتحت وانشطرت وخرجت منها النواة عند النضج، فالفسوق هو الخروج عن المألوف وعن القيم وهو المجاهرة بالمعاصي، لكن المعنى تحول إلى ديني تماماً، والحنيف والأحنف هو المائل، وسمي الأحنف بن قيس هذا الاسم لأنه كان فيه حنف أي اعوجاج وميل في جسده وساقيه، لكن الحنف والحنيفية انتقلت إلى معنى ديني مغاير تماماً، فلم يعد الحنف والحنيفية ذماً بل صار مدحاً، فالحنيف هو المائل عن الباطل إلى الحق (ملة إبراهيم حنيفاً) والحنيفية كانت ملة إبراهيم عليه السلام، أي الميل نحو الحق والبعد عن الزيغ والباطل. الخطر الأكبر في الأمر هو أننا اخترعنـا معاني حديثة لألفاظ وكلمات عربية قديمة كان لها معنى مغاير تماماً، لذلك الذي نتداوله الآن وبمنتهى الغفلة التي تبلغ حد الحماقة نطبق المعنى الحديث المخترع للكلمات على القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، يعني نفهم ألفاظ القرآن ونفسرها طبقاً للمعنى المستحدث الذي اخترعناه ونتداوله بيننا الآن، أي نجعل ألفاظ وكلمات القرآن والسُنة تابعة لمفهومنا الحديث والدلالات التي اخترعناها للألفاظ، وعلى هذا الأساس نخترع نظريات وأفكاراً وننشئ تنظيمات متطرفة وإرهابية غبية على أساس سحب فهمنا الحديث لمعاني الكلمات على كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا تعجل عليّ، سوف انبئك بما لم تستطع عليه صبراً، فالذي لا يفهم لا يستطيع صبراً، وصلنا إلى لب الموضوع وجوهره، فإنني أعني هنا كلمة (الحكم)، كل المصائب والكوارث التي تحيط بنا الآن، كل الإرهاب الذي يضرب منطقتنا في مقتل، ناجم عن سحب المعنى المستحدث لكلمة (الحكم) على القرآن الكريم والسنة المشرفة، نحن نفهم الحكم على أنه السلطة والرئاسة، اخترعنا معنى سياسياً هوائياً لكلمة (الحكم)، وطبقناه على القرآن الكريم واخترعنا حكاية (الحاكمية) وكفرنا الناس على أساس فهمنا (الأبله لكلمة الحكم). لم يرد لفظ الحكم في القرآن الكريم إطلاقاً بمعنى الرئاسة والسياسة والخلافة والملك، ولكنه ورد بمعنى القضاء والفصل في المنازعات وإجراء المصالحات، (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)، لم يقل ربنا جل وعلا: (وإذا حكمتم الناس)، ولكنه قال: (وإذا حكمتم بين الناس)، والمعنى واضح تماماً وهو الفصل في المنازعات، وفي سورة المائدة وردت ثلاث آيات حول الحكم وتلك الآيات الثلاث بالتحديد هي التي سحب عليها الإرهابيون المعنى السياسي الحديث لكلمة (الحكم)، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزله الله فأولئك هم الكافرون، ومن هذا المنطلق حكم الإرهابيون على الناس وخصوصاً أولي الأمر بالفسوق والظلم والكفر. والحق الذي أراه أن الآيات موجهة إلى المجتمع كله، وليس لولي الأمر وحده، موجهة لليهود والنصارى والمسلمين كمجتمع لا كقادة أو رؤساء أو أولي أمر، كل واحد فينا لابد أن يحكم بما أنزل الله، وليس بالضرورة أن يكون رئيساً أو قائداً أو سلطاناً أو ملكاً، يعني الحكم بما أنزل الله ليس معلقاً على شرط وصولي إلى الرئاسة أو الزعامة أو الخلافة (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)، بل لا علاقة على الإطلاق بين المعنى الوارد في القرآن الكريم لكلمة (الحكم)، وذلك المعنى السياسي السلطوي الذي نريد أن نطبقه على النص القرآني بمنتهى الحماقة والجهل. والذي يدعو إليه القرآن هو الحكم بين الناس وليس حكم الناس، فالمقصود هو الحَكَم وليس الحاكم (فابعثوا حَكَماً من أهله وحَكَماً من أهلها)، الحكم والفصل في نزاع الزوجين، وحكم المباراة يحكم بين اللاعبين بقواعد اللعبة ولا يحكم اللاعبين أنفسهم، والحكم بين الناس بالعدل وبما أنزل الله لا يعني مثلاً تطبيق الحدود الشرعية وحدها، بل ربما يكون العدل في تعطيل الحدود الشرعية باعتبار أن أعوامنا كلها أعوام رمادة، كما أن الشهود العدول لا وجود لهم في زماننا هذا، والخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، وأن تعفو عن سارق لم يثبت الدليل القاطع إدانته خير من أن تقطع يد شخص أتُهم ظلماً بالسرقة. الخلاصة أن المفهوم السياسي والسلطوي للحكم لا وجود له في القرآن الكريم، ولكن الحكم في القرآن يعني القضاء والفصل في الخصومات، وأن يحكم المرء بما أنزل الله في بيته وعمله وسلوكه وفي سره وعلانيته وأن يأمر نفسه بالبر أولاً ولا يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، الحكم في القرآن دعوة إلى المجتمع كله، إلى الراعي والرعية إلى كل فرد في ذاته وحياته، فما لكم كيف تحكمون؟ وتقرأون ولا تعلمون؟ وتجهلون ولا تحلمون؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض