وليد فاروق (دبي)
خفتت «طاقة» النور التي كانت تشع متعة رياضية على المشاهد العربي، المتطلع لمتابعة رياضته المفضلة، بل واقتربت تلك الطاقة من «الأفول» تماماً، واقترب الواقع من حالة «الإظلام» التام، ليتحول عصر الإبهار والتقدم، إلى ليل دامس، عكس الأزمنة السابقة التي ورغم محدودية إمكاناتها في زمن الهواة، فإنها كانت تشع ضياءً وتثقيفاً رياضياً، والسبب في كل ذلك هو «الاحتكار» الذي أجهز على معظم البطولات الرياضية في العالم، وحرم الكثير من المشجعين -خاصة في منطقتنا العربية – من متعة متابعة البطولات العالمية الكروية والرياضية إلا بعد أن يدفعوا «جزية» مالية كبيرة، قد تفوق غالباً قدرات المشجع البسيط، ليصبح الأمر جلياً بعدما توجه «الشبح» إلى دورات الألعاب الأولمبية وأحكم قبضته عليها أيضاً.
وستكون دورة الألعاب الأولمبية المقبلة في طوكيو 2020، والتي ستشهد 321 منافسة، أولى الدورات التي يتم احتكار منافساتها على المشاهد العربي، وسيتبعها المزيد من الأحداث الكبرى والدورات، وسيحرم الملايين من الأطفال العرب من متابعة أبطال بلدانهم الذين يشاركون في منافسات «الدورة»، والذين يمثلون لهم قدوة قد تحفزهم على المضي قدماً نحو ممارسة هذه الرياضة، إلا إذا دفعوا المقابل، وهو ما يجعلهم عرضة للاتجاه نحو الجانب الآخر الموحل، بعيداً عن كرة القدم ومنافسات الأولمبياد.. فماذا سيفعل النشء الصغير؟!
مع كل هذه الظروف تحول البث الفضائي من رسم الآمال وتشجيع الصغار، إلى قتل الطموح وتحجيم الرغبات لدى الأطفال في ممارسة أو الاستمتاع بمشاهدة لعبتهم المفضلة، وبات المشاهد العربي سجيناً في بيته لا يستطيع متابعة الدورات الأولمبية أو كل الأحداث الرياضية، إلا بالدفع وتحمل أعباء إضافية فوق طاقته.
ويدين الكثير من أبطالنا العرب الأولمبيين الحاليين لـ «شاشات التلفزيون»، باعتبارها قد حفزتهم على ممارسة الرياضة في صغرهم، ونقلت إليهم في بيوتهم متعة الرياضة التي تعلقوا بها، وشاهدوا بأعينهم الأبطال الكبار القدامى الذين كانوا يمثلون بالنسبة لهم «قدوة»، لتزداد أحلامهم في أن يصبحوا في يوم من الأيام في نفس مكانتهم، لقد لعبت شاشات التلفزيون دوراً كبيراً في توجيه قدرات الكثير من أبناء المنطقة ليصبحوا أبطالاً، وحفزتهم على ممارسة رياضات كان للعرب فيها صولات وجولات في الأولمبياد، مثل الرماية والجودو وألعاب القوى والسباحة والتايكواندو وغيرها، وحققوا فيها نتائج باهرة، وخرجت أجيال كثيرة تدين بالفضل لهؤلاء النجوم «القدوة» في ممارستهم لهذه اللعبات، بعد كل هذا سيحرم النشء الصاعد من متابعة نجومهم المفضلين، ومن مشاهدة الرياضة التي يحبونها، ففي وسط هموم ومتاعب الأسر العربية حالياً، سيكون نوعاً من الرفاهية تحمل المزيد من الأعباء المالية، تحت بند الاشتراك في القنوات المشفرة المحتكرة لمشاهدة رياضات أولمبية في أحداث ودورات لا تتكرر إلا كل 4 ?سنوات.. يا لها من مأساة أن تحرم 100 مليون طفل عربي من حلم البطولة ومتعة المشاهدة، لتتحمل اللجنة الأولمبية بقيادة الألماني توماس باخ المسؤولية!
ويبقى السؤال: من منا، لاعبين وممارسين، لم يتمن أن يقف موقف الشيخ أحمد بن حشر أو هشام القروج ونور الدين مرسلي ونوال المتوكل وغادة شعاع وكرم جابر وأخيراً أحمد أبوغوش، وغيرهم، ليزهو شامخاً على منصة تتويج الألعاب الأولمبية، فيهتز قلبه وتدمع عيناه وهو يسمع السلام الوطني لبلده، ويجعل من وطنه حديث العالم، ليكون سفيراً فوق العادة فكام من لاعب حقق لبلاده في لحظات ما لم يحققه سياسيون في سنوات، وهو ما يؤكد حقيقة واضحة أن الرياضة ليست سلعة، وهي حق للجميع ممارسة ومتابعة.
ورغم أن الميثاق الأولمبي الوارد في المبادئ الأساسية للجنة الأولمبية الدولية، ينص في بنده الثالث على أن هدف الفكر الأولمبي إلى إيجاد «التربة الرياضية» التي تخدم التطور البشرى، بطريقة متناسقة مع تشجيع مجتمع آمن للمحافظة على كرامة الإنسان، فإن اللجنة الأولمبية الدولية خالفت هذا البند، فهي غير حريصة على إيجاد هذه التربة الرياضية وحرمتها من «ريها» من خلال تقليل مساحة انتشار الألعاب الأولمبية، وتنازلت عن المبدأ الذي ترفعه وهو «تحقيق مبدأ الرياضة في خدمة الإنسانية وذلك بالتنسيق مع الهيئات المعنية العامة والخاصة والسلطات المختلفة»، كما أن التعريف الأساسي حينما تفتح الموقع الإلكتروني للجنة الأولمبية يصفها بأنها مؤسسة غير ربحية مستقلة دولية، تقوم على العمل التطوعي، حيث تحولت في السنوات الأخيرة إلى «طامعة» إلى حصد المزيد من الأرباح بصورة تهدم تنافسية الرياضة والغاية من نشرها حول العالم، بدليل أنها لا تعلن بشفافية عن القيم المالية التي تحصل عليها نتيجة بيع حقوق بث الدورات الأولمبية «الصيفية والشتوية» في العالم أجمع.
في الوقت الذي تصف فيه اللجنة الأولمبية أن غايتها من الحصول على عائدات البث التلفزيوني، هي إعادة صرف هذه المبالغ على الرياضيين والنشاطات بمعدل 3.25 مليون دولار أميركي يومياً، بحسب البرامج التي نسمع عنها كثيراً دون نتائج واضحة على أرض الواقع، وكشفت أن نحو 47% من ميزانيتها يتحقق من هذه العائدات، فإن نعذر اللجنة على نحو معين، لكن ما يحصل حالياً منذ تولي الألماني توماس باخ رئاسة اللجنة، أمر غير منطقي على صعيد زيادة القيمة المتحققة من العائدات وتحويل الأمر إلى حالة تنافسية شديدة، وتشجيع مبدأ الاحتكار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على عكس بقية دول العالم التي يتم بيع البث فيها بصور منفصلة لكل دولة.
وأعمى الطمع بصيرة اللجنة، حيث بات كل همها العمل على الكسب وتحقيق موارد ضخمة، على حساب الأطفال العرب الذين هم أحوج إلى مشاهدة الرياضة لمنحهم الأمل عوضاً عن متابعة أخبار الحروب والقتل والتطرف عبر الشاشات المفتوحة، علماً أن مصادر أجنبية كشفت أن قيمة المبلغ المالي الذي حصلت عليه اللجنة الأولمبية مقابل احتكار وتشفير البث للألعاب الصيفية 2020 و2024 والألعاب الشتوية 2018 و2022، يبلغ 250 مليون دولار أميركي، نحو 912 مليون درهم إماراتي.
وتدافع اللجنة الأولمبية عن نفسها بادعاء أن 90% من ثمرة عائدات حقوق البث، توزع على المنظمات المشاركة لدعم تنظيم الألعاب الأولمبية وتعزيز التنمية العالمية للرياضة، مشيرة إلى أنه ووفقاً لما نص عليه الميثاق الأولمبي، تضطلع اللجنة بمسؤولية ضمان الاحتفال الدوري بالألعاب الأولمبية، حيث تقدّم مساهمات مالية كبيرة للجان المنظمة، وهذا التمويل هو جوهر نجاح الألعاب الأولمبية.
فعلى سبيل المثال، تقدر مساهمات اللجنة في الألعاب الأولمبية في باريس 2024 بمبلغ 1.7 مليار دولار أميركي، وقبلها التزمت اللجنة الأولمبية بدفع مبلغ 1.5 مليار دولار للجنة البرازيلية المنظمة لأولمبياد ريو دي جانيرو 2016.
ووقعت اللجنة الأولمبية في 2014 عقداً مع شبكة «إن بي سي» التلفزيونية الأميركية لبيع الحقوق التلفزيونية للدورات الأولمبية، خلال الفترة ما بين عامي 2022 و2032 مقابل 7 مليارات و750 مليون دولار.
وتحتفظ اللجنة بنسبة 10% من الإيرادات لأغراض تنمية هذه الموارد والبرامج وإدارتها، وتوزع منها القيمة السابق ذكرها وهي حوالي 3.25 مليون دولار يومياً على الرياضيين والمنظمات الرياضية على اختلاف مستوياتها وفي شتى أنحاء العالم، وعلى هذا الأساس، فإنه من المنتظر أن يبلغ إجمالي ما توزعه اللجنة سنوياً ما يعادل ملياراً و186 مليون دولار.
اقرأ أيضاً.. 14 ورقة لا تكفي لرسم الحلم العربي
عرض اتحاد الإذاعات العربية فاق ما قدمته «المحتكرة»