أحمد النجار (دبي)
«الموضة» في مختلف مجتمعات العالم، تتعرض للاتهام بأنها العدو اللدود للتراث غير المادي كالأزياء الشعبية، فهي التي تحطم وعاء الهوية والتقاليد والأصالة، وكان لها يد طولى في طمس الملامح والعبث بالخطوط القديمة، وكانت سبباً باندثار لباس الآباء والأجداد وتحويله إلى قطع منسية على رفوف المتاحف، فهل استطاعت الموضة تشويه أو تغيير خطوط «الكندورة» الرجالية أو طمس تفاصيل وتطريزات «العباية» في الإمارات؟.
أكد الباحثون في التراث أن الموضة ومتغيرات العصر ومفاهيم الحداثة، أسهمت بشكل واضح في إحداث تبدلات ملموسة على جوهر الزي التراثي المحلي لوناً وتفصيلاً وتطريزاً، سواء الكندورة التي تغيرت في الألوان والقصات والجيوب، أو العباية التي بدأت تحاكي شكل الفستان، مع احتفاظها ببعض التفاصيل التقليدية، ويعتقد الباحثون بأن غياب القوانين الواضحة في المحافظة على قواعد إنتاج وتصميم الزي الشعبي ستؤدي بالضرورة إلى تراجع الزيّ المحلي تدريجياً، لا سيما مع اندفاع الناس للتغيير ومسايرة الموضة بكل نفحات الأناقة.
«الاتحاد» تضع الزي الشعبي خاصة «العباية» و«الكندورة»، تحت المجهر لقراءة تبدلاتهما بين الماضي والحاضر، ورصد المخاوف للخروج بحلول تستعيد خصوصيتهما، بهدف إحياء الهوية والأصالة والجوهر التقليدي للزي الشعبي.
العباية في الماضي
بالنسبة للعباية، نعود بالذاكرة إلى الوراء، لاستقصاء شكل العباية في الماضي قبل 3 عقود، حيث أفادتنا بهذا الخصوص، المصممة الإماراتية عائشة المعمري، التي أوضحت أن العباية في الماضي كانت تلبس على الرأس، ولها لون واحد فقط هو اللون الأسود، ولا يدخل عليها أي مواد خام، أو لون، ولها نوع قماش واحد، أما في الحاضر، فقد تغيرت العباية بشكل ملحوظ وصارت تُلبس على الكتف، وتطعم بالتطريز والشغل اليدوي، وتدخل عليها جميع الألوان، ثم تطورت أكثر، وباتت بألوان مختلفة غير اللون المتعارف عليه وهو «الأسود».
مسايرة الموضة
ولفتت المعمري إلى أن خياطة العباية اليوم شهدت قصات مختلفة لكي تتلاءم مع خطوط الموضة، مثل العباية المفتوحة من الأمام للمناسبات، بعكس العباية العملية المشغولة بتصاميم بسيطة تناسب الحركة والعمل، فلكل موسم له قماش خاص، وذكرت عائشة أن عبايات السفر تكون ملونة وقصيرة نوعا ما. مشيرة إلى أن العباية تساير الموضة، من دون أن تنفي وجود مصممين لهم بصمات حداثية ساهمت في تشويه شكلها وهويتها، وعلى النقيض هناك مصممات إماراتيات يحرصن على انتقاء تصاميم وخطوط تنسجم مع العادات والتقاليد والتمسك بالعباية المحتشمة.
وأضافت المعمري: «أنا كمصممة، أتابع الموضة بشكل مستمر، وأستوحي تصاميمي بأفكار مناسبة تكون فضفاضة ومقاربة للعباية باحتشامها، ويغلب عليها اللون الأسود. ولا تشكك في أن العباية الإماراتية وصلت للعالمية وغزت بيوت الموضة ومنصات العرض برونقها وأناقتها واحتشامها، فقد وجدت العباية إقبالاً لافتاً من قبل المرأة الغربية التي باتت تقبل على ارتدائها وتفتخر بارتدائها في مناسبات مرموقة وعلى سجادات حمراء.
إلى العالمية
وتأكيداً على أهمية العباية في محافل الموضة ومعارض الأزياء العالمية، قالت المصممة لمياء منهل، إن العباية الإماراتية، أصبحت منتجاً مطلوباً لكبرى دور الأزياء والمصممين، وهو بالفعل ما لمسته خلال مشاركتها في عرض أزياء أقيم مؤخراً، في فندق ريتز كارلتون بباريس بعنوان «نساء الأندلس»، وأضافت لمياء أن العباية تغيرت من عباية تقليدية خليجية إلى عباية عالمية، بفضل الحداثة والتطورات التي قدمتها المصممات الإماراتيات للعباية، وأصبح لها دور كبير في باريس ولندن ودول أوروبا والبلدان العربية مثل المغرب ومصر.
شغف التغيير
شغف الناس للتغيير يدفعهم دائماً إلى الانسياق وراء الموضة، وهذا ما يفسر التبدلات التي طرأت على الزي الشعبي الإماراتي سواء العباية أو الكندورة، وتعليقاً على ذلك، قالت لطيفة فوز اختصاصية المظهر، إن الزي الشعبي أو التراثي هو جزء لا ينفصل من هوية وتقاليد كل بلد، فمن الطبيعي أن يستمر تواجده وتطوره مع تطور حضارات الشعوب. كما أن الموضة تتجدد وتعود باستمرار لتأخذ من خطوط «الستايلات» القديمة وتجددها بطريقة تتناسب مع حياتنا العصرية. لذلك تعود الأزياء الشعبية وخاصة النسائية منها لتظهر من جديد لكن مع إضافة بعض التفاصيل العصرية في التصميم والأكسسوارات والتنسيق في الألوان والقطع.
مرونة وجمود
ولفتت فوز إلى أن القماش له تأثير واضح على الحالة النفسية والمزاجية، لهذا السبب فقد مرت الكندورة والعباية بمراحل وتغيرات في شكلها وقصاتها، لكن من دون أن يؤثر ذلك في قيمتها ومكانتها كزي تراثي أصيل، ففي حين ظلت الكندورة جامدة، من دون تغييرات في قصاتها وخطوطها، فإن العباية تغيرت أشكالها وقصاتها مع الموضة، موضحة أن العباية هي اللباس التقليدي والأساسي للمرأة العربية بشكل عام والمرأة الخليجية بشكل خاص، وهناك ابتكارات رائعة تمثل الفخامة والأناقة من خلال تطريزات ونقشات مبتكرة، وأنواع أقمشة متنوعة منها الحرير اللامع وغيرها، كما أن هناك ألواناً جديدة دخلت عالم العبايات كالبيج والزهري الفاتح والرمادي، مما جعل العباية قطعة رائجة وعصرية تناسب مختلف أذواق النساء والأعمار.
العودة للقديم
ومع توجهات دور الأزياء العالمية العديدة مثل دولتشي آند غابانا وغيرها، بالإضافة إلى المصممات المحليات، لمسنا نتاجات وتصاميم لافتة من العبايات، فتألقت السيدات بإطلالات مميزة في العبايات بمختلف قصاتها الرسمية والكاجوال. أما بخصوص الكندورة، فقالت فوز إن التغيير فيها محدود، فقد حافظت على قصاتها، ومعظم التجديد كان بدخول ألوان جديدة مثل النيلي والعسلي الغامق. وفسرت لطيفة سرّ عودة الناس إلى خطوط وقصات الموضة القديمة لارتباطهم بالتراث كونه جزءاً أساسياً من ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، كما أن تراثنا العربي وأزياءنا العربية غنية بأنواع أقمشة مميزة وتفاصيل جميلة وأكسسوارات رائعة، توحي لنا بأفكار وموديلات جديدة تساعدنا على الاقتباس منها وتنسيقها بشكل عصري ومع قطع حديثة تمثل شخصية المرأة العربية العصرية والواثقة بنفسها.
تعديلات جريئة
مع التطور الطفيف الذي شهدته الكندورة، فإن المواطن الإماراتي لا يقبل تعديلات جريئة عليها، كما أنه يستهجن خطوط الموضة سواء بألوان فاقعة أو بجيوب كثيرة أو بنوعية قماشها الغريب. وفي هذا الخصوص، قال الدكتور عبدالعزيز المسلم مدير معهد الشارقة للتراث، إن حياكة الكندورة في السبعينيات كانت تمر على مجموعة نسوة مختصات في قصاتها وتفصيلها، بدءاً من الفروخة إلى يد الخياطة ثم مرحلة التطريز والتلي التي يتم تركيبها على الكندورة، مشيراً إلى أن الكندورة الرجالية كانت تعتمد على نوع قماش واحد هو القطن الخالص الذي كان يتم استيراده من بلاد الهند، ثم تغير القماش في مرحلة السبعينيات وبدأ الرجل يقبل بالقماش المخلوط بأنواع الكتان والبلوستر وغيره، وكانت الألوان محدودة تقتصر على الأبيض والحلبي الذي يرتديه الحضر وأهل الساحل، أما البدو وأهل الجبال فكانوا يميلون إلى صباغة القماش الأبيض بالورد وورق الرمان.
الكندورة في خطر
المسلم الذي كانت رسالته للدكتوراه عن الأزياء الشعبية والزينة في الإمارات والخليج العربي، قال إن الكندورة الإماراتية بخطوطها القديمة أصبحت في خطر، وأخشى أن تصبح جزءاً من الماضي، فقد بدأت تفقد هويتها وشكلها التراثي، فعلى سبيل المثال، تم دمج لونين فيها، واستبدلت الأزرار إلى شريط أو «سحّاب»، وكانت تقتصر على جيب واحد ثم أصبحت متعددة الجيوب، ودخل فيها القماش المطاط الذي شوهها كزي شعبي، وطمس رونقها التقليدي، كما أن بعض المصممين يطبع عليها حروفاً ورموزاً وملصقات لماركات عالمية.
حماية الزي الشعبي
واعتبر المسلم أن الحل الوحيد لحماية الزي الشعبي من التشويه، يكمن في إصدار قوانين خاصة تسري على مجتمع المصممين والخياطين سواء المحليين أو من الجنسيات الأخرى، لكي يتم الحفاظ على الأطر العامة للتراث الثقافي غير المادي مثل هوية الأزياء، وعدم إدخال أشكال وألوان وقصات، لا تتناغم مع جوهر الكندورة وشكلها التقليدي الأصيل. وتعليقاً على العباية، وما طالها من طفرات في الشكل والقصات والألوان، قال المسلم إن العباية التقليدية القديمة، سرقتها الموضة من هويتها الحقيقية، في ظل غياب الرقابة على خطوط تصنيعها وإنتاجها، كما أن بعض المصانع ومشاغل الخياطة باتت تتاجر بالعباية من خلال تطعيمها بعلامات وماركات عالمية لمصممين مشاهير، وبأسعار خيالية.
زي ثابت
نفى محمد عرفان (خياط باكستاني)، الذي يمتلك محل خياطة منذ أكثر من 14 عاماً، أن يكون هناك تفصيلات غير مقبولة، فهو يصمم «الكنادير» وفقاً لطلب الزبائن، ويصف غالبية زبائنه بأنهم مواطنون يحرصون على ارتداء «كنادير» ملتزمة بالزي القديم والثابت وبنفحات موضة مقبولة، ويرى عرفان، أن الكندورة لا تحتمل الكثير من العبث في قصاتها أو تعديل شكلها، وإلا تحولت إلى زيّ آخر. معتبراً أن نوعية القصات تقريباً ثابتة، ولا يتوقع تغييرها على المدى البعيد.
فخمة وقيّمة
وذكرت شمة المرزوقي، طالبة جامعية، أن العباية التقليدية لم تعد رائجة، لعدم وجود إقبال عليها، خاصة مع ظهور موضة جديدة وأشكال مختلفة وطباعة لأسماء المصممين والعلامات التجارية المرموقة، في دلالة على فخامتها وقيمتها سواء من ناحية القماش أو نفحات التطريز باليد أو اللون الثابت. وهناك أشكال كثيرة تداخلت في العباية والزي التراثي الشعبي للمرأة، وهذا بحسب فتيحة مبارك، والتي ترى أن التغيير نتيجة منطقية بالنظر إلى انتعاش مجتمع المصممين بمختلف الثقافات والجنسيات، واجتهادهم في إبراز هوية جديدة للزي والعباية لترويج منتجاتهم وتحقيق الربح والشهرة لأسمائهم وعلاماتهم.
«كنادير» الأولين
تصنف الكندورة الرجالية التي ارتداها الأولون، وفق د. عبدالعزيز المسلم، إلى أنواع، وهي الكندورة العربية البدوية من دون ياقة، وأصبحت هي الزي الحالي، إضافة إلى كندورة كان يرتديها أهل السواحل منذ نصف قرن وتتميز بوجود ياقة وجيب في الأعلى كمخبأ للقلم. وأكد المسلم أن التطور الذي طال الكندورة أفقدها بريق أصالتها الحقيقية وجذورها التقليدية، خاصة مع ظهور نوعية أقمشة غير ملائمة بألوان جريئة مثل القرمزي والأصفر الفاقع والفستقي الخليط بين الأخضر والأصفر.
لوحة فنية
تعليقاً على تجربتها كفنانة تشكيلية ومصممة، دمجت الفن بالعباية، أوضحت لمياء منهل أنها استطاعت تحويل العباية السوداء إلى لوحة فنية لها قيمة معنوية وجوهرية، قامت بتصميمها وحياكتها يدوياً، وهو نفس الأسلوب الإبداعي الذي تتميز به لمياء في رسم لوحاتها أيضاً. وتتصف عباية لمياء بأنها لوحة طورتها بالألوان المبهجة والجذابة وأدخلت عليها قصات جديدة تميل إلى القصة المغربية كقصة «السلهام»، كما استخدمت فيها قصة البشت الإماراتي، ودمجت عليه «السفيفة» المغربية ونمنمات فنية لتصبح قطعة مميزة، تفخر كل سيدة باقتنائها وتجعلها تشعر بالفرادة والتميز.