السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نوستالجيا الاستشراق!

9 فبراير 2008 00:00
اعتبر كثير من الباحثين أن كتاب ''الاستشراق'' لإدوار سعيد، الذي صدر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، قد دقَّ آخر مسمار في نعش الخطاب الاستشراقي الغربي، بما كشف بين دفتيه من خدع تصوُّرية ومرجعية، وبما فكك من أساطير، وأساطير مضادة، كوَّنها الغرب عن نفسه وعن ''آخر'' شرقي غرائبي اخترعه بغير قليل من الخيال المُجنّح، والأحكام المسبقة السقيمة، والكليشيهات التصورية الاختزالية الممتدة زمنياً منذ ''أخيل'' وحتى ''كيسنجر''· وبغضِّ النظر عن صحة الادِّعاء بانقراض الاستشراق من عدمها، فإن ذلك لم يعنِ بأي وجهٍ تناقص الاهتمام بكل ما له علاقة بالشرق في الثقافة الغربية· فبـ ''عمليات ''قيصرية'' سريعة، تحوَّلت أقسام الاستشراق في الجامعات ومراكز البحث الغربية إلى مراكز لـ ''الدراسات الشرق أوسطية''، بكل بساطة· وتمَّ تضييق مجال الاهتمام ووحدته ليقتصر على دول المشرق والمغرب العربيين التي تسمى اختزالاً في هذا الخطاب ''الشرق الأوسط وشمال أفريقيا''· وبقدر ما ضاقَ بعض المثقفين العرب طيلة القرن العشرين مما اعتبروه غايات ''غير شريفة'' و''ماكرة'' ظلت ثاوية تاريخياً في ثنايا وطوايا الدرس الاستشراقي الغربي، فإن أحداً منهم لم يشكِّك في الخدمات الجليلة التي قدَّمها المستشرقون للثقافة العربية طيلة القرنين الماضيين، خاصة لجهة تحقيق كنوز هذه الثقافة ومخطوطاتها ونشرها في وقت كان العرب فيه ما زالوا واقعين تحت مخلفات سبات عصر الانحطاط· هذا إضافة إلى أن للاستشراق، خصوصاً الفني التشكيلي منه، بُعداً تدوينياً أنثروبولوجياً سمح بالقبض على لحظات، ومشاهد نادرة من مظاهر الحياة والناس في المجتمعات العربية، خلال القرن التاسع عشر بشكل خاص· وقد طغت على استشراق ذلك القرن تحديداً المسحة الرومانسية الجميلة، التي ترسم الشرق كآخر مثير للخيالات، فحوَّل المستشرقون أساطير الشرق الذاتية إلى ''حقائق كونية''، في حين نرى الآن كيف يحوِّل دارسو الشرق أوسطيات حقائق المنطقة الموضوعية إلى ''أساطير كونية'' أيضاً· وبغض النظر أيضاً عن جدوى محاكمة نوايا المستشرقين ومساءلة منطلقاتهم وغاياتهم قيمياً، فإن الحصيلة المعرفية التي انتهت إليها جهودهم خدمت الثقافة العربية، إلى حد بعيد· أما الدراسات الشرق أوسطية اليوم، فقد استبعد الإبستيمولوجي المعرفي والمفيد فيها، من الأساس، وحلَّ محلَّه الإيديولوجي الصريح وأحياناً الصفيق، وخرجت بذلك من موسوعة المعرفة لترتمي في أحضان رهانات السياسة بما هي آنية، وبما هي اليوم تعبير عن مواقف متشنجة من كل ما له صلة بعالم العرب والإسلام· ولا شك أن كثيراً من نعاة الاستشراق بالأمس القريب تجتاحهم اليوم موجة حنين و''نوستالجيا'' دفينة إلى أيامه وسيرته ''العطرة''، بعدما رأوا إلى أي مدى تحوَّل التشهير بصورة العرب وبثقافتهم وبدينهم، إلى ممارسة منهجية، في الكثير من تقاليد ''الدراسات الشرق أوسطية''· وبعدما أصبحت قصاصات هذه ''الدراسات'' و''طبخاتها'' و''توصياتها'' المغلوطة، و''تأويلاتها'' بل ''وتهويلاتها''، حول المنطقة، ترسم الخطوط العريضة لسياسة العديد من الدول الكبرى، وتجعل الهوة الوهمية ـ حسب عبارة جورج قرم ـ بين الشرق والغرب، تتحوَّل عن جدارة واستحقاق إلى هوَّة حقيقية تزداد كل يوم اتساعاً وعلى نحو بات معه لسان حال المحتفين بكتاب إدوارد سعيد، يردِّد: ''رحم الله الاستشراق ما أعدله''· ould_mokhtar@yahoo.fr
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©