30 يونيو 2011 20:14
تأتي ذكرى الإسراء والمعراج في كل عام لتحمل في طياتها نسمات روحية تجعل الإنسان يتجرد عن ماديته محلقاً بعقله وروحه في سماء الملأ الأعلى وأجواء الأمل ومعاني النعيم والصفاء.
ومع الإسراء والمعراج، تتوارد الخواطر وتتواتر التأملات فمن ذلك: أن معجزة الإسراء والمعراج تطبيق عملي لمحبة الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. لقد مرت على النبي صلى الله عليه وسلم في عام الإسراء والمعراج مواقف عصيبة، إذ ابتلي بفقد النصير والظهير، فتوفي عمه أبو طالب، وقبضت زوجته الوفيه خديجة رضوان الله عليها، وهنا اشتد عليه صلى الله عليه وسلم الإيلام والإيذاء حتى خرج من مكة وهي أحب البلاد إليه إلى الطائف يلتمس النصرة من أهلها، فإذا المستجير بعمرو عند قربته كالمستجير بالرمضاء من النار.
لقد أغرى أهل الطائف بالنبى صلى الله عليه وسلم صبيانهم وسفهائهم فتقاذفوه بالحجارة من كل جانب حتى سال دمه الشريف على الأرض، وارتفع صوته صلى الله عليه وسلم بالشكوى إلى خالقه وباريه قائلاً: “اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلت حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري. إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى سخطك، أو يحل على غضبك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”. فكانت معجزة الإسراء والمعراج صدى لحنو صوته الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تضرع فيه لربه ومولاه، وكأن الله سبحانه يعلن بهذه المعجزة عن جانب من محبته العملية لنبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن ثم كان العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا في ضيافة الحضرة الإلهي إلى حيث لم يصل نبي مرسل أو ملك مقرب.
تنبيه الأذهان إلى الجانب العلمى في رحلة الإسراء والمعراج، فقد دللت هذه المعجزة بجواز الخرق والالتئام على عالم الفضاء. وإذا كانت هذه المعجزة قد أيد الله بها نبى هذه الأمة فأولى بأتباعه صلى الله عليه وسلم أن يرتادوا هذا العالم الغريب، وأن يأخذوا بذمام الريادة فيه لاسيما وقد وقعت هذه المعجزة -التي كان الخرق والالتئام فيها لعالم الفضاء -على يد نبيهم صلى الله عليه وسلم.
كذلك تعد معجزة الإسراء والمعراج عنواناً للصبر والاحتساب، ولا غرابة فهي الحدث الأكبر الذى افتتن به المؤمنون، وارتد كثير من الأتباع على إثره ، ومن ثم كانت هذه المعجزة تمحيصاً للأمة المؤمنة، وعلامة من علامات الصبر لدى الشخصية النبوية الكريمة، ولعل هذا هو سر اقتران آيات الإسراء والمعراج بآيات الصبر والاحتساب والحفظ والرعاية من الله عز وجل إذ نجد الحق سبحانه وتعالى قد تحدث عن هذه المعجزة في سورتين: الأولى سورة الإسراء، حين قال الحق سبحانه وتعالى “سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً” الإسراء 1. بيد أنه سبحانه قبل أن يقول ذلك اختتم سورة النحل التي قبلها بقوله “وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” النحل 127-128. أما السورة الثانية فهي سورة النجم ، والتي ورد في صدرها الحديث عن آيات المعراج وبعض من ملامحه، وقبل أن يحدثنا الحق سبحانه عنه اختتم السورة التي تقدمت عليه وهي سورة الطور بقوله سبحانه “فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ” الطور 48-49.
أن معجزة الإسراء والمعراج تعد مهيئة للعقول لقبول مستجدات العلم في تكنولوجيا المواصلات والاتصالات، وهذا برهان على صلاحية هذا الدين وما اقترن به من معجزات خالدة لكل زمان ومكان، وآية ذلك أن معجزة الإسراء والمعراج تمت بواسطة البراق في لحظات من الليل، والبراق دابة لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه، ولكنها صارت مضرباً للسرعات الفائقة، ولسرعة الزمن التي تمت فيه هذه المعجزة وقف أهل مكة منها موقف الإنكار حتى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا نضرب لبيت المقدس بالإبل مسيرة شهر، وتزعم أنك ذهبت إليه ورجعت في جزء من الليل. هنا نجد الحق سبحانه وتعالى وقد هيأ الأذهان في سورة النحل التي تقدمت على سورة الإسراء بأمرين: الأول أن هناك من الكائنات ما يستطيع أن يقطع المسافات الطوال في لحظات يسيرة من الزمن، حيث قال الحق سبحانه “وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”النحل 8. فالخيل والبغال والحمير هي وسائل المواصلات التقليدية في البيئة العربية آنذاك، بيد أنه لا حرج على فضل الله أن يوجد كائنات أخرى تفوقها في القوة والسرعة لا يعلم حقيقتها إلا هو، ومن ثم كانت الإشارة إليها بقول الحق سبحانه “وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.
أما الأمر الثاني فهو أن قول الله سبحانه “وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”يستوعب كل مستجدات العلم في تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا ما اكتشف البشر أي آلة فائقة في السرعة في أي زمان ومكان فإنها تندرج تحت حقيقة قول الحق سبحانه “وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ”.
أتى بعض المحللين الذين استخدموا ما يسمى بالمنهج الذاتي في فهم القرآن الكريم، وقالوا إن معجزة الإسراء والمعراج في حقيقتها سياحة بروح النبي صلى الله عليه وسلم في الكون والملأ الأعلى دون أن تتم هذه المعجزة في أرض الحقيقة والواقع ، بيد أن هذا كلام مردود عليه بما يلي:
? أن الإسراء والمعراج معجزة، وشرط المعجزة أن تكون خارجة عن مألوفات البشر، إذ لو كانت داخلة في نطاق المألوف والمعتاد لديهم لا تنفي عنها معنى الإعجاز.
? أن سياحة الروح في الكون لدى النوم أمر لا يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أمر مقدور لكل إنسان، فمن منا من لم يحلم بأنه سافر إلى نيويورك أو بكين ثم يستيقظ من نومه فيجد نفسه على فراشه.
?أن العلم الحديث بمنجزاته ومستجداته ليعد من أقوى الأدلة على هذه المعجزة المباركة، فإذا كان البشر بقدراتهم المحدودة قد اكتشفوا الطائرات الخارقة للصوت، وسفن الفضاء وغير ذلك من المكتشفات التي طوت العالم طياً، فما بالنا بقدرة رب البشر إذا أراد أن يسري بعبده ثم يعرج به إليه ، كيف يكون الحال؟ وكيف يكون المآل؟ الواقع يقول إن الأمر فوق المدركات والتصورات لأن الإنسان بعقله البشري المحدود لا يستطيع أن يحيط بقدرة الله تعالى التي تعلو فوق الأوهام والأوصاف والحدود “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” يس 82‘83.
د. محمد عبد الرحيم البيومي
كلية الشريعة والقانون - جامعة الإمارات