السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التسامح.. سرّ البهجة الإنسانية

التسامح.. سرّ البهجة الإنسانية
6 سبتمبر 2018 00:07

بادئ ذي بدء اسمحوا لي أن أطرح الأسئلة التالية: هل السعادة ممكنة؟ هل هناك تقدم في التاريخ؟ أم أنه عبث في عبث؟ للرد على كل العبثيين والعدميين والمتشائمين السوداويين سوف أقول ما يلي: يكفي أن نلقي نظرة خاطفة على تجربة الإمارات العربية المتحدة لكي نتأكد من أن التقدم حقيقة واقعة، أو شيء ملموس ومحسوس. فهذا البلد حقق في ظرف ثلاثين سنة فقط خطوات عملاقة إلى الأمام. وهذا أكبر دليل على أن التقدم شيء ممكن إذا ما توافر الحكم الرشيد والنوايا الصادقة والعزائم القوية، إضافة إلى الرؤيا المستقبلية الاستشرافية بعيدة المدى.

بهذا الصدد يقول لنا الكاتب الفرنسي جان بيير بيران، إن منطقة الخليج العربي كانت من أفقر المناطق وأكثرها صعوبة وقساوة على العيش. للتأكد من ذلك يكفي أن نقرأ رواية الكاتب الفرنسي ألبير لوندر: «صائدو اللؤلؤ»، حيث ترد هذه العبارة الشاعرية عن «اللآلئ القابعة في أعماق البحار والنجوم المتلألئة في أعالي السماء».

كلام الأرقام
يقول لنا هذا الكاتب الشهير، إن الناس في أغلبيتهم كانوا فقراء جداً وحفاة عراة تقريباً. فإذا بهم يصبحون الآن من أغنى أغنياء العالم وأكثرهم رفاهية وازدهاراً. فالإحصاءات تقول لنا مثلاً بأن مدخول الفرد في الإمارات من أكثر المداخيل علواً في العالم. إنه يبلغ 60000 دولار للفرد الواحد سنوياً. ومعدل العمر قفز قفزات خيالية. فقد كان في ثلاثينيات القرن الماضي لا يتجاوز الثلاثين عاماً، فأصبح الآن 75 عاماً. وكل ذلك بفضل تقدم المرافق الصحية والنظافة والتغذية الجيدة المتوازنة والتطبيب الناجح في أرقى المستشفيات.. ولتحقيق المزيد من الرفاهية للمواطنين دشنت الإمارات وزارتين من أهم ما يكون وفاجأت العالم بهما: وزارة السعادة من جهة، ووزارة التسامح من جهة أخرى. وهما مترابطتان. فلا سعادة بدون تسامح مع الآخر واحترام كرامته الإنسانية أياً يكن. ولا ننسى بهذا الصدد أن الإمارات أعلنت الحرب على جماعات الإسلام السياسي والإخوان المسلمين. وهذا شيء أصبح معروفاً للقاصي والداني. لكأن الشعار المرفوع هو التالي: لا تسامح مع أعداء التسامح، أو: لا حرية لأعداء الحرية. ولهذا السبب شجعت الإمارات التيار الوسطي العقلاني المستنير في الإسلام. وهو الذي يمثل جوهر الإسلام في الواقع وأما الباقون من غلاة التطرف فمنحرفون عنه وخائنون لجوهر الدين الحنيف. جاء في الذكر الحكيم: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا». وبالتالي فسياسة الإمارات وفية لروح الإسلام وقيمه الأخلاقية ومثله الروحانية العليا. ولهذا السبب ازدهرت البلاد وانتعشت روح الثقافة والحضارة العربية في تلك الربوع. بل وأصبحت دبي بمثابة نيويورك الشرق، وأبوظبي باريس العرب!

تقرير دولي
وأما الباحثة الفرنسية فيرجيني ما ديبون فتقول لنا ما فحواه: طبقا للتقرير الصادر عن الأمم المتحدة، فإن الإمارات العربية المتحدة، أكثر البلدان سعادة في منطقة الخليج، بل وتحتل المرتبة رقم 21 على مستوى العالم كله. وهي بالتأكيد أكثر بلدان الخليج تسامحاً وانفتاحاً، وبالتالي الأكثر تحضراً. نقول ذلك وبخاصة بعد أن أنشأت الإمارات وزارة للسعادة، وأخرى للتسامح عام 2016. وهكذا أصبحت عهود الرومي أول وزيرة للسعادة في العالم. ومهمتها الإشراف على الخطط والبرامج التي تؤدي إلى سعادة المجتمع ورفاهيته وازدهاره. وأما معالي الشيخ نهيان بن مبارك، فقد كلف بمهام وزارة التسامح. وما أحوجنا إلى هذه الوزارة ذات الاسم النبيل المبارك في هذه الظروف العصيبة التي نعيشها اليوم! ما أحوجنا إلى التسامح في زمن الدواعش وما أشبههم! ويا ليت أن الدول العربية الأخرى تقلد الإمارات في هذا التوجه المنفتح على العالم، ولكن للأسف نلاحظ أن النزعات المحافظة والسلفية الإخونجية لا تزال تهيمن على المنطقة.

فلسفة التاريخ
لكن دعوني الآن أوسع الإشكالية أكثر وأتحدث عن ارتباط السعادة بالسلام والأمان العالمي بشكل وثيق لا ينفصم.
بصراحة لكي أوفي هذا الموضوع حقه أنا مضطر للاستعانة بمفكر أكبر مني بعشر مرات على الأقل: إنه الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير البالغ من العمر 88 سنة فقط. وقد أصدر مؤخراً عدة دراسات عن الموضوع الذي يهمنا هنا، وبها نستضيء. وهو يتحدث بالدرجة الأولى عن فرنسا وأوروبا، ولكن كلامه موجه أيضاً إلى العالم كله. وفي هذه الدراسات يشن شيخ فلاسفة فرنسا المعاصرين هجوماً عنيفاً على دعاة النكوص والتشاؤم والعدمية. فهؤلاء ما ينفكون ينعقون كالغربان قائلين: يا أخي لا يوجد تقدم في التاريخ ولا من يحزنون. يا أخي التاريخ عبارة عن سلسلة متلاحقة من الآلام والفواجع. يا أخي لا شيء جديداً تحت الشمس. دائماً نفس الشيء ونفس الفشل، بل ويصل بهم الأمر إلى حد القول بأن الماضي أفضل من الحاضر وأن عهد آبائنا وأجدادنا كان أكثر سعادة من عهدنا. الخ، الخ..
هذا الكلام المتشائم بشكل سوداوي يكاد يخرج ميشيل سير عن طوره. وهو يرد عليهم قائلاً: أنتم تزينون الماضي وعهد الأسلاف وتحسنونه لأنكم ابتعدتم عنه وتشعرون بنوع من الحنين إليه. ولكن اعلموا أن الماضي كان صعباً جداً وقاسياً إلى أقصى الحدود. وأنا الذي عشت هذا الماضي بسبب عمري الطويل المديد أعرف عم أتحدث بالضبط. هل تعلمون بأننا كنا جائعين إبان الحرب العالمية الثانية بل وحتى فيما بعدها بسنوات؟ نعم كنا جائعين لا نأكل ما يسد الرمق. وهذا في بلاد حضارية متقدمة، كفرنسا وانجلترا وألمانيا وعموم أوروبا. أنا كان عمري آنذاك 15 سنة وأعرف عما أتحدث تماماً. كانت الحياة جحيماً لا يطاق. وأما الآن فقد أصبحت أوروبا جنة الله على الأرض. فلأول مرة منذ سبعين سنة لم تحصل أي حرب بين أممها وشعوبها. سبعون سنة متواصلة من السلام والأمان والرفاهية والسعادة في أوروبا. شيء لا يكاد يصدق. وهو على أي حال لم يحصل في التاريخ منذ قرون وقرون. في الماضي كانت تحصل حرب بين الفرنسيين والألمان أو بين الفرنسيين والإنجليز كل عشرين أو ثلاثين سنة. وأما الآن فأصبحوا جميعاً متآخين في ظل الاتحاد الأوروبي. ولا يمكن أن تحصل بينهم أي حرب. أليس هذا تقدماً أيها الناعقون كالغربان؟

الموت والحياة
ثم يقول لنا هذا الفيلسوف الذي يعتبر الآن أحد كبار حكماء فرنسا ما معناه: في الماضي كان يحكمنا فرانكو وهتلر وموسوليني وستالين وماوتسي تونغ، وأما الآن فلم يعد لأمثال هؤلاء من وجود على سطح القارة الأوروبية ولا حتى الآسيوية. ومعلوم أن ضحاياهم يعدون بعشرات الملايين. وبالتالي فما عدا مناطق التوتر والصراع في الشرق الأوسط فإن العالم يعيش الآن أفضل عصوره وأسعدها وأكثرها أماناً واستقراراً. لا ريب في أن الأصولية تشكل خطراً علينا ولكن هل نعلم بأن عدد القتلى على الطرق وحوادثها أكبر بكثير من عدد ضحايا الأصولية الإرهابية؟ ففي فرنسا وحدها يموت كل يوم عشرة أشخاص بسبب حوادث السير. ثم يصل به الأمر إلى حد الصراخ قائلاً: يا جماعة أن تجار السجائر أخطر من داعش بمليون مرة! هل تعلمون كم هو عدد قتلى السجائر سنوياً لدى المدخنين؟ ستة ملايين تقريباً على مستوى العالم كله، إما بسبب السرطان وإما بسبب السكتة القلبية. في القرن العشرين مات 100 مليون شخص من السيجارة. وفي القرن الحادي والعشرين قد يموت مليار شخص! وذلك إذا ما استمر التدخين على نفس الوتيرة.
ثم يقول لنا هذا الفيلسوف الكبير: في الماضي، أي عندما كان عمري 15 سنة كان الناس يموتون من أمراض سهلة ما عادوا يموتون بسببها الآن أبدا. والسبب هو عدم وجود مضادات حيوية كالبنسلين وسواه آنذاك، وكذلك عدم وجود ضمان صحي أو ضمان اجتماعي يتيح لك أن تتداوى في المشفى بالمجان. أليس هذا تقدماً ياجماعة؟ هذا أعظم تقدم حصل في التاريخ. وأبطال اليوم ما عادوا قادة المعارك والجيوش وإنما الأطباء والصيادلة الذين يعالجون أوجاعنا ويخففون من آلامنا، بل ويزيلونها كلياً، ثم شهدنا في هذا العصر انتشار النظافة في الشوارع والطرقات ناهيك عن البيوت والمدارس. وكذلك لاحظنا المزيد من التقيّد بالقواعد الصحية وتنظيف الأسنان الخ.. ثم بالأخص لاحظنا الانتشار المتزايد للمشافي الكبرى والعيادات المتخصصة التي لولاها لمات الملايين سنوياً وربما شهرياً. وبالتالي فتقدم الطب يعتبر أكبر نعمة في هذا العصر. إنه سبب طول عمر الناس وزيادة سعادتهم عن طريق تحسين صحتهم. ثم تقولون لي: يا الهي ما أحلى أيام زمان؟ يا الهي ليت الأيام القديمة تعود؟ ولكن هل أصابكم مسّ من جنون؟!

منجزات محسوسة
ثم يضرب مثلا آخر يحز في نفسي أنا شخصياً أكثر من سواه. يقول لنا: هل تعلمون بأن الأمهات في فرنسا كن يمتن أثناء الولادة بعدد كبير في الماضي قبل أربعين أو خمسين سنة؟ وذلك لأن المشافي لم تكن متوافرة وأساليب العلاج ما كانت متطورة. وأما الآن فلا تموت امرأة واحدة تقريباً بسبب الولادة. وذلك لأنها أصبحت تضع وليدها في العيادات المتخصصة وليس في البيوت على الطريقة البدائية. أتذكر شخصياً في طفولتي أن نساء عديدات متن بسبب الولادة. وقد آلمني ذلك كثيراً بل وأوجعني لأن موت الأمهات شيء فوق طاقتي على التحمل. حقاً أن الفيلسوف الفرنسي مصيب تماماً. لقد أدى تقدم الطب وبخاصة في البلدان المتطورة والغنية إلى القضاء على معظم الأمراض التي كانت تفتك بالبشرية. وبالتالي فالتقدم حقيقة واقعة، شيء ملموس ومحسوس وليس وهما أو سرابا. بل وحتى فيلسوف مؤمن متدين ناقم على تطرفات الحداثة وانحرافاتها وشذوذاتها من أمثال ريمي براغ يعترف بأن تقدم الطب هو أحد منجزات الحداثة العظمى الأكثر رسوخاً. والبروفيسور «براغ» هو أستاذ الفلسفة العربية والمسيحية في جامعتي ميونيخ والسوربون على حد سواء. نقول ذلك وبخاصة أن تعميم الضمان الصحي والضمان الاجتماعي على المواطنين أصبح يتيح للجميع التطبب والاستشفاء مجاناً. وهذه نعمة ما بعدها نعمة. وهذا التقدم الإنساني الهائل كان معدوماً تماماً في الماضي. وحدهم الأغنياء كانوا آنذاك يستطيعون أن يتطببوا ويتعالجوا. وأما الفقراء فكانوا يموتون بكل بساطة دون علاج. كان ثمن العلاج باهظاً وخارج مقدرة أغلبية الشعب.
وفي الختام، ماذا نستطيع أن نقول عن موضوع هام وحاسم كهذا؟ شيئان أو ثلاثة. أولها أن ثمار هذا التقدم لا تزال محصورة بالدول المتطورة والغنية وبالتالي فأغلبية دول العالم الفقير لا تزال محرومة منها. وثانيها أن الصراعات والحروب لم تنته من العالم الثالث كما يقال وإنما فقط من العالم المتقدم الذي أصبح يحل مشاكله عن طريق الحوار الديمقراطي لا الصراع الدموي. وثالثها أن أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا وكل العالم المتطور لا تتضامن بما فيه الكفاية مع الدول الفقيرة التي تعاني ما تعانيه. وبالتالي فما ينقص هذه الحضارة العظيمة هو النزعة الإنسانية والقلب الخفاق. هل هي حضارة بلا قلب؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©