قديماً قال أبيقور، إن الفلسفة ما هي إلا نشاط يعتمد على الحِجاج العقلاني بغرض تهيئتنا للحياة السعيدة. وهذا صحيح في حد ذاته، ما دام أن الفلسفة قد وضعت دوماً السعادة كغاية قصوى يبلغها الإنسان. غير أن المشكلة اليوم تكمن في مفهوم الحياة السعيدة في حد ذاته. إذ لم تعد هذه الأخيرة تتحدد في الرضا الذاتي، وفي الفضائل التي يمكن أن يتحلى بها المرء.
نحن نعاين في حضارتنا المعاصرة نوعاً من السعادة لم يسبق له الظهور في تاريخ البشرية جمعاء. فما يصنع سعادتنا اليوم في المجتمعات ما بعد الحداثية ليس شيئاً نابعاً من أنفسنا، وإنما هو عبارة عن تحققات لمظاهر محددة تتخذ شكل إلزامات اجتماعية. بطريقة واضحة نقول: لم نعد أسياد أنفسنا نقرر مصيرنا بشكل شخصي، وإنما نحن نرضخ لإملاءات دور الأزياء وشركات الإشهار والموضة والثقافة السائدة، التي تفرض نفسها علينا وتجبرنا على اتباعها بشكل قهري. كانت السعادة دوماً، وعبر جل مراحل تاريخ الفلسفة، مرتبطة بالبحث عن الفضيلة، أما اليوم فهي تقتصر أحياناً على الجشع المالي، والهوس بالتملك، والاستهلاك المعمم. وهكذا أضحت النتيجة هي هذا الانهيار القيمي الذي نعيشه، والذي يتجلى في ارتفاع معدلات الانتحار، وانتشار كل أشكال التمزق الاجتماعي، وازدياد الجريمة والأمراض النفسية بكافة أنواعها.
لا مراء إذن في أن المكابدات والآلام التي يعيشها الإنسان المعاصر لا حدود لها، وهذا ما يجعله بعيداً كل البعد عن أية سعادة حقيقية، عدا هذه المظاهر التي يختفي وراءها كأقنعة تمنحه نوعاً من التهدئة، وتسمح له بالمشاركة في لعبة الزيف الاجتماعي. حضارتنا المعاصرة لا تخاطب في الإنسان سوى غرائزه الحسية محاولة إشباعها عبر قصف مكثف بالوصلات الإشهارية، التي تدفعه إلى المزيد من التبضع والاستهلاك، ولكن إذا كانت ما بعد الحداثة تشهر بالأوهام الضائعة للحداثة الأنوارية، فهل هناك بدائل أخرى تطرحها لسعادة الإنسان؟
الآن.. وهنا
رفعت الحداثة الأنوارية شعارات كبيرة مثل الحرية والتقدم والعدالة، وغيرها من القيم الجميلة التي تجسدت في فلسفة عصر الأنوار. غير أن أغلب هذه الشعارات توضع اليوم أمام امتحان الشك إلى ما بعد حداثي. لقد رأت هذه الأخيرة أن كل هذه المثل اصطدمت بصخرة الواقع وتحولت إلى تشوهات مسخية لاإنسانية. فرضت الحداثة الأنوارية ذلك العقل الظافر الحسابي، الذي لا يؤمن بشيء آخر غير النظام والحساب والقانون، حيث كل شيء واضح وموضوع في مكانه. يكفي الالتزام بالحتمية التاريخية للتقدم، وسنكون سعداء. ورغم بعض الاستثناءات القليلة التي شككت في إمكان بلوغ الإنسان للسعادة ضمن هذه الشروط، مثل روسو وشوبنهار، فإن الجميع كان يبشر بالنعيم الذي ينتظرنا في الأفق القريب.
إن هذا الأمر ذاته هو ما ترفضه ما بعد الحداثة، فهي تعلي من المتعة والزوغان وتكسير النمطية والخروج عن القاعدة والترحال كما يسميه جيل مافيسولي. فالمجتمعات الما بعد حديثة هي المجتمعات التي تعيش أزمة الحداثة، والتي تتجلى في الانهيار القيمي والأزمة الاقتصادية والاجتماعية والكوارث البيئية، أي في أفول كل اليوتوبيات الجميلة التي قامت عليها الحقبة الأنوراية التي يدعوها جان فرانسوا ليوتار بنهاية المحكيات الكبرىLes Meta récit مثل العقل والتقدم والعدالة الإنسانية. ولكن إذا كان الأمر على هذا النحو فكيف يمكن لمجتمعات ما بعد الحداثة أن تعثر على سعادتها؟
في هذا السياق يتحدث ليوتار عن مفهوم «الهابيننغ» le happening المشتق من الفعل الإنجليزي to happen بمعنى أن نترك بشكل تلقائي حدوث وضعية معينة تكون كما لو أنها عمل فني، نوع من الارتجال الفرجوي الذي يجري بشكل مباشر في علاقة مع الجمهور. ظهر لأول مرة في المسرح، لكنه انتقل بعد ذلك إلى مجالات أخرى، كالموسيقى والرسم والرقص وغيرها.
كان «الهابينيغ» يهدف في بداية ظهوره إلى تكسير الحواجز بين الفن والمتلقي، بل وجعل هذا الأخير مشاركاً بدل أن يكون مجرد متفرج. السعادة إذن تكمن في هذه القدرة على الإفلات مما هو سائد، وابتكار أشكال المقاومة والقدرة على خلخلة المعطى، وle zapping «الزابينغ» التنصل من الأنظمة المغلقة واكتشاف لفضاءات مغايرة، والإحساس بقيمة اللحظة الهاربة من سطوة الزمان. فما يمكن أن نأمله هو ما يجب أن نأمله الآن وهنا hic et nunc (إكارت تول).
الحرية الماجنة
تتحدث ما بعد الحداثة عن الحرية الماجنة Le libertinage التي تطابق بين السعادة واللذة، فلكي نكون سعداء علينا أن نغتنم الصدف، ونستمتع بما توفره لنا الحياة من لذات حسية. لهذا الموقف كما هو معروف خلفية نظرية قديمة تجد أسسها في الفلسفية الهيدونية l’hédonisme عند أبيقور الذي جعل اللذة طريقاً لبلوغ الخير الأسمى. غير أن الهيدونية المعاصرة على ما يبدو تختلف عن فلسفة اللذة عند أبيقور. صحيح أن هذا الأخير يدعو إلى اللذة، ولكنه يشترط أن تظل تحت سيطرة الإنسان بحيث لا تنقلب عليه فيصبح عبداً لها. إن الفلسفة اليونانية ليست مجرد تفكير نظري، بل هي فن للحياة تضطلع بوظيفة علاجية. الأمر واضح في فلسفة أبيقور التي تفترض ضرورة حضور الإرادة، والتقشف العقلاني للرغبات، والتحكم في الذات، وهذا بالضبط هو ما يجعل من أبيقور فيلسوفاً، وليس مجرد رجل ماجن.
على عكس كل ما سبق حضارتنا المعاصرة تقدس اللذة على حساب الحضور الإنساني، لذلك فسعادتنا هي أقرب إلى الدونجوانية منها إلى الأبيقورية. إن دونجوان على عكس أبيقور رجل منجرف وراء إشباعات حسية لا حدود لها، ليست هناك أية قاعدة أو فن للحياة، ما عدا اغتنام الفرصة وارتشاف كأس اللذة بسرعة كي نمر للبحث عن إغواءات جديدة. مجتمعنا اليوم تسوده حالة من العنفوان الجامح خاصة في القطاعات الشبابية حيث نجدهم مقبلين على الحياة بكل بهجة غير عابئين إلا لماماً بالثوابت الإيديولوجية. ولكن ألا تكون هذه النزعة إلى متعية الحياة، ومعانقة التنوع والكثرة والرفع من أداء الأحاسيس، كلها ما هي لعبة أخرى من ألاعيب الرأسمالية التي تتمظهر اليوم في شكل متعاظم لمجتمع استهلاكي يقدس البذخ ويتباهى بالرفاه؟
ضمور وافتتان
صحيح أن موضوع السعادة كان حاضراً دوماً في جل مراحل تاريخ الفلسفة، غير أنه مع ذلك طواه النسيان لفترة طويلة، ثم ها هو ذا يعود من جديد بقوة مع الكثير من الشغف والافتتان للواجهة. ففي مجتمعات موجهة نحو الاستهلاك المعمم، ليس فقط للبضائع، بل أيضاً للذوات البشرية والعلاقات الإنسانية، يبدو أنه من البديهي للإنسان أن يتساءل عن سعادته. إن عدد كتب التنمية البشرية اليوم لا حصر له، والباحثون في مجال التحفيز الذاتي، والمرشدون النفسيون، أو ما يسمون أيضاً بالكوتش Le coaching يملؤون القنوات الفضائية، كما لو أنهم وعاظ يملكون المفاتيح النهائية للسعادة.
يبدو أنه ليست الرأسمالية فقط من ترسم حدود السعادة وتصوغ أشكالها بل أيضاً الخطاب العلمي التجريبي. ففي علم النفس يتم استعمال تعبير الوجود الإيجابي positive well being أو بالفرنسية le bien être positif تفادياً للتضمينات الفلسفية المجردة التي يمكن أن ينطوي عليها مفهوم السعادة. والمقصود بذلك مجموع الأنشطة التي ينبغي أن يقوم بها الإنسان، كي يبلغ حالة من الطمأنينة النفسية والبهجة العقلية والتوازن الصحي الجسدي. أغلق عينيك، تخيل أسداً، إذن أنت أسد. هذا هو ما يوصي به الأحبار الجدد للكوتشينغ. مثل هذه الطرائق ألا تجعل الخلاص مسألة فردية؟ عندما نرى الحروب والتوترات السياسية في كل مكان، عندما يتدفق اللاجئون حفاة عراة بعشرات الآلاف، أو يلفظ البحر جثث شباب في مقتبل العمر، وهم يبحثون فقط عن فرصة صغيرة للحياة. عندما تنتشر المذابح الجماعية والعمليات الإرهابية في الفضاء العمومي مهددة الاستقرار العام. في كل هذه الحالات وغيرها لا يسع المرء أن يغلق عينيه كي يتوهم سكينة مفترضة. لا يمكن أن نكون سعداء بينما الإنسانية تشقى؟ تجعل الرأسمالية السعادة مسألة تجربة باطنية، وبذلك فهي تدفع الفرد إلى الحدود القصوى للعزلة والانغلاق المطلق، مبعدة إياه عن الاهتمام بالقضايا الأساسية للشأن الاجتماعي العام.
مؤشرات وضرورات
وكما نرى يعتمد التقرير السنوي لمؤشر السعادة على مستوى التطور الاقتصادي والناتج الخام الوطني PIB لذلك انتبه العديد من الملاحظين إلى أن سعادة الشعوب لا يمكن أن تقاس بمعدل الازدهار الاقتصادي والاستهلاك الفردي، فهناك العديد من المؤشرات الأخرى التي ينبغي اعتمادها، نذكر منها مثلاً مستوى نظافة البيئية، حرية التفكير والتعبير، قوة النظام التعليمي وازدهار البحث العلمي، سيادة جو الديمقراطية والمشاركة وغيرها.
هكذا إذا كانت الحداثة ربطت السعادة بالتقدم الحضاري، فإن ما بعد الحداثة تشكك في طبيعة هذا التقدم وتدق ناقوس الخطر حول المآل الحزين الذي تسير باتجاهه الحضارة المعاصرة. لا يمكن أن نطمئن لهذه السعادة المعلبة التي تمنحها لنا دور الأزياء والموضة والشركات التي ترى أننا سنكون سعداء بمجرد استهلاكنا لمنتجاتها. بل إن المرحلة التي نعيشها قد تجاوزت الحداثة المعروفة نحو حداثة مفرطة l’hypermodernité أصبحت فيها التقنية هي المهيمنة والضامنة لسعادة الإنسان، عن طريق الرهان على الوعود الجديدة التي تقدمها العلوم الطليعية المسماة اختصاراً NBCI فالسعادة اليوم ستصنعها تكنولوجيا النانو والهندسة البيولوجية والثورة المعلوماتية. تعدنا ما بعد الإنسانية le transhumanisme أن الإنسان سيكون سعيداً عندما سيتجاوز جسده ويرقي نفسه عن طريق الاندماج مع الآلة، ذلك أن السعادة يخبرنا الطب التجريبي ما هي إلا جملة من التفاعلات الكيميائية والنشاطات الهرمونية التي تؤثر على عمل المخ. وهكذا انتقلت مسألة سعادة الإنسان من الرهان على التقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، إلى الرهان على التقدم التكنولوجي. لم لا! حتى أن هناك وعوداً براقة بإدراك الخلود و«موت الموت» كما يحمل عنوان كتاب لوران ألكسندر.
لنختصر إذن ما سبق. تكمن سعادة إنسان ما بعد الحداثة ليس في التدحرج العفوي فوق سطوح الحياة، واللامبالاة المطلقة اتجاه ما يجري حوله. أو في الاكتفاء بالانغماس الطوعي في لذة التبضع والاستهلاك. بل في حيازة اليقظة العقلية والوعي النقدي اتجاه العالم. في تفكيك اليوتوبيات الجديدة للخلاص. الرهان على الوجود وليس على التملك (إريك فروم)، القدرة على اختراق الأنساقواللعب بذكاء. مناهضة الرداءة أينما حلت وكيفما كان نوعها. إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية الجميلة. اغتنام فرص الحياة والإيمان بأن السعادة ممكنة رغم جميع الألغام والأسلاك الشائكة carpe diem. ذلك أنه ليست هناك عقاقير خاصة بالسعادة مهما حاولت الحضارة المعاصرة أن توعز لنا. باستثناء الرهان على لقاء الآخر المختلف وقبول اختلافه والانفتاح عليه.الحدث غير المرتقب لانبثاق نور القلب، الإحساس بالعمق الجمالي والروحي للطبيعة.
فأطيب رائحة هي رائحة الخبز، وأجمل صوت هو صوت الماء حينما يترقرق فوق الحجارة، وأحسن سكينة تلك التي تنزل على الإنسان بعد عطاء صادق.
سعادة أبيقور
إبيقور فيلسوف يوناني قديم عاش في الفترة بين عامي (341- 270 ق.م)، أسس لمدرسة فلسفية سميت باسمه هي المدرسة (الإبيقوريّة).
كتب نحو ثلاثمائة منجز لم يصلنا منها إلا بعض الأجزاء والرسائل، ومعظم ما وصلنا من الفلسفة الإبيقورية مستمد من التابعين لها وبعض المؤرخين. ومنها النصوص التي حفظها ديوجينس اللايرسي Diogène، فهي رسالة موجهة إِلى هيرودوت في الطبيعيات، ورسالة موجهة إِلى فيتوكليس في الآثار العلوية، ورسالة موجهة إِلى ميناقايوس في الأخلاق؛ ومئة وإِحدى وعشرون فكرة هي ملخص المذهب.
وغاية الفلسفة بالنسبة لإبيقور كانت الوصول للحياة السعيدة والمطمئنة ولها خاصتان: «Ataraxia»، وتعني الطمأنينة، والسلام، والتخلص من الخوف. و«Aponia» وتعني غياب الألم، والاكتفاء الذاتي محوطاً بالأصدقاء.
واقعية ليوتار
جان فرانسوا ليوتار (10 أغسطس 1924 إلى 21 أبريل 1998) فيلسوف وعالم اجتماع ومنظر أدبي فرنسي. اشتهر بأنه أول من أدخل مصطلح ما بعد الحداثة إلى الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وعبر عنها في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كما حلل صدمة ما بعد الحداثة على الوضع الإنساني.
إسهامه الرئيس في الفلسفة هو نقده للحداثة وكتابته عن سقوط الآيديولوجيات الكبرى التي يسميها السرديات الكبرى، ومن خلالها ينتقد فكرة التنوير نفسه؛ لأن كل هذه الآيدولوجيات من نتاج التنوير، وكلها كان لها هدف واحد هو التحرر وتحقيق سعادة الإنسان، ولكن يرى ليوتار أنها سقطت وفشلت فشلاً ذريعاً، ويدعو للخروج من هذه الحداثة التي أدت إلى هيروشيما وناجازاكي.