السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ترياق سحري لهشاشة العالم

ترياق سحري لهشاشة العالم
6 سبتمبر 2018 00:07

«ليس الجمال سوى وعد بالسعادة»: هذه ليست مجرّد جملة سالبة نعثر عليها تحت قلم ستاندال (1783- 1842)، إنّما وضعية تأويلية معقّدة ستنخرط فيها ثلّة من العقول الحديثة من قبيل شوبنهاور وبودلير ونيتشه وبروست وأدرنو وهانس روبرت جوس.

ما يثير في هذه الوضعيّة التأويلية التي ربطت على نحو صريح بين الفنّ والسعادة هو مكان ظهورها. يتعلق الأمر بالفصل السابع عشر من كتاب «في الحب» بتاريخ 1822. وفيه يوقّع هذا الكاتب الفرنسي الرومانسي ضرباً غير مسبوق من عبادة الجمال. والمقصود ههنا الجمال الأنثوي بخاصة. والغريب في هذه الوضعية التأويلية هو الحديث عن السعادة في لغة سالبة هي لغة الوعد، أي في معنى الوعد الذي لا يتمّ الوفاء به. فالجمال والسعادة لا يلتقيان دوماً. ذلك أنّ الوعد بالسعادة الذي تعد به امرأة جميلة كثيرا ما يكون وعدا كاذبا. إنّ هذه الجملة المثيرة لستاندال التي كتب عنها بودلير بأنّها «الأقرب إلى الحقيقة» قد التقطها من بعده شوبنهاور المعروف بفيلسوف التشاؤم وغيّر دلالتها نحو وجهة أكثر اقترابا من حقل الفنون. فبالرغم من أنّ السعادة أمر غير موجود وبأنّ «الحياة مثل النوّاس تتأرجح بين الألم والملل»، فإنّ شوبنهاور يرى في الفنّ «ضربا من العزاء الجمالي» الذي يحرّرنا من إرادة الحياة التي منها يصدر الألم عنده. ويخصّص شوبنهاور للموسيقا منزلة فريدة سوف يستأنفها الفيلسوف الألماني نيتشه (1844 1900) على طريقته معتبراً أنّ «الحياة بلا موسيقا خطأ فادح». وأنّ الفنّ وعد بالسعادة في معنى خاص جداً: هو أنّه أكبر دافع على الحياة، لأنّ الحياة نفسها لم تعد ممكنة الاّ في الفنّ وذلك بوصف الفنّ شعوراً بالاقتدار أي بإمكانيّة تجاوز الإنسان نفسه نحو مقام أسمى منه. واستعاد أدرنو (1903 1969) جملة ستاندال ضمن جماليات سالبة تؤوّل الأثر الفنّي بوصفه بعبارات أدرنو «قوة سالبة تمنح مقياس الهوّة التي تفصل البراكسيس عن السعادة»، وعليه يقع تأويل الوعد بالسعادة في الفنّ في معنى نقدي جذري لمجتمع فشل في الوفاء بوعوده.

3 تعبيرات
لكن إذا كانت الإنسانية تفشل دوماً في الوفاء بوعد السعادة الذي تعد به الفلسفات والحكومات والسياسات فهل بوسع الفنّ أن يمنحنا فعلا السعادة؟ وأي معنى للسعادة الفنّية؟
يولد مفهوم السعادة فلسفيا في كتاب «إتيقا نيقوماخيا» لأرسطو (322 ق.م 384 ق.م) بحيث يقع تخصيص الفصلين الأوّل والعاشر للسعادة في علاقتها بالخير، وبوصفها اللذّة الحقيقية. ومن جهة ما هي الخير الأكمل تكمن اللذة الحقيقية في الحياة التأملية أي في نشاط النفس التي تقودها الفضيلة، والتي تجد تعبيراتها القصوى لدى الحكماء. بحيث يقع التمييز بين ثلاثة أنماط من الحياة: حياة العوام القائمة على المتعة الحسية، حياة رجال السياسة الذين ينشدون ألقاب الشرف، وحياة الحكماء الذين يطلبون الحقيقة بوصفها السعادة نفسها. لكنّ السعادة في علاقتها بالفنّ لا تظهر إلا في كتاب «الشعر» وفي معنى سالب رأساً وذلك من خلال مفهوم التطهير. وهو ما نعثر عليه تحديداً ضمن الفصل السادس من كتاب «الشعر»، الخاص بالمأساة، حيث يكتب أرسطو معرّفا فنّ التراجيديا ما يلي: «فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل... وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات». والمقصود هنا بمقولة التطهير قدرة الفنّ على شفاء الناس من الانفعالات الحزينة وتحريرهم منها وذلك من خلال المسرح التراجيدي الذي يجمع بين الموسيقا والشعر والتمثيل معاً.

.. و3 أحداث
أي معنى للسعادة الفنّية في أفق الجماليات الحديثة؟
اللذة الجمالية: يولد مفهوم اللذة الجمالية بما هو الدلالة الثانية الأساسية للسعادة في مجال الفنون ضمن كتاب «نقد ملكة الحكم» (1790) لفيلسوف التنوير الألماني إيمانويل كانط. وهنا تحدث قطيعة مع السعادة كما يقترحه النموذج اليوناني للفلسفة ويقع توقيع نموذج الحريّة بما هو أفق الإنسان الحديث الى حدّ اليوم، وحيث نمرّ في الجماليات من مفهوم السعادة الإتيقي إلى مفهوم اللذة الإستطيقي. وهو مفهوم يوقّع ثلاثة أحداث فكريّة كبرى هي: صياغة براديغم الاستطيقا صياغة فلسفية حاسمة بوصفه يقوم على اكتشاف ملكة الذائقة الجمالية. واعتبار الذوق الجمالي أي ملكة الشعور باللذة والألم ملكة مستقلة متحررة من مطلب الحقيقة المعرفية ومن حقل التشريع الأخلاقي العملي. وأخيراً اعتبار اللذة الجمالية لذّة لا نفعية لا علاقة لها بأي مضمون حسّي أو شخصيّ. فاللذة الجمالية التي تمنحنا إيّاها الفنون هي لذّة لا علاقة لها بالمتعة أي بالترفيه، بل هي لذّة تفكّرية تكمن سعادتها وفرحتها القصوى في تأمّل الانسجام بين الأشكال في ضرب من اللعب الحرّ للمخيّلة. وذاك هو معنى الجمال بوصفه «موضوع إشباع بلا منفعة». والمقصود أنّ اللذة الجمالية التي تظهر لأوّل مرّة في الإستطيقا بوصفها علامة جوهريّة على ولادة الذات الحديثة، بكل مكاسبها المعرفية والأخلاقية والعقائديّة والجمالية، لا يمكن أن تكون شيئاً آخر غير تعبيرة فلسفيّة نموذجية عن ذات حرّة مستقلّة عن كلّ الوصايا والضغوطات والإلزامات الخارجة عن تشريعها الخاصّ. فالذائقة الجمالية هي قدرة الذات على الحكم على الأشياء بوصفها جميلة أو قبيحة دون أن تكون في ذلك تحت تأثير أي شكل من المنفعة الشخصيّة أو من الأحكام الخارجة عن نطاق الجمال الخالص.
إنّ اللذة الجمالية التي شرّع لها كانط، بالرغم من تأسيسها لمنطقة خاصّة بالفنّ مستقلّة عن العلم وعن الأخلاق، وبالرغم من فضائل هذه اللذّة التواصلية والكونيّة بوصفها تقوم على حس مشترك بالانتماء الى الإنسانيّة كفكرة استكشافيّة تجمع كلّ المنخرطين ضمن باحة الجميل بعامّة، فهي قد حصرت الفنّ والجمال ضمن دائرة لذّة خالصة من كلّ علاقة بالمتعة الحسية وهي في ذلك سقطت فيما سمّاه نيتشه ومن بعده أدرنو وجوس في ضرب من الزهديّة الجمالية التي عزلت الجمال عن كلّ علاقة بالمتعة الحسية والجسدية.

المتعة الجمالية
في نص له تحت عنوان «المديح الصغير للتجربة الجمالية» (1972) ينشّط المؤرّخ والناقد الأدبي الألماني هانس روبرت جوس (1921-1997) مفهوم المتعة الجماليّة بوصفها التعبيرة الجوهرية عن مفهوم السعادة الفنّية، وذلك ضدّ التصوّر المبتذل عن المتعة، وضدّ الزهديّة الجمالية الكانطية والجماليات السالبة لأدرنو الذي حارب مفهوم المتعة الفنّية واعتبره مفهوما فظّا لا ينبغي الاطمئنان إليه.. بحيث يكون الوعد بالسعادة ضربا من الشهادة على الآلام المتراكمة في الحربين العالميتين وفي صوت الضحايا. وفي مقابل هذا التصوّر السلبي للسعادة الجمالية يعتبر جوس أنّ «حالة المتعة التي يتضمّن الفنّ إمكانيّتها هي أساس التجربة الجماليّة.. وعلينا التعامل معها بوصفها موضوع تفكير نظريّ.. وذلك إذا أردنا الدفاع عن وظيفة اجتماعية للفنّ». والمقصود من ذلك هو أنّ السعادة الجمالية تأتي من قدرة الفنّ على منحنا متعة حسيّة تجعل من المتفرّج أو المشاهد أو القارئ مفهوما نشيطا داخل التجربة الجمالية. وعليه لا ينحصر الفنّ في الثنائي التقليدي «الفنّان والأثر الفنّي» وفي الحوار الصامت بينهما، إنّما يمنحنا الفنّ تجربة فنّية متاحة للجميع. فالمتفرّج الذي يتمتّع بالأثر الفنّي، (سينما، مسرح، لوحة راقصة، موسيقا، شعر..) هو أيضا طرف أساسيّ في التجربة الفنّية، بل هو الشاهد المباشر على ضرب من السعادة الجماليّة التي تدرّبه على العيش معا، وعلى المشاركة في بناء قيم جمالية واجتماعيّة، وتربية ذائقة مشتركة. فالمتعة الجمالية تمنحنا سعادة اجتماعية من خلال قدرة الفن على اختراع آفاق انتظار للمعنى، تكون بمثابة بناء فضاءات عمومية تجمع بين الناس وترتقي بهم الى مستوى القدرة على اقتسام قيم ذوقية تشرّع لمشترك جماليّ يجمعهم، ضدّ كل أشكال المشترك العدمية والسلبية العنيفة، الطائفية والعرقية والدينية والقوميّة...

.. و3 دلالات
يمثّل كتاب «ميتافيزيقا السعادة الحقيقية» بتاريخ 2015 للفيلسوف الفرنسي ألان باديو آخر التعبيرات الفلسفيّة النموذجيّة على إمكانية القول بالسعادة الفنّية. وينطلق باديو من تشخيص للحضارة المعاصرة بما هي حضارة سيادة البضاعة ومنطق السوق والمال ممّا يجعل من السعادة تُختزل في مجرّد الإشباع الاستهلاكي للسلع. ويقترح باديو استعادة مفهوم السعادة في علاقتها بالحقيقة من أجل تأسيس ميتافيزيقا للسعادة الحقيقية ضدّ «الهشاشة الخطيرة للعالم» التي تهدّد في كل لحظة بسقوطه في لامتوقّع مرعب، من قبيل ما يحدث كلّ لحظة من عنف واضطهاد وحروب.. وإزاء مشهد البؤس البشري المعاصر لا ينبغي التخلّي عن العالم لصنّاع الخراب والمدمنين على تجارة العدم، بل بوسعنا الدفاع عن السعادة الحقيقية. فيم تكمن هذه السعادة إذن؟ ينطلق باديو من قراءة لخريطة الفلسفة المعاصرة مؤوّلا طرق الفلاسفة في اعتبار السعادة، مميّزا في ذلك بين ثلاث دلالات فلسفيّة لها هي:
أولا، تأويل معنى الوجود لدى التأويليين (هيدغ، غادامير، ريكور)، بحيث تكون السعادة الحقيقية هي الإقامة ضمن منفتح المعنى الخفي أو الغامض أو المتردّم تحت غبار اللغة.
ثانيا، السعادة هي الاقتسام الديمقراطي لمساحة المعنى وهو ما تقترحه الفلسفة التحليلية التي تشتغل على رسم الخطوط الفاصلة بين المعنى واللامعنى.
ثالثا، تكمن السعادة لدى روّاد ما بعد الحداثة في تفكيك كل أشكال المعنى القائم على المفاهيم الحديثة من قبيل الذات، التاريخ، التقدم، الثورة، الإنسانية... وذلك من أجل اختراع أشكال جديدة من الحياة.
وضد هذه الأشكال الفلسفية من السعادة التي تخلّت عن الحقيقة وعن الميتافيزيقا وتمسّكت باللغة براديغما وحيدا للفلسفة، يقترح باديو مصالحة جديدة مع الحقيقة من أجل الدفاع عن السعادة نفسها. كيف يتمّ ذلك؟ يتعلّق الأمر بأربعة تعبيرات أساسيّة عن السعادة يكون الفنّ أحد تجليّاتها هي: الحماسة السياسية واللذة الجمالية والغبطة العلمية وفرحة المحبّين. السياسة والفنّ والعلم والحبّ كلّها معا حقول لنثر السعادة على أنحاء شتّى: فرحة المحبّ بلقاء حبيبته، غبطة العالم لاختراعه حقيقة جديدة، حماسة السياسي بنجاحه في إسعاد شعبه، دهشة الفنّان أمام الخلق الفنّي.. وعليه يقدّم باديو تعريفات طريفة وغير مسبوقة للسعادة التي لم تعد «إشباعا شخصيا أو فكرة مجتمع أشبع فيه الجميع ملذّاته»، إنّما السعادة هي «أن نتمتّع بالوجود المقتدر والخلاّق لشيء ما، قد كان من وجهة نظر العالم أمرا مستحيلا». ومن أجل ذلك ينبغي تأهيل الذات مرّة أخرى في معنى مغاير، من أجل أن تكون «السعادة شعور الذات بوصفها استثناءاً محايثاً». فالذات بهذا المعنى لا يمكنها الانغلاق على هويّة ما لأنّ السعادة تقال دوما في أفق الإنسانيّة الكونيّة. إنّ أثراً فنّياً أو اكتشافاً علمياًّ أو حبّاً حقيقيّاً أشكال من السعادة تهمّ الإنسانية برمّتها.

معانٍ عربية
المفهوم السلبي للسعادة أي شفاء البشر من الألم وجعلهم قادرين على تحمّل قساوة أقدارهم، سوف يقع استئنافه من جديد في العصر الوسيط ولدى العرب بخاصّة على معان عدّة: من جهة ما يكون الفنّ ضربا من الإمتاع والمؤانسة، أو من أدب مجالس الظرف والشعر وأخبار العشّاق ونوادر الحمقى والمغفّلين التي تدفع عن الناس الأحزان وتبهج الأنفس وتجدّد منسوب الحياة في الأجساد المنهوكة بإكراهات الزمان وصروفه. لكنّ هذه الدلالة الأولى للسعادة الفنية بوصفها إمتاعا وترفيها عن الأنفس كي لا تُصاب بالملل والكآبة، وشفاء لها وتطهيرا من الانفعالات البائسة والحزينة، اختزلت الفنّ ضمن دائرة الرفاه وجعلته حكرا على بلاطات الملوك ومجالس الأمراء والنبلاء، الأمر الذي قطع معه الفنّ الحديث وذلك بدخوله أفق الإستطيقا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©