السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حلم البشرية الأبدي

حلم البشرية الأبدي
6 سبتمبر 2018 00:08

لا يمكن بحال ـ أبداً ـ حصر التصورات والأفكار والكتابات والنصوص، إلخ.. التي سعت لمقاربة مفهوم «السعادة». «السعادة» شأنها شأن الخير والحق والجمال، مفاهيم مجرّدة تتأبى على الحصر والتعيين. يمكن الخوض في نقاش فلسفي معقد حول المفهوم ضمن مباحث الأخلاق، ويمكن استقصاء نظرات المفكرين والفلاسفة حول ماهية السعادة؟

في كتابه الممتع «السعادة.. موجز تاريخي» (صدر قبل سنوات عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية الشهيرة)، يستعرض الكاتب نيكولاس وايت، آراء الفلاسفة وتعريفاتهم للسعادة خلال 25 قرنًا بصورة شارحة ومبسطة وموجزة، ويناقش نظريات السعادة المختلفة: هل السعادة هي «اللذة»، أم أنها في تحقيق الرغبات والأهداف؟ هل هي شعور «روحي»، كما يقول الرواقيون أم أنها في «المنفعة المادية» المباشرة؟
ينتهي الكتاب الممتع، (وهو بالمناسبة كتاب موجهٌ للقارئ العادي، ولهواة الفلسفة والمعرفة الجادة أيضاً) إلى أنه لا يوجد معنى محدد للسعادة يمكن الاسترشاد به في كل موقف، تكاد تكون السعادة خبرة خاصة تختلف من شخص إلى آخر. هذا هو الثابت حتى الآن، أو ما لا يكاد يختلف عليه الباحثون والمفكرون.

خبرة إنسانية
إذن، فالسعادة خبرة إنسانية خاصة جداً، قد لا تتكرر للإنسان الواحد في الحياة الواحدة مرتين متطابقتين تمام الانطباق. لكنها أيضاً خبرة من الممكن أن يعيشها المرء في حياته أكثر من مرة.. بقدر المساحة التي تتوافر فيها هذه الخبرة بقدر ما يطلق البعض على حياته وصف «حياة سعيدة».
الأغلب في حياة البشر وتاريخ البشرية خبرة الشقاء والبؤس ومعاناة العيش؛ لكن البحث عن السعادة هو أحد أحلام البشرية الأبدية؛ لا يتوقف، ولن يتوقف ما ظل إنسان على وجه الأرض.
ثمة بحث عن السعادة ودروبها وأسبابها المادية والروحية في كل الثقافات والحضارات. حضارتنا العربية الإسلامية أنتجت نصوصاً رائعة ـ قديماً ووسيطاً وحديثاً ـ تبحث عن السعادة، تتساءل عن الماهية والوظيفة، وسيبرز من بين مثقفي القرن الرابع الهجري المغترب الأشهر أبوحيان التوحيدي الذي سيخص السعادة ببحث وافٍ، لكننا سنجد هذا البحث مشتتاً متشظياً بين ثنايا كتبه المفارقة «الإمتاع والمؤانسة» و«المقابسات»، و«الهوامل والشوامل»..

التوحيدي.. السعادة القصوى
في كتابها المرجعي «التوحيدي ـ الغفلة والانتباه»، تكشف الباحثة المتخصصة في التصوف الإسلامي وفكر أبي حيان التوحيدي، الدكتورة هالة فؤاد، أن نصوص أبي حيان التوحيدي تكشف عن أن الألم تجربة وثيقة الصلة بالوحشة والعزلة؛ لأن السعادة والمتعة بطبيعتها باسطة، فنحن حين نكون سعداء، نعيش درباً من الانسجام مع العالم الخارجي مما قد يؤدي بنا إلى نسيان ذواتنا.
ولعل لحظة السعادة وفقاً لهذا التصور تعبر عن غفلةٍ ما تكتنف الوعي إذ يسقط مفتوناً بما يحقق له السعادة، متوهماً لبرهة أنه باقٍ لا يزول. أي أن السعادة خدعة وفخ منصوب للوعي يفقد داخله قدرته على رؤية العمق الموحش للوجود الموضوعي المبتذل. أما الألم، فإنه لحظة إفاقة مباغتة، حيث معايشة لحظة الفقد للأمان الوهمي، والانسجام السعيد الزائف.
يقول التوحيدي، «عمارة المسكن وحفظه وتنقيته وإصلاحه وتصريفه على ما يعينه على طلب السعادة في العاجل والآجل؟!». تتحقق السعادة بحسب التوحيدي إذا أخذنا بطريقها فيتحقق لنا ما يجعلنا سعداء هانئين.
يقول في «الإمتاع والمؤانسة»:
«ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا لأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمني من الإرادة، فنجمع بين علو المرتبة، وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور، واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبُعد الصيت...».
ويقول أيضاً، «أما السعي الطبيعي فغاية الإنسان فيه حفظ الصحة على بدنه والاعتدال على مزاج طبائعه لتصدر الأفعال عنه تامة غير ناقصة، وذلك بالتماس المآكل والمشارب والنوم واليقظة والحركة والسكون والاعتدال في جميع ذلك إلى سائر ما يتصل بها من الملبس والمسكن الدافعين أذى القر والحر والأشياء الضرورية للبدن ولا يلتمس غاية سواها، أعني التلذذ والاستكثار من قدر الحاجة لطلب المباهاة واتباع النهمة والحرص وغيرهما من الأمراض التي توهم أن غاية الإنسان هي تلك. وأما سعيه العقلي، فغايته فيه أيضاً حفظ الصحة على النفس لأنها ذات قوى. ولها أمراض بتزيّد هذه القوى بعضها بعض وحفظ الاعتدال هو طبها والاستكثار من معلوماتها هو قوتها وسبب بقائها السرمدي وسعادتها الأزلية».

الحكيم.. مقدار ثمين
من يمارسون الإبداع في الفن والأدب يكادون يجمعون على أنّ في بعض الفن ـ رؤى وممارسة ـ سعادة لا يدركها غيرهم؛ منهم من يمارس العزف على آلة العود أو الناي أو البيانو.. منهم من يمارس الغناء والتلحين؛ في مثل هذه الممارسات تكون هناك تركيبة موسيقية تجعل هؤلاء الفنانين «سعداء»، يقولون إنهم سعداء سعادة ربما لا يدركها غيرهم.
ولا يبعد الأمر في ما تحققه الكتابة من سعادة لأصحابها؛ أو ما تجلبه من شقاء في نظر بعضهم الآخر!
كان توفيق الحكيم يقول «إن السعادة التي تلزم لنا نحن الفنانين، لنقوم بالأعمال الكبار ينبغي أن تكون بمقدار!! مقدار صغير ثمين مثل «الراديوم». فإذا انغمرنا في حوض من هذه المادة السحرية، فإنها تنقلب في نظرنا ماء قراحاً لا فعل له ولا أثر».
الحكيم كان من المولعين بالبحث عن العلاقة بين الفن والسعادة؛ كان يرى أن الفنانين موكلون بالبحث عن سعادة ليست على الأرض! يقول:
«تتخلى الطبيعة غالباً عن الفنانين العظام، وتتركهم يبحثون سُدى عن السعادة فلا يجدونها كما يجدها الآخرون ملقاة كالفاكهة الناضجة ساقطة تحت الأشجار.. إنما هي لهم شيء بعيد.. كلما مدوا إليه أيديهم ابتعد عنهم وتركهم بائسين.. عندئذ ينكبون طول حياتهم على كنوز نفوسهم وحدائقها اليانعة يستخرجون منها للناس فاكهة من ذهب وفضة، تقصر الطبيعة أحياناً عن تقديم مثلها.. ولكن الطبيعة تنظر إلى الفنان نظرة التشفي مع بسمة السخرية».. (من البرج العاجي)

محفوظ .. مخايلة السعادة!
في مضمار الأدب والنصوص الإبداعية المكتوبة؛ رواية وقصة ومسرح ومقال، ستجد أن «السعادة» والبحث عنها والحلم بها هي أحد التيمات والمضامين الكبرى التي سعى إليها الكتاب منذ أقدم العصور حتى زمننا الراهن. كاتب العربية الأكبر والأشهر في تاريخنا الحديث والمعاصر، نجيب محفوظ، كان يرى أن السعادة «قصيرة الأجل، وأنها لا تعمر في النفس طويلا كالحزن أو الحسرة»، وأن أيام السعادة والفن لا تدوم طويلاً.. في نصه «أحلام فترة النقاهة» يروي «رأيتها في الحجرة معي. ولا أحد معنا، فرقص قلبي طرباً وسعادة، وكنت أعلم أن سعادتي قصيرة. وأنه لن يلبث أن نفتح الباب ويجيء أحد».
لحظات السعادة عند محفوظ قصيرة، لا تدوم، مختلسة، كالحلم، فلا فرح يبقى ولا حزن يدوم؛ لكننا نلجأ أحياناً إلى المنطق لنستمد منه الطمأنينة على أمور لا تمت إلى المنطق بصلة، ومنها السعادة بطبيعة الحال! السعادة عند محفوظ قد تكون في الحب أو الرضا أو إرضاء الرعية (المواطنين) أو في البحث عن الجمال أو في إدراك السلامة الروحية! كل تلك معاني وقيم ظهرت بوضوح وجلاء عبر نصوص محفوظ الباذخة..
لكن في الوقت ذاته لم يكن المفهوم «السعادة» بهذا الوضوح الذي قد يرتأيه البعض.. فثمة وجه وجودي، ومعرفي، وسياسي للسعادة أعمق من أن يسلم نفسه للوهلة الأولى لقارئ متعجل أو عين غير ودودة!
يتساءل بطله شهريار في درته الروائية المنسية «ليالي ألف ليلة»:
«ثمل الوزير بفرحته صامتاً، فقال السلطان:
ـ وأنجبت لي وليداً فسكنت عواصف النفس الهائجة..
ـ لتهنأ يا مولاي بالسعادة في الدارين..
تمتم السلطان باقتضاب:
ـ السعادة!
قلق دندان لسبب غامض.. ارتفع صياح الديكة.. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه:
ـ الوجود أغمض ما في الوجود!
غير أن نبرته تخففت من الحيرة، وهو يقول:
ـ انظر!
نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس..»
الحق والقانون
وفي درته الروائية السبعينية القصيرة «حكايات حارتنا» يقر محفوظ بأن السعادة في فرض النظام وسيادة القوة، (هل نقول الحق؟!)؛ يقول على لسان الراوي: «في زمنٍ مضى لم أدرك منه إلا ذيله، كانت الفتونة هي القوة الجوهرية في حارتنا. هي السلطة، هي النظام، هي الدفاع، هي الهجوم، هي الكرامة، هي الذل، هي السعادة، وهي العذاب».. (حكايات حارتنا)
بعيدًا عن البحث عن ماهية السعادة وجوديا ومعرفيا في «ليالي ألف ليلة»؛ سيطرح محفوظ في الرواية ذاتها وجها آخر للسعادة؛ سعادة البشر من حيث هم مواطنون لهم الحق في أن يحظوا بالسعادة والرضا في حياتهم؛ هنا سيشتبك محفوظ مع السياسة دون أن يشعر أحد!
«إذا نامت الرعية نام الخير والشر، الجميع شغوفون بالسعادة ولكنها كالقمر المحجوب وراء سحب الشتاء، فإذا وفق حاكم الحي الجديد سليمان الزيني تساقطت قطرات من السماء مطهرة الجو من بعض ما ينتشر فيه من الغبار..». إذن للسعادة وجوه أخرى؛ بيّنها توفيق الحاكم في تطهير حياة المحكومين من الشر والفساد والتعاسة؛ قد يكون الماضي قمة التعاسة والبحث عن المستقبل هو السعادة عينها.. يسأل السلطان شهريار معروف الإسكافي:
«ـ هل حظيت بالسعادة يا معروف؟
ـ سعادة بلا حدود يا مولاي..
ـ ألا يفسد الماضي عليك سعادتك أحيانا؟
ـ ما مضى سلسلة من تعاسات تلقيتها من الآخرين، ولكني لم أرتكب ما أندم عليه!
ـ هل تنعم بالحب يا معروف؟
ـ الحمد لله، لي زوجة تهب السعادة مع أنفاسها..
ـ جميع ذلك بفضل الخاتم؟
ـ بفضل الله يا مولاي!
فصمت السلطان مليا، ثم سأله:
ـ أتستطيع أن تهب السعادة للآخرين؟
ـ لا حدود لقوة الخاتم، ولكنه لا يستطيع اقتحام القلوب..
تجلى في أعماق عيني شهريار فتور يوحي بخيبة الرجاء».
وفي موضع آخر انمحى فيه الزمان وذاب المكان؛ تقول الجميلة التي ليس لجمالها مثال:
«ـ لم يمح الماضي من رأسك بعد..
قال كالمعتذر:
ـ إني سعيد على أي حال سعادة لم يعرفها آدمي من قبل..
فقبّلته قائلة:
ـ ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضي تماماً..
(رواية «ليالي ألف ليلة» لنجيب محفوظ).

مطاردة الحبيب
ويكون السعي وراء الجمال سعادة أخرى؛ البحث عنه، مطاردته، وصولاً إلى نشدان المنى والظفر بالحبيب! في «أصداء السيرة الذاتية»، وتحت عنوان «السعادة»؛ سيورد محفوظ هذا النص البديع:
«رجعت إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة.
لم يبن من صورته الذهبية أيّ أثر يذكر.
على جانبيه قامت عمارات شاهقة في موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة.
تذكرت بكل إكبار طلعته البهية وروائح الياسمين.
وتذكرت الجميلة تلوح في النافذة باعثة بشعاعها على السائرين.
ترى أين يقع قبرها السعيد في مدينة الراحلين؟ ويوافيني الآن قول الصديق الحكيم: «ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©