السبت 23 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عيشوا.. لا تنتظروا غداً

عيشوا.. لا تنتظروا غداً
6 سبتمبر 2018 00:08

أَوُجِدْنَا ههنا لنتعذَّب أم لنتمتَّع؟ هل سينتصر الخوف من الألم إلى درجة أنّه يحجب رسالة الأفراح الأولى؟ ما هي الحياة التي نريد أن نحياها؟ مَنْ منّا لا يحبّ أن يكون سعيداً؟ ما هي السَّعادة؟ ما هي شروطها؟ هل هناك حقّ في السَّعادة؟ وما واجب الدولة في تحقيق وتدبير تلك السَّعادة المنشودة للجميع؟
هذه بعض الأسئلة المحورية الصميمة، التي طرحها وحفر في أفقها العالي الفيلسوف الفرنسي هنري بينا – رويز، في كتابه الماتع: «دروس في السَّعادة» (*). فهذا الكتاب الذي يحمل في طياته الكثير من «جنوح الفلاسفة الشِّعري»، وبدروسه الثلاثة عشر؛ يبدو لي بأنه كُتب بسعادة، بحبٍّ خالص وتأمّل معمّق؛ عن السّعادة، ومن أجلها. فهو يرفض جميع تلك الدعوات السوداء التي تحاول أن تدفعنا نحو حافَّة اليأس، أو التي تزيِّن لنا متع الانتحار والموت، أو تلك الأصوليّة منها التي تعمل كالوباء من أجل أن تسجن وعينا وجسدنا وروحنا، خلف غضبان الكراهية والتعصب والجهل واحتقار الآخر ومنعنا من الاستمتاع بأفراح الحياة. فرويز، وعلى الضدّ من ذلك الخطاب التشاؤمي أو الحرباوي المسيَّس، يقول:«ومهما اعتقدنا أنّنا تِعسون، فإننا حينئذ، نخوض تجربة مصيرية. فحتّى حزننا وكآبتنا يصبحان بمثابة نظرة [نلقيها] على الأشياء، نظرة متحرّرة ومنعتقة من كل شيء. مشاعرنا هي لنا، ولكنّنا لسنا لها بكلّيتنا. وهكذا، تكون ذكرى سعيدة قائمة على النّقيض من يأس الحاضر، تُذَكِّرُ بأنه لا يمكن أبداً، للحظة ما، أن تلخّص وحدها الحياة برمتها».
إن ما يدعو إليه رويز من أجل سعادة الجميع، هو أن يعرف المرء أولاً كيف يفكّ وثاقه، ويخرج من سجونه الداخلية، لينفتح على ما يمكن أن يحدث مجدّداً. وهذا لن يتم إلاّ عبر استعمال هِبة الفكر، الفكر الذي يحرّر، والذي تنشأ من خلاله حياة أخرى وزمن آخر. فالفكر، هو الإحساس والحلم معاً. وهو الفسحة الدّاخليّة، والتَّفكير وقد فُكَّ وثاقه. لكن هذا الفكر المحرِّر نفسه، والذي هو بمثابة الوعد بالعيش في سعادة؛ لن يعطي قوته العظمى المرجوة والدافعة للتقدم والسلام، في ظل غياب الحرّية الإنسانية. تلك الحرّية، التي تصون حقّ الكائن في الحياة السّعيدة، وتعظّم من قيم الإنسانية الكونيّة المُثْلى، وتشدّ من لُحمة المجتمع وتآزره في بناء موحّد ومتعدّد، وتفسح المجال واسعاً لتفتح أفراده وتطورهم وازدهارهم في حياتهم اليوميّة والمستقبليّة.
وعليه، وبما أن السّعادة، كما نبَّه كانط، هي إبداع حر لكل شخص؛ فإنّ حقّ الجميع في السّعادة، يجب أن تكفله الدولة وتؤمن شروط تحققه، وأن تجعل الحدوث الحرّ لهذه السّعادة أمراً ممكناً. لهذا ستظل السّعادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحرّية، الحرّية المسؤولة أقصد، التي لا تتعدى على حرّيات الآخرين ولا تتجاوز حدود القوانين المنظّمة لها. إنّ السّعادة إذاً، لا يمكن لها أن تعيش أو تزدهر وتطرح كامل ثمارها المشتهاة، في ظل سيطرة الأنظمة الدّكتاتوريّة الفاشلة التي زعمت صنع سعادة البشر، بوجه من الوجوه، غصباً عنهم، وقد ولّدت، في واقع الأمر، أشكالاً جديدة من القمع والاستعباد.
هكذا، وبهذا الفهم العالي والمفتوح على آفاق السّعادة الذي شرعه رويز على مصراعيه، ستظل وصية الشاعر الفرنسي رونسار بيار التاريخيّة قائمة: «عيشوا، لا تنتظروا غداً». إنها دعوة تحريضيّة لعدم إرجاء السّاعة السّعيدة، التي ستعلن عن الحياة. إن الزّمن يمرّ، بالنسبة لكائن مثلنا مآله الفناء، ولابدّ لنا من النهوض من كبوات يأسنا وعذاباتنا، وأخذ نصيبنا من مذاق السّعادة وخيراتها. لقد آن الأوان إذاً، لإذكاء الطموح إلى السّعادة.

إن فلسفة السّعادة هي، تذكير بسيط بطرائق الوجود السّعيد. وهذا يعدّ كثيراً.
***
ستشرق الشّمس من جديد. هكذا يعلن الفكر، في هدوء، عن تذكير بسيط. وإذا بالمشهد الدّاخليّ يكذّب العالم الآنيّ، لكي يرسي المستقبل، أو بكل بساطة [يعلن] عن وعد الزّمن.
***
الفكر سفر، خارج ضغط الزّمان والمكان. الفكر هو الإحساس والحلم معاً. وهو الفسحة الدّاخليّة، والتّفكير وقد فُكّ وثاقه. هو حوار داخليّ للنّفس مع ذاتها، كما كان يقول أفلاطون. هو دهشة وقدرة ثمينة على الانشطار والبقاء على مسافة من الذّات، لكي نكتشف أنّنا لا نُخْتزل فيما نعتقد أن نكون عليه في لحظتنا الرّاهنة. إلاّ أنّ الفكر هذا، هو انعتاق، إذا ما انتبهنا إلى قوّته واستعملناها.
***
ستنشأ قريباً، عن الفكر الذي يحرّر، حياة أخرى، وزمن آخر. ستكون السّاعة السّعيدة تلك التي نكتشفها ونحبّها. تلك التي نهب اسمها إلى حلم كلّ واحد منّا، عندما يُلقي على العالم نور انتظار وأمل: إنها السّعادة.
***
لننشّط الذّاكرة كي نستحضر لحظات أخرى من الحياة، فنعرف أنّ المحنة الحاضرة ليست نهاية المطاف. لننشّط الخيال، حتّى تذوق قدرتنا على إعادة تركيب العالم؛ وربّما الفعل فيه، في يوم من الأيام، حتّى يكون أقرب إلينا. لننشّط التفكير الذي يجرّد الأشياء المكبّلة من لغزها، ويحيل ما يحدث إلى أسبابه. لنقرن بين الذّاكرة والخيال وبين التّفكير والحساسيّة. لننتبه إلى الزّهرة الطّريّة، وإلى تحليقة العصفور الذي يجيل نظره في السّماء، وإلى الظلال التي تعيد رسم الواجهات. وباختصار، علينا أن نعرف كيف نتذكّر الحضور في العالم، بدل أن نغرق في الهوس الذي يخزنا وخزاً. لكن علينا أن نعرف أيضاً كيف نتذّكر قدرتنا العجيبة على الغياب فيه.
***
أن يعرف المرء كيف يفكّ وثاقه، لينفتح على ما يمكن أن يحدث مجدّداً، معناه أن يكون العيش وعداً – أو هو يصبح كذلك من جديد – ويقتضي نظرة طفل جديدة للاستفادة من ذلك.
***
إن اتخاذ الوعي لمسافة لهو نقطة ثبات يقاوم الملل والضّعف والعلق في دوّامة العواطف.
***
هل كانت الفلسفة تستحق منّا عناء ساعة واحدة، إن هي لم تساعدنا على أن نكون سعداء؟ لقد تفشّت كراهية، صوّرت لنا الفلسفة على أنها محض نظريّة مجرّدة وعويصة، لا صلة لها بالحياة العمليّة، في حين أنّ معظم الفلاسفة، إن لم يكونوا كلّهم، فهموها وفكّروا فيها على أنّها فنّ حياة، وحكمة بالفعل. وهي لا تكتفي بتنمية النظر المتبصّر للعالم والفعل، بل تضطر إلى ضرب من ضروب التّصرف، لكي تترجم ذلك عمليّاً.
***
يقول ديكارت: إنّ الرّافض لممارسة الفلسفة هو كمن اختار العيش في العمى.
***
الفلسفة هي بحث عن الحكمة في العمل والتفكير، سواء بسواء. الفلسفة هي اعتناء المرء بأفكاره، قدر اعتنائه بجسده ومظهره.
***
أقود تصرّفاتي ولا أكون خاضعاً. يتعلق الأمر ههنا، بالحرّيّة على وجه التحديد. فالكائن الحرّ يتحكّم في أفكاره، ولكنه يتحكّم أيضاً في مشاعره، من ألطفها إلى أعنفها في حدود الإمكان. تحكّم من هذا القبيل يجعل بالإمكان أيضاً التحكّم في الأفعال بتسليط الضوء عليها.
***
عندما تُقرّر أن تتأكّد، يتعلق الأمر إذن، بعيش الفكر على أنّه تحرّر، لا على أنّه ملاذ.
***
إن وطأة الواقع لن تخضع هذا الفكر إلاّ لكي تقضي على إنسانيّة الإنسان. ههنا، جرّبت المحاولات القمع.
***
إن سياسة السّعادة ليست الإكراه الذي يفرضه نموذج موحّد للاكتمال، بل هي، على عكس ذلك، رهان الحرّيّة الذي يقرّر إحياء ثراء الممكنات.
***
الفكر فَرحٌ. وهو كذلك بطاقاته الخاصّة التي لا يمكن لأيّ كان أن يسلبه إياها.
***
إنها سعادة التّفكير، سعادة تحقيق السّلم الدّاخليّة التي لا تلغي المشاعر القويّة، وإنّما تنمّي القدرة على التحكّم فيها. وهذا يعني أنّ ملكة التفكير تعرف كيف تهب لنفسها أفراحها الخاصة و«عواطفها الدّاخليّة».
***
لنحمل لفظ الدّعوة على معناه الحرْفيّ، ولنتأمل الحياة بما هي قوّة متعدّدة الأشكال للسّعادة.
***
لا توجد بحقّ وصفات للسّعادة. هناك، على أقصى تقدير، نصائح، أو ضرب من التّذكير، لما يقدر كل شخص على فعله لكي يكتمل.
***
على المرء أن يتعلّم كيف يحيا على نحو ما، دون أن ينسى الأفراح الأصيلة، أفراح الحضور البسيط في العالم.
***
إن نصائح الحكماء، المحرّرة في قواعد عمل لا قيمة لها، دون إرادة حرّة. لا أحد يقدر أن يفكّر نيابة عنّي، ولا أن يحيا حياتي. إن هذا الوجود المُهْدَى إليّ هو وجودي، لا وجود إنسان آخر. إنها تجربة فريدة مبتكرة، مع انسياب الزّمن وتتابع الأيام.
***
أكون حرّاً في إعادة تعريف ذاتي، وفي صنعها وإعادة صنعها، إذا كانت الحياة تفهم، على الأقل، بأنها نزوع دائم نحو ممكنات، لا يمكن نفادها في أيّ وقت كان.
***
فنّ الحياة هو أن يعرف المرء كيف يختار وجهته ويتّجه نحو ذاته، بما هو كائن مستقل لا يتبع أحداً. إنّه فنّ حرّيّة، يكتفي بذاته، كما رأى ذلك الرّواقيّون. وليس يعني ذلك أنّه يستبعد العلاقة بالغير وملذّات الحبّ أو الصّداقة. إنه بالعكس، يحملها إلى الأحسن، عندما يخلّصها من كلّ مقاربة نفعيّة وغَرَضيّة.
***
فنّ الحياة بناءٌ للذات واكتمال حرّ، إلاّ أنّه لا يتوافق مع أيّ يقين يخصّ الأشياء التي لا ترجع بالنظر إلى المبادرة الإنسانيّة.
***
الحياة متخشّبة، ولا شيء يقدر على تمليسها. وما من عمل يقدر على إخضاعها وتشكيلها لمقاس، كما يفعل الحرفي بالخشب.
***
فن العيش ليس تقنيّة، ولا يمكن صنع سعادتنا كما نصنع أثاثاً أو منزلاً.
***
تجّار السّعادة مشعوذون: فهم يزعمون إعفاء من يغدقون عليهم المال، بدافع الضّعف أو الجهل، من جهد التّفكير.
***
تستمدّ السّعادة منبعها من هذا الاستعداد للمسك بثراء الواقع فتطرد الملل، حتّى وإن كان المرء وحيداً.
***
يكفي أن يتعلّم المرء كيف يحتفظ بأفضل ما في الحياة، حتّى يكون أكثر فرحاً. وهكذا، يعزّز القسط الإيجابيّ للوعي، كما يعزّز الوجود أيضاً.
***
السّعادة، هي قبل كلّ شيء، ساعة زهو وطالع خير. هي لحظة حظّ ونعمة خاطفة، ووديعة تعطي الحياة بسمتها الأولى.
***
إن فرحة الفهم، وسعادة الفعل، والرّقة الواثقة للصّداقة، والانتشاء السّاطع للحبّ، تمثّل جزءاً من المثل الأعلى للسّعادة.
***
السّعادة الشخصيّة تشعّ. إنها هبة للآخرين. والضّغينة وحدها أو الضّعف المتنكّر في صورة فضيلة هما اللّذان يمكن أن يَحْزَنَا لذلك.
***
القاعدة الأولى هي ألاّ تؤجّل أبداً ساعة الاستمتاع بالسّعادة: «لقد ولدنا مرّة واحدة، ومن المستحيل أن نولد مرّتين، وسوف لن نكون خالدين أبداً: أنت، ومع ذلك، يا من لست ابن الغد، تؤجّل الفرح: الحياة تذوي بالزّمن، وكل واحد فينا يموت، وهو مشغول».
***
الفرح هو المرور إلى أقصى درجات الكمال. والكمال هو التحقّق النّاجز للكائن.
***
إن حريتي لا تقف عندما تبدأ حرّية الغير، بل، على عكس ذلك، إنّها تكتمل بقدر أفضل، عندما تتأكّد حرّية الغير أكثر.
***
من يعش بتوجه من العقل يحبّ لغيره ما يحبّه لنفسه، (سبينوزا).
***
إن الحرّية، شرط السّعادة، لا تتجزّأ. إن جُرحت، هنا، ستكون هشّة هناك، وفي كل مكان.
***
لا وجود لسعادة حقّ إلّا في الحرّية. إنها حقيقة بسيطة إلى أبعد الحدود، ومع ذلك، منسيّة في الغالب.
***
إن الانعتاق الفكريّ والأخلاقيّ يعطي الانعتاق المدنيّ قوّة، لا ريب فيها في البدء، وهي منبع أفراح جديدة.
***
إنّ الفرد الذي يكون سيّد نفسه ينفتح على الإنسانيّة جمعاء.
***
باختصار، أن تحبّ لغيرك ما ترضاه لنفسك، هو ذا اكتشاف منابع السّعادة. هذا الكرم هو ترياق ضدّ التّزمّت والتعصّب، ولكن، أيضاً، ضدّ كلّ إرادة تطالب بامتيازات باسم اختيار روحاني خاص.
***
الجهل هو سلطان المفاسد.
***
لقد كنّا على صواب، عندما أكّدنا على البعد الحرّ والشّخصيّ بامتياز لبلوغ السّعادة. لكن، نخطئ عندما نبحث هنا عن ذرائع للتّأكيد على أن السّياسة يجب ألاّ تهتم بالسّعادة. من هنا، يكون من واجب السّلطة العامّة، لا أن تصنع سعادة البشر – فهم وحدهم المهيؤون لذلك، وإنما أن تجعل الحدوث الحرّ لهذه السّعادة أمراً ممكناً.
***
إن «تدبير السّعادة» يمكن أن ينجو من المحاكمات السّيئة، إن تمّ التشبّث بتعريفها تعريفاً يتوافق مع المبادئ الأساسيّة للحقّ، والمقتضيات الاجتماعيّة التي تمنحها حياة حقيقية.
***
أن يعرف المرء كيف ينمّي قوّة الإنسانيّة في الآخر وفي نفسه، هو تأكيد الذّات حقّاً.
***
متع الحياة المتعدّدة تنتظر أن ننهل منها وأن نصقلها، فهي نسيج السّعادة.
***
تخفي الحياة مفاجآت، إلى آخر نفس. هذا الرّجاء هو الوجه الآخر لمجازفة الحياة الجميلة.
***
السّعادة للجميع.
(*) هنري بينا – رويز، دروس في السّعادة، ترجمة: محمد نجيب عبد المولى، منشورات دار سيناترا – المركز الوطني للترجمة، تونس 2010. من مواليد عام 1947، وهو فيلسوف وكاتب فرنسي، عرف بالدّفاع عن قيم التّضامن والحرّية. أصبح مختصاً في مسألة اللاّئكية بما هي أساس للفكر الكوني. هو من بين الحكماء العشرين الذين كوّنوا لجنة اللاّئكية بفرنسا سنة 2003. قاوم في كتاباته التّوظيف السّياسي للدّين، واعتبر المعتقد شأناً شخصياً، وجعل من الالتزام بقيم الجمهورية سبيلاً لتحقيق حياة كريمة للإنسان. صدرت له العديد من المؤلفات، كان آخرها «القاموس العاشق للعلمانية» (منشورات بلون 2014)، بعد كتاب عن ماركس «ماركس مع ذلك» (منشورات بلون 2012).

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©