الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

القبض على الشعلة

القبض على الشعلة
24 أكتوبر 2019 00:02

وسط العجلة الاستهلاكية التي يعيشها الإنسان، يجد نفسه يقيم وسط غابة من الضجيج، محملة بأوهام لا حصر لها، تجعله بعيداً عن حقيقة ذاته، ليقيم في ذوات مستعارة، وربما يعيش حياة لا تمت له بصلة، وحينما تباغته بسؤال وجودي عن أحلامه وماهية حياته التي يعيش تجده يذهب بعيداً بذاكرته وربما يجيب بعدم المعرفة، لتبدأ معها الأسئلة التي تشعل حالة من الغضب الإنساني الذي يشعره بكمية هائلة من الارتباك، يقول الشاعر أدونيس في مقدمة كتاب الماء والأحلام لكاتبه غاستون باشلار إن «الإنسان هو نفسه.. داخل نفسه خلق ذاتي متواصل»، ولعل جملته تلك تستحق منا التوقف داخل الذات المليئة بهذا الخلق المؤجل.

تركّز الروحانيات في العديد من تطبيقاتها على القلب وضرورة اتباع مساراته، معتبرة أن هذه الخطوات دليل للوصول لحالة السكينة التي ينشدها الإنسان، ولعلنا نجد هذا بشكل واضح فيما ذهب إليه شمس التبريزي ضمن علاقته بجلال الدين الرومي حينما تبع رؤيته ومناماته وأحلامه التي كانت تقوده نحو مدن بعيدة للوصول إلى رؤية ظلت تتكرر معه سنين طويلة، كما نجد هذا واضحاً في الأعمال الروائية للكاتب البرازيلي بولو كويلو الذي ركَّز في أعماله الأدبية على فكرة الخلود من خلال الأحلام واتباع الرؤى للوصول للفكرة التي تسيطر على أبطال أعماله الروائية التي بنيت على رؤى فلسفية وأسطورية باحثة عن الراحة النفسية للإنسان. ونجح أيضاً الروائي السعودي محمد علوان في روايته «موت صغير» في أن يبنيها على الفكرة الصوفية «الوتد» من خلال السيرة المتخيلة لبطل الرواية «محيي الدين ابن عربي»، كما نجد ذلك بشكل واضح في العديد من الأعمال الأدبية الغربية في القرن العشرين التي تبحث في ماهية الوجود والإنسان من الداخل، وقد ركزت الفلسفة الغربية على ذلك طيلة القرن الماضي، فكانت الوجودية مذهباً غارقاً في الإنسان وسلوكياته.
وبعيداً عن التبحر الفلسفي، نحاول أن نلامس تلك المسارات القلبية التي يجب أن نستمع لها، ولا نهملها حينما تأتي، مستمعين لما قاله بعض الفلاسفة (قلب الإنسان ليس إلا مجرد صيحة، التصق بصدرك لكي تسمعها) وما تلك الصيحة إلا حالات قد يمر بها الواحد منا في كل يوم ضمن علاقته اليومية، وعليه ألا يبتعد عن هذا الصوت الذي كان في الماضي صرخات مثقلة بالأنين تمر عبر التجاهل الداخلي، فيكون انعكاسها سلبياً يؤدي إلى فقد كثير من الشخصيات المقربة، بسبب تجاهل الطاقات الداخلية التي تبعث على حالات التوتر في بعض الأحيان.

الذات وتحقيق الحلم
كي نصل إلى حقيقة ملموسة مع الذات ورغباتها في الوصول إلى حالات السعادة التي ترتضيها، وقبل تلك الرحلة في التوقف مع الذات، أجد أن علينا إثارة السؤال في داخلنا: هل الحياة مجموعة من الماديات التي يبحث عنها البعض مثل امتلاك (سيارة، منزل، وظيفة) أو حتى هجرة أو سفر إلى بلاد بعيدة لا يعرف هويتها وكيف يستطيع رؤيتها؟.
لنترك تلك الأمور المادية منها وندخل في الحلم الذي يسكن الفرد وكيف يذهب إلى سبل تحقيقه من خلال وعيه به، إذ إنه يولد وبداخله صفات مختلفة ومنها سمة الذكاء والحالات الإنسانية التي يمكن أن يتشكل عليها، ولكن البيئة التي يتربى وسطها، تحول دون تشكلها بشكل حقيقي أو حتى موتها بشكل بطيء، ونجد أن المصالحة الداخلية مع الذات هي المفتاح الأول للولوج في أعماق النفس المتجذرة فينا، ومن خلالها نستطيع استنشاق الهواء النقي بعيداً عن ضجيج الآخرين والدخول في معارك وهمية، تتناسل الواحدة بعد الأخرى وتجعلنا نبتعد عن مساراتنا التي نريد، ولذا نجد أن الطريقة السليمة للذهاب في أعماق النفس تأتي من خلال التأمل الروحي فيها، ونستطيع من خلال هذا التأمل تفكيك المسارات التي قد تؤلمنا ذات يوم، لذا يصبح توقفنا مع الذات أهم من الوقوف مع -الوهم- كي نستطيع استكمال -المتبقي- من وقتنا لمسيرة قد تطول.
بمجرد الجلوس مع الذات ومراجعة أحلامها نستطيع تحقيق البسيط منها، وليس وضع العراقيل أمامها والانصياع لتلك المعوقات التي جعلت بعضنا يتيه في صحراء قاحلة، ويملأ طريقه بأوراق خريفية متعلقة بأغصان تنتظر نسمة هواء باردة كي تسقط، فيجد نفسه أصبح مجرد ورقة تتمايل في الهواء.. لا أرض تحتويها ولا سماء تقبلها، فتذوب وتتحلل في التربة وتكنسها أيدي العابرين من طريقها.
إن التوقف برهة مع الذات أهم بكثير من الذهاب في -طواحين الهواء- وحينها نستطيع التعرف على الألوان الحقيقية التي نزدهر من خلالها، نستطيع رؤية السماء بصفاء مختلف، ونستمتع بكنس أوراق الخريف من طريقنا، والدخول في ربيع العمر دون النظر للوراء. والاستمتاع بألوان الفردوس التي لن نبصرها إلا من خلال نبضات قلوبنا.
ومن استطاع أن يهرب بذاته من وسط مكان باذخ سيجد نفسه في عوالم مختلفة، ربما يجد أن تلك العوالم دخلها (آخرون) ليس لهم علاقة بها، وهذا يتجسد بوضوح في عوالم الفن التشكيلي والأدب بفنونه الثلاثة، حيث تجد الفنانين يأتون من مشارب مختلفة وبيئات مختلفة، ولكن اللون يجمعهم وتفاصيل الفكرة والعمل الفني، وحينما تدخل الباب الثالث في هذا العالم ستجد أن هناك شخوصاً لا تستطيع الانتماء لهم من خلال ممارساتهم، ولذا تصرخ بما قاله كولن ولسون ذات يوم «لا أنتمي»، بمعني أن الانتماء إلى بيئة ووسط معين، سواء كان فنياً أو شعرياً، لا يبنى على مدى المشتركات التي تجمع تلك (العشيرة)، في وسط واحد، لذا يمكن لمن هو خارج (العشيرة) أن يكون أكثر إبداعاً من القطيع الموجود في الداخل، وذلك لأن الإنسان القادم من خارج هذه الدائرة جاء لها بحثاً عن ذاته لا بحثاً عن مال أو شهرة، بل أراد أن يكون ذاته، وهنا يكمن الفن الحقيقي، كما وجدته عند (فان جوخ، بيكاسو، سارتر، ألبير كامو…) جميعهم دخلوا من خارج (العشيرة) بحثاً عن ذواتهم.

الأحلام ورمزية الحياة
ركزت كثير من الدراسات الحديثة على أهمية الأحلام، فذهب كارل يونغ لربط الأحلام بالأساطير، بينما قام فرويد بإعادة الأحلام إلى العلاقة الجسدية في المعالجة، ولذا نجد أن العلم الحديث لا يختلف كثيراً عن تلك المعتقدات القديمة في ثلاثية (النوم/‏‏ الموت/‏‏ الحلم) حيث وجدنا بعضهم يؤكد أن الأرواح تتناسخ، وآخرون يرون في الحلم المستقبل، بينما يقول بعض علماء الدين إن الطفل في أشهره الأولى يرى ما يشبه الشريط السينمائي لحياته، (يبتسم، يضحك، يبكي)، وهذا ما له دلالة على أن الطفل يولد ببراءة التكوين التي ترافقه فيما بعد معطيات الحياة فتصنع منه ذاك الكائن الذي نراه اليوم.
نعود إلى الأحلام كونها حالة ترافقنا جميعاً، ولكن هناك بعض المؤثرات الخارجية التي تؤثر على تلك الرؤية فتحول دون تحقيقها وتذهب بنا إلى أمكنة أخرى، لنعيش دون أحلام ونتقمص أحلام الآخرين، ونقوم بتشويهها، أو تذوب هويتنا في مجتمع استهلاكي إذا لم تدركنا عجلة الوعي المبكر والقبض على «الشعلة» كي تبقى دروبنا مضيئة دائماً.
إذا خرجنا من تلك الفوضى التي يخلقها المجتمع، وتماهينا مع ذواتنا الصغيرة فسنجد أننا نخرج من باب «الخوف، القلق»، والدخول بجرأة في معطياتنا الفكرية التي لا تعتمد على «التلقين»، بل على الفهم والوعي بأن هناك «طاقة كامنة» في الداخل علينا عدم تعطيلها من خلال الفوضى التي تحيط بنا، فنذهب إلى عوالم يصنعها «العلم» وتدركها «ثقافة» الفرد. وهذا ما جعل العلم الحديث يذهب لثقافة «الحوار»، وإلغاء مفاهيم «التلقين» المدرسي، والبحث عن «فضاء» مفتوح لتربية الطفل كي لا يفقد مشاعره الإنسانية التي رافقت ولادته ولكن المحيط التربوي «قتلها» بجهل.
لذا نجد أن الفلاسفة يركزون دائماً على «استقلالية الفكر من خلال القراءة»، وكي لا نعيش حياتنا كما تعيش «دودة عمياء»، ولا نعرف من حدودنا بعدين -كما يقول الدكتور علي الوردي- الطول والعرض، وننسى البعد الثالث «السماء»، علينا اكتشاف «الحلم» الذي حاولنا تجسيده ذات يوم، والذهاب لتحقيقه دون أي معوقات «نختلقها»، ونبرر لأنفسنا بأن الوقت ما زال باكراً، والعمر ينتظر، بينما تأخذنا جميع الممارسات لطمس أفكارنا في معتقدات بالية نقوم بتوريثها للجيل المقبل.
في نظرية «مستر دن» التي يستعرضها الدكتور الوردي في كتابه «الأحلام» يقول «اعتدنا في دراسة أحلامنا أن نتطلع إلى جهة الوراء من خط الزمن دون أن نحاول التطلع للأمام»، مشبهاً ذلك بمن يرتقي سلماً «وقد ولى وجهه نحو الجهة السفلى». بما يعني أنه لا يرى السماء ولا يرى الدرجات العلوية التي هو بحاجة لأن يصعد إليها خوفاً من السقوط.

رحلة الذات
ركزت العلوم الإنسانية كافة على خروج الإنسان من أزمته الفردية إلى الانطلاقة الكبرى في رحلة الذات المبنية على الرؤى الحياتية كافة، وجميع ذلك لا يمكن أن يأتي إلا من خلال الشعور بمزيد من السكينة الداخلية، وبعد ذلك نستطيع الولوج في مسارات أخرى نتقصى من خلالها أحلامنا ورؤانا التي نحاول معها بناء الذات، وتطويرها، حيث لا يمكن لأي عامل خارجي أن يقوم بتطويرها ما لم نحاول نحن ذلك، ومع هذه الانطلاقة سنستطيع بناء الجيل المقبل، حيث تتغير المفاهيم والرؤى لدى الآباء الذين يقومون بمساعدة الأبناء في معرفة ذواتهم وليس فرض الرؤى عليهم، إذ أن الجيل الجديد يحمل شفافية السؤال والبحث عن إجابات تتناسب مع أسئلته، وهناك العديد من الوسائل بين يديه تمنحه تلك الإجابة، ولذا علينا أن نمارس دورنا بكل شفافية تجاه أبنائنا كي لا يتهموننا بأننا أصحاب عقول متحجرة لم تستطع تطوير نفسها، وتوقفت مع زمن «النوكيا»، ولم تستطع الوصول إلى آخر التحديثات والتطبيقات الجديدة في العلوم الإنسانية.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©