بدأ السير على الأقدام يحظى باهتمام واسع من قبل العديد من سكان الولايات المتحدة، خاصة مع انطلاق موجة جديدة تستهدف بناء مدن وضواحٍ تركز في الأساس على منح سكانها حرية الحركة مشياً، وتجنب الزحام في الشوارع.
وفي ثمانينيات القرن العشرين، منذ أن بدأ المطورون بإقامة بلدة جديدة يطلق عليها «سيسايد» بإحدى ضواحي فلوريدا، تلاها إقامة عدد محدود آخر من المجتمعات السكانية التي تنتهج الأسلوب نفسه في تخطيط الشوارع، بضواحٍ مختلفة بالولايات المتحدة، قامت حركة لبناء مئات المدن التي يمكن للسكان العيش واللعب، وأحياناً العمل، دون الحاجة للانتقال بالسيارات أو وسائل المواصلات الأخرى.
وفي هذه المدن، يوجد العديد من الوجهات التي تهم السكان، مثل المتاجر والمتنزهات والمدارس والمطاعم ودور العبادة، وكلها على بعد 5 دقائق فقط سيراً على الأقدام.
وحالياً، العديد من المدن المتطورة الجديدة قائمة بذاتها، وذلك مثلما هو الحال مع المدن والضواحي التي مثلت الموجة الأولى من المشروعات التي تركز على جعل الحياة أيسر بالنسبة للمشاة. ويستخدم المخططون والمطورون المبادئ نفسها في السنوات الأخيرة للمساعدة في إعادة تنشيط ما يقدر بنحو 750 من الضواحي القديمة أو مراكز التسوق التي يبدو أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، بحسب إلين دونهام جونز، مؤلفة كتاب «إعادة تأهيل الضواحي».
وتعد إعادة تطوير البلدات والضواحي القائمة بالفعل، لتصبح معدة أكثر للمشاة، أصعب بكثير من إقامة بلدة جديدة قائمة بذاتها تنتهج الأسلوب المعماري نفسه. على سبيل المثال، غالباً ما تضطر البلديات إلى إعادة صياغة قوانين البناء الخاصة بها للسماح بإعادة تخطيط الشوارع لتكون مناسبة للسير فيها.
في غضون ذلك، تعلم المهندسون المعماريون والمطورون ومخططو المدن الكثير حول ما ينجح وما لا يفلح عندما يتعلق الأمر بإنشاء مجتمعات قابلة للمشي، سواء كانت مستقلة وقائمة بذاتها، أم على أطراف مدينة مكتظة بالسكان.
القاعدة الأولى هي حافظ على سلامة المشاة، وقد يبدو هذا واضحاً وغير مثير للجدل، وهنا لا يجب ألا نغفل أنه في معظم التخطيط التقليدي للمدن، يهدف مهندسو المرور إلى إنشاء أنظمة طرق تنقل السيارات بسرعة عبر شوارع الحي. وعلى النقيض من ذلك، تريد سوزان هندرسون المديرة بإحدى الشركات التي تعمل على تطوير المدن الجديدة أن تبطئ سرعة السير، حتى تصبح الشوارع أكثر أماناً وأكثر قابلية للمشي.
وتقول سوزان هندرسون، التي خططت لبلدات ومجتمعات سكانية متطورة بما في ذلك ذا ووترز، التي تقع بالقرب من مدينة مونتغمري بولاية ألاباما: «أريد أن يكون الوضع آمناً للأطفال للعب في الشارع».
وتصمم سوزان هندرسون الشوارع لتكون ضيقة قدر الإمكان، بحيث لا يشعر السائقون بالراحة عند القيادة بسرعة تتجاوز 15 ميلاً في الساعة، وهي السرعة التي قد يشعر المشاة معها بالأمان وهم يسيرون قرب حركة المرور. وفي هذه الحالة لا يجب استخدام مطبات صناعية لتقليل سرعة السيارات، حسبما تقول سوزان، مشيرة إلى أن الوسائل التقليدية للحد من سرعة السيارات لن تكون ضرورية في مثل هذه الشوارع المصممة بشكل مناسب.
ومن الناحية المثالية، تقول سوزان هندرسون، إن الشوارع في المجتمعات التقليدية يمكن السير فيها على مسافة لا تتجاوز 32 قدماً من حركة سير السيارات، مقارنة بـ 38 إلى 40 قدماً في الطرق النموذجية في الضواحي المتطورة.
وفي الشوارع الرئيسة بتلك الضواحي الجديدة التي يوجد بها محلات البيع بالتجزئة، فيجب أن يكون التعامل مع حركة سير السيارات بطريقة مختلفة فيما يتعلق بمقاييس تصميم الشوارع. ويمكن أن تكون هذه الشوارع واسعة مثل شوارع الضواحي التقليدية، لكن يتم إعادة تصميمها لجعلها أكثر ملاءمة للمشاة، مثل وضع ممرات لصف السيارات على الجانبين، أو ربما إضافة أحواض للنباتات على الجانبين.
وهناك تكتيك آخر شائع لجعل المشاة يشعرون براحة أكبر بالسير بجوار السيارات في الشوارع وهو زراعة الأشجار التي تفصل الرصيف عن الشارع. كما يجب وضع مقاييس محددة للكتل الخرسانية في الحي للتشجيع على المشي. فإذا كانت كتل المباني أطول من 300 قدم، كما تشير سوزان، فإن المشاة يجدون صعوبة في أخذ طريق مباشر وفعال إلى الوجهات التي يرغبون في الوصول إليها.
القاعدة الثانية هي، اجعل المشي مثيراً للاهتمام، إذ يجب أن يكون شكل كل مبنى في مجتمع يمكن السير فيه «وكأنه يمثل هدية إلى الشارع»، وهذا شيء يجذب انتباه المشاة، كما يقول المخطط المدني في ميامي، ستيف موزون. وبالنسبة للبيوت، يمكن أن تكون الهدية بسيطة مثل حديقة زهور أو مقعد في المقدمة للمشاة. بالنسبة للمباني التجارية، قد يكون نافذة عرض مثيرة للاهتمام.
وتشجع بلدة بروفيدانس في مدينة هانتسفيل بولاية آلاباما، حيث يعمل موزون مهندساً للتخطيط في المدينة، البنايات على استخدام البوابات التي تبعد مسافة 3 أو 4 أقدام عن الأسوار المحيطة بالمنازل لإضفاء مزيد من الترحيب وخلق مجموعة متنوعة في الهندسة المعمارية.
وفي مدينة أخرى حيث يشرف موزون على تخطيطها وهي «بيتش تاون»، قرب جالفستون بولاية تكساس حيث تتخذ نهجاً مختلفاً. فالمنازل مبنية على ركائز متينة لأن الأعاصير تضرب المنطقة، لذلك تُبني الأسوار وكأنها ممرات بين بوابات المنازل.
والهدف من ذلك هو ملء الفراغ بين المنازل، التي يصل ارتفاعها إلى 16 أو 17 قدماً في الهواء، بحيث تتلاءم المباني معاً بشكل مبهج، وبالتالي تشجع على المشي بالقرب منها. وتُبنى الأسوار بتصميم لطيف ومريح للناظرين، ويمكن أن تكون بعرض 40 بوصة فقط.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك مخاوف من أن ارتفاع المنزل من شأنه أن يعمل على شعور المشاة بالملل لمرورهم لفترة طويلة بجوار كتل خرسانية. لذلك، طلب المطورون من جميع المنازل أن يكون لديها شرفات أمامية في الطوابق السفلى لتريح أنظار المشاة وحتى يتمكن الناس في الشارع من التحدث إلى الآخرين في الشرفات دون أن يضطروا للنظر عالياً، كما يقول توفيق شيرازي مؤسس بلدة بيتش تاون. وتقول سالي جرير التي تقيم في بيتش تاون إنها وزوجها يجلسان في الشرفة من وقت لآخر، حيث يتبادلان الحديث مع الجيران والمارة باستمرار.
ولأنه لا بد من منح الناس مساحة نفسية واسعة، فقد تم تصميم كل مبنى في بلدة «سيسايد» لإعطاء المشاة فرصة للنظر بعيداً دون أن يصطدم بصرهم بكتلة خرسانية. وتنتهي العديد من الشوارع في ساحات مؤدية إلى الشاطئ، وتقع البلدة حول ساحة مركزية تضم مطاعم ومتاجر للبقالة واستخدامات تجارية أخرى. بالطبع، لا يمكن لهذه الوجهات التجارية أن تكون صاخبة منذ البداية. فهي تحتاج إلى سنوات لإقناع تجار التجزئة بأن الكتلة السكانية في البلدة المتطورة كافية لرواج بضائعهم.
وتخطط بلدة كارلتون لاندينج المتطورة في أوكلاهوما لإقامة 3 آلاف منزل، إلا أن الأمر سيستغرق 30 عاماً حتى تكتمل. وحالياً، يوجد بها 180 منزلاً مكتملاً وهو ما يكفي لإقناع مطعم «بيتزا» صغير وشاحنتين للطعام، إضافة إلى 10 متاجر صغيرة للعمل في البلدة.
ويقول مؤسس البلدة جرانت همفريز: «نحن نرى تجارة التجزئة على أنها شيء يجب عليك احتضانه». كما يقول المهندس المعماري أندريس مارتن دواني، الذي صمم «سيسايد» و«كارلتون لاندينغ»، إن «الأمر يستغرق نحو 25 عاماً قبل أن تتمكن المجتمعات التي يمكن السير فيها بدلاً من التجول بالسيارات من «تحقيق كل الأهداف المرجوة منها».
وتعد زيادة الكثافة السكانية أمراً أساسياً لجعل الأحياء نابضة بالحياة، كما يقول المخطط الحضري جيف سبيك، مؤلف كتاب «مدينة الوولابل». ويأتي الربح الحقيقي عندما يكون للأحياء 10 وحدات سكنية على الأقل للفدان الواحد، حسبما يشير سبيك.
هذا هو المستوى المطلوب للحفاظ على مبيعات التجزئة في الشوارع، ما يعني أن بإمكان السكان المشي للتسوق أو تناول الطعام مع انتشار مراكز التسوق في البلدة وذلك بدلاً من القيادة، حيث لا يقتنع كثيرون من تجار التجزئة في العادة بافتتاح أفرع لهم في البلدات المتطورة قبل أن يروا بأعينهم الكثافة السكانية التي تكفل الحد الأدنى للمبيعات. ويقول سبيك: رغم ذلك فإن سكان هذه الأحياء قاموا بتقليص قيادتهم إلى النصف تقريباً مقارنة بالضواحي التقليدية.
ويعمل سبيك الآن على مشروع «ووتر ستريت»، وهو مشروع تبلغ تكلفته 3 مليارات دولار، ومساحته 53 فداناً قرب من حلبة الهوكي في وسط مدينة تامبا بولاية فلوريدا، ويخطط المطور لبناء 3500 شقة سكنية إضافية، ومساحة للمباني المكتبية تبلغ مليوني قدم مربع، إضافة إلى المطاعم والفنادق. ويحتوي المشروع أيضًا على أرصفة واسعة وأشجار تنشر الظل بهدف تشجيع المشاة.
ويقول جيمس نوزار، الرئيس التنفيذي للشركاء العقاريين الاستراتيجيين، الذي يعمل ضمن فريق تطوير البلدة: «نأمل أن ننجز كل ما نريد أن نفعله في يوم من الأيام، بحيث يأتي الوقت الذي لا نجد فيه سيارة واحدة تسير في شوارع البلدة».
بقلم: نيل تيمبلين