22 سبتمبر 2010 21:08
مادت الأرض تحت قدميها.. وكاد يغمى عليها، لكنها تمالكت نفسها وأخذت تردد في سرها، هذا الرجل ما باله يتجاهل وجودي ويحطم بذلك كرامتي كزوجة وأم.. وأنا التي لا أبخل عليه بشيء، وهبت له نفسي خالصة، وهيأت له كل أسباب الراحة والسعادة، أغدقت عليه من فيض حبي الكثير، وها أنا أجني ثمار ذلك الوحدة والحرمان. كانت تجلس متكئة فوق وسادتها غارقة في بحر من الأفكار المتلاطمة يلفها وجوم وتحيط بها حيرة، ولم تنته من إطراقتها الطويلة إلا حينما وقعت يد ابنتها فوق كتفها المثقل بالهموم، فرفعت رأسها لترى وجه ابنتها الحبيب ينظر إليها في براءة وألف سؤال باحث عن جواب يدور برأسها، بينما راحت دموع سخية تنسكب فوق وجهها بغزارة، سارعت تمسحها كي لا تلفت أنظار طفلتها إليها، حملتها إلى غرفتها ووضعتها في سريرها بهدوء.
كل شيء كان في البيت ساكناً، قبعت فوق الكرسي في انتظار زوجها، ولم تلبث أن شعرت بوحدة مخيفة.. وتقاطرت عليها ضروب الهواجس وامتزجت بتفكيرها، وتساءلت وهي تجول ببصرها في أرجاء البيت، وتمتمت: الحل، ألا يوجد حل لهذه الحالة؟ لهذه الحياة؟ لقد أكدوا لي بأن الزواج هو الحل السعيد للفتاة، والحياة الزوجية نهاية المطاف وهي أمتع اللحظات، بحق السماء هل هي كذلك؟ لست أدري! وألقت بجسدها الواهن الذي أضناه السهر وحطمه الانتظار فوق كرسي في صدر الصالة وبين لحظة وأخرى كانت عقارب الساعة تمزق السكون القاتل.
الساعة قاربت الثانية والنصف بعد منتصف الليل.. امتدت يدها نحو المجلة تتصفحها وتقتل بها قسوة الوقت.
كانت دائماً ساهمة، واجمة، تتكلف الابتسام وتتصنع الرضا.. قليلة الحديث بدأت حياتها تخف بهجتها شيئاً فشيئاً، فقد كثر خروج زوجها ليلاً وانشغل عنها ولم يعد يعيرها أي انتباه.
وفجأة انفتح الباب ليدخل منه زوجها مترنحاً، ثملاً، تفوح منه رائحة خمر كريهة يجر قدميه جراً، وارتمى على ركبتيه تعباً، مرهقاً، خائر القوى، لا يقوى على الكلام، لقد أحست بالألم يعتصر قلبها وهي تشاهده بهذه الصورة المحزنة الكئيبة بلا وعي ولا عقل.
تقدمت نحوه وخاطبته وهي تدرك أنه لا يعي ما تقول: أحمد، إن الحالة هذه لا تطاق، لقد كرهت الحياة معك، لم أعد أشعر بطعم للحياة الزوجية، تلك التي طالما حلقت أحلامي بها في أجواء النعيم وكم تحملت مرارة الصبر، مقيدة بشقاء السكون.
حتى الكلام أصبح معدوماً، ولم يعد كلامك إلا رمزاً تحولت حياتك إلى ألغاز، ولم تستطع أن تملك نفسها فأجهشت بالبكاء، وكادت تختنق، وهل في الدنيا أشد مرارة من صرخة ألم يختنق بها الإنسان، كيف تستطيع التفاهم معه وهو يعيش في عالم آخر، عالم أحلام، وخيال وأوهام، وهي في عالم واقع مرير. اقترب منها يتعثر في مشيته، ودار حول نفسه أولاً وحدق في وجهها طويلاً ثم سألها: مالك يا حبيبتي.. لماذا تبكين؟ هل ضربك أحد. وأظلمت الدنيا في وجهها، واحتارت ماذا تفعل، هل تضربه لتعيد له وعيه، لكنها كانت تدرك أن أي عمل معه الآن لا يجدي، والكلام لا ينفع.
حملت نفسها وصعدت إلى غرفتها، وقلبها يكاد يتميز من الغيظ، فقد كابدت طويلاً وقاومت كثيراً، والأيام والليالي تزيدها لوعة ووحدة، ألماً وحزناً، ولكنها قررت الصمود من أجل طفلتها، ذلك البلسم الذي يعيد لها الهدوء والسكينة في لحظات غضبها، وحينما يتدفق الدم في عروقها ثائراً غاضباً.
وبزغ فجر يوم العيد، وامتدت خيوط شمسه المضيئة تعانق النوافذ والأبواب، ترسم فوقها بهجة العيد.
تحرك الجميع مبكرين نحو المصلى لأداء صلاة العيد، واكتظت شوارع مدينة الشارقة بالناس، بالحركة، جاء هذا الخادم مسرعاً يقول لها إن سيده يريدها فسارعت نحوه، حيث هو في غرفته لا يزال في فراشه، بادرها بقوله:
ـ هيا جهزي ملابسي لم يبق لدي وقت تأخرت كثيراً، الجماعة ينتظرون.. قالها الزوج بدون اكتراث.
ـ إلى أين؟
ـ هل نسيت أن اليوم عيد، ونحن في حاجة إلى وجودك معنا في مثل هذه الأيام؟
ـ وهل أصبح تعكير صفوي هوايتك المفضلة حتى في أيام العيد؟
نهض مسرعاً وتناول حقيبة ملابسه الصغيرة وسارع في الخروج.
واستدارت نحوه تتطلع إليه في ذهول. لقد كانت لحظة قاسية تفرض نفسها على مسرح حياتها، وحيدة على هذا المسرح، تساءلت وصدى التساؤل يتردد بين جدران أعماقها المشروخة كيف أبرّر غيابه حين يقبل أهله وأقاربه للتهنئة بالعيد؟ بل ماذا أقول لأبي؟
وبقيت واجمة، ساهمة صامتة، ماذا تفعل، لقد تغير زوجها كثيراً.
لم تحس بمرور الوقت إلا عندما دخل عليها والدها، كان وجوده في هذه اللحظة دفئاً لها وسط حصار الصقيع، فأقبلت نحوه وألقت بنفسها بين أحضانه بحثاً عن تلك الظلال الأبوية الحانية التي فارقتها زمناً إلى هجير يمطر ظمأً.
أين أحمد؟
سألها موقناً بتلك العلاقة المستترة بين حالتها هذه التي رأى ملامحها في اندفاعها إليه وبين أحمد.
ـ ذهب في رحلة إلى الذيد من الصباح الباكر.
تبدلت ملامح وجهه، وكساه الغضب، ثم التفت إليها وقال: إن حياتك مع هذا الرجل أصبحت قاسية، متى يفيق لنفسه.. متى؟ لقد سئمنا حياتك معه، ولم يكمل فقد قطع حديثه رنين الهاتف فأسرعت إليه ترفعه، جاءها صوت يقول متسائلاً: هل هذا بيت....؟
نعم إنه هو.. ماذا تقول؟ نقل إلى المستشفى وفي حالة خطرة؟ ثم.. هوت سماعة الهاتف من يدها بينما راحت تدور حول نفسها تصرخ “لا.. لا يمكن” إن حياتنا لم تبدأ بعد.
* من مجموعة “الرحيل”. فائزة بالجائزة الثانية عام 1975