21 يونيو 2012
على جبين الفضاء العاري، هي أشبه بشامة على خد القمر، هي أشبه بحلم الجبل، وهو يرتع عند مناخي الشجر، استدارت قلعة الفجيرة بطوابقها الثلاث، محاطة بجدران مثقوبة بالتربص، مشخوبة بالمعاني الجليلة.. بفيض من الاخضرار وفسحة من الضوء اقتعدت القلعة الحجر، وتناهت ترصد أنفاس الجغرافيا بمصابيح شمسية متلاحقة، تدلف من ثغور أشبه بخواتم نساء الفرح.
قلعة الفجيرة، رغم خبول التاريخ وانضواء بالرمل الرمل، واحتواء الحجر للحجر، هي في التصاوير، منهاجاً للتضاريس المختفية في أرجاء الذكرة كأنها جناح طائر صغير، لم يزل زغباً رهيفاً في أحشاء عش كث.. قلعة الفجيرة، والتي بناها محمد بن مطر الشرقي مستديرة بأبراجها وأفواجها الطينية، تبدو غابة الزرع المنيف، رواية دينية تبتهل للصحراء، متفانية في الصوفية، معتنية بما يمكن أن يخلد ذكر الإسلاف وينحت اسم الصخر على الصخر.
قلعة الفجيرة، ترد اليوم أنشودة الصحراء، وتغدق على الكون بصغير اللهيب المهيب، وتحشد حنان الجبال والرمال والرجال في اللب المجلل بالهوى والنوى وعنفوان الطفولة الباكرة، وبأبراجها الثلاثة تصعد إلى السماء وتعد ليلاً النجوم، وفي النهار تخصب السحاب ولتبلل الأرض برضاب اللهفة والشغف النبيل.
قلعة الفجيرة امتزاج الجوى باللذة حين يغمس الحجر أصابعه في ترائب الرمل، ويحثو في عين الريح غبار التداخل اللذيذ ويمحو من ذاكرة الأيام شظف الآثام، يوم كانت الأحلام أعشاب شوكية تجرح ولا تقدح، تسفح ولا تفسح، وتريق دماء الناس بلا هوادة وكأن الموت كان خلود الجبين.
الجوار والحوار
قلعة الفجيرة ما أن تجاورها، ما أن تحاورها يطفر من ثغورها القبس والنَفَس الأزلي، وتظفر أتت بإحساس أبدي يمنحك الأسئلة المفتوحة على الأفق، يغرقك ببحار من الضجيج الكامن في أحشاء الرمل الساكن في غضون الحجر وتجاويف الطيف وتعاريج الدروب الدالة إلى المكان الرهيب.
قلعة الفجيرة ترمي الدهشة كأنها كرات الثلج، تقذف بالذهول كأنه ثمرات جبلية أطاحت بها الريح في غفلة من الأغصان، تبدو وأنت كأنك النسر المتضور جوعاً تلاحق الظل، تتابع خيوط الشمس المتسربة في المتون والغصون، المتسربلة بخلاخيل الزمن الجميل المجللة بنقوش الأحلام الوردية ومن حولك يبدو الجبل الشاهق يسامر العتمة الغافية على جبين الكون بصوت أشبه بالهدهدة، ويغمض العين على صور ومشاهد حبلى بالأناقة واللباقة، ويمسح لحية الأعشاب الكثة بلسانه الحجري لاعقاً الندى متلمظاً بالملوحة الحاذقة.
قلعة الفجيرة كأنها البكر المستحية، تختبئ في ثياب الطين وتدثر الهامة الرشيقة بقماشة التاريخ الرصيفة، وتنزوي متحاشية الحسد.. أو كأنه تفعل ذلك من زمن بعيد.
قلعة الفجيرة كراهبة تحتفي ببكارة الطهر، ونقاء السريرة وأبراجها الثلاثة بوذيون يطرون الذات الطينية بالنيرفانا، مبتهلون عاكفون على كتاب الصحراء بجلاء واستعلاء واستيفاء في التبتل.. والزمن من حول القلعة يتلو آيات القدسية، ويتمتم في هدأة الليل، متفقداً جيوش الشجر وأعشاب العمر بقلب ناسك متعبد، لا تحضره أبداً جلجلة الحاضر، وكأنه زمن لا يحرك عقاربه كي لا تخدش بالزجاج المتكسر عند أرصفة الراهن المستبد.
قلعة الفجيرة أشبه برابعة العدوية، إذ قالت في ذات تصوف مهيب “حبي لله لم يدع مكاناً في قلبي لكره الشيطان” ونامت راضية مرضية، مستطيبة الأمان، متطيبة بعطر الصفاء الروحي، وهي تحكي حكاية الانضواء إلى الماوراء بكل عفوية شفية في أدران وأحزان العويل الدنيوي.
قلعة الفجيرة كأنها القارض لشعر عمر بن الفارض، غافية في الزمان، هاربة إلى أزمنة لا ينقضي ريقها ولا يفضي عبقها، تحوم في المكان الفراشة، نسيت الجناحين عند ثغر زهرة، وراحت تبحث عن الرائحة متففة مرفرفة بسطوة الإرادة ونخوة الحب.
قلعة الفجيرة قالت للرماة ذات حومة لا تلقوا بالنبال دفعة واحدة، دعوا للزمن رصيداً كان للمتربصين عيوناً تشخص الخلاء، ومتى ما نفذ العمر يصبح لأعداء الجمال سطوة الغاشمين.. لكن الرماة نسوا الوصية وتنابذوا في حين بقيت القلعة كطائر يقلع في التاريخ ولا يقتنع جذوره يحلق في التضاريس ولا يلحق باللاهثين لأنه طائر الجبال يحفر عشه في الصخر، ولا تنزعه الريح ولا تهزه التباريح.
قلعة الفجيرة هي كمسافر يرسم صورته على الرمل رمزاً للذكرى لأنه لا يريد أن يمحو من الذاكرة، رحلة خصبت زرع القلب بمشاهد وأحداث، ولا يريد أن يعذب التراب ببقايا أثر لا ملامح له.
قلعة الفجيرة تهرول في الشرق باتجاه العراء المستور بالأحلام، وتدلف من نافذة عشقها باتجاه أشواق الرمل الذي وإن ذرت بعضه الريح، لكنه يبقى وخازاً تحت الجفون.. هي في الحقيقة حقيقة دامغة، والغة في العمق، بالغة في العراقة، نابغة في صناعة الدهشة عندما تبرز عن خصال وأمقال، ومآل كان على الأرض ملحمة شعرية فذة بهذه البلاغة الطينية المسهبة في النبوغ.
قلعة الفجيرة كأنها الطفولة المتشمسة على شطآن الوجد القديم كأنها السنبلة الطالعة من رحم عشبة أزلية كأنها الفتيل المشع برغبة البقاء، كأنها السليل المنسل من أصلاب تواريخ احتدمت بصرخة الوجود كأنها شهقة اللذة القصوى تتسرب في عروق الأرض، وتمطر السماء شغفاً ولهفاً، لأجل أن تحبل الكائنات بالعذوبة.. قلعة الفجيرة كأنها كوكب يطفو على بحيرة من رمل يضئ الوجود ويخصب الذاكرة بتفاصيل البدايات ويوم أن سكبت السماء مزنها على التراب فارتوى الجبل بالشموخ، وامتلأت جعبة العشب بإشراقة اليفوع، واحتوى السهل مقل الذاهبين إلى الأمد البعيد.
موقد الذاكرة
قلعة الفجيرة جزيرة في محيط الكون طيورها أفكار وأشجار وأخبار وأسرار وأطوار وأقمار وأقدار وأسمار وإبهار وأنهار وبحار.
قلعة الفجيرة موقد الذاكرة المتوهج، خبزه الطين، وملحه الحجر، وحرقته أشواق الناس وهم يقرأون النقش، ويصفدون الفكرة بتصفيد الأماني وما تيسر من آيات الحلم الجميل.
قلعة الفجيرة الصمت المجلجل في الرمل، الضجيج يحبو على سجادة التاريخ.. قلعة الفجيرة واهية، ساحرة، سافرة، فاخرة، زاهرة، مزدهرة، زاخرة، فارهة، زاهية، متناهية، تفخر بأنها في صلب التاريخ في أتون الجغرافيا من عبق وشبق، وشهقة الصحراء، تحتسي الردعة وتبلغ الشموخ ببلاغة الأوفياء، ونبوغ النسور الشهباء.
قلعة الفجيرة لغة قديمة تجدد مفرداتها من سندس واستبرق، وحدق الطيور الجارحة الحاكمة في فضاء الأبراج المتوحمة ببرتقالة الفرح، المحتدمة ألقاً تاريخياً وجودياً، أبدياً لا متناهياً، وعند وميض النجوم ترسم لوحة التشكيل المزخرفة بوجدان الناس، المنمقة بالطموحات، العظمى.. الشمس الطامعة في المشرق وحدها التي تعرف سر الوضوح، ووحدة القمر الذي يعرف أسرار النجوى ولواعج السحب عندما تهبط كأنها الأجنحة الفارعة، وتغرد للمواويل، ساحات بسعة خطوات الموجة الراعشة عند السواحل.
قلعة الفجيرة أغنية إثر أمنية على أعقاب حنين منذ سنين عندما كان الوتين رافداً نهرياً يخصب الطين بليونة الماء الأمين، وتصخب الصحراء برفرفة الطير وهفهفة الورق، كفوف الذين صفقوا لأجل أن تمطر السماء وتحبل الأرض ببذرة وعِبرة، ويهتف الشجر باسم الخضرة المتخضرة، ووردة الوادي المعشب بالحصى، والعراء المتشظي باللوعة.
قلعة الفجيرة في البعد المترامي تومئ للقادمين من آخر النهار من أول المساء قائلة إن في الليل تهجع الطيور بعد سفور، والغنيمة بذرة الحياة لصغار فتحوا المناقير، صبوة ونخوة وسطوة، وفي الليل يصرصر الحجر متداعياً كأنه قانون الحياة لإثبات الوجود وتأكيد أن في الحجر خبر وعِبر، وسفر ومطر، وشجر وسُحر النوافل، وما أحجبته القوافل، وما سجلته المعاقل ووشوشت به السواحل.
قلعة الفجيرة، السيرة الذاتية المستعيرة من الخلود قوة الوجود، وهي الاستفاقة عند صباحات فيها لطفولة الشمس، براءة الخَلْق وفيها لفحولة النهار إغفاءة النزق، وفيها تفاصيل ما تركه السهد في الأجفان من أغصان الذبول. قلعة الفجيرة صورة وسورة، وجزالة المعنى في تلحين الطين وغزل الحجر، وتنضيد الرمل في مسبحة الأيام، وأنامل الشجر، يصغر الظل كأنه السماء المظللة بالغيوم كأنه النجوم المجللة بالشعاع، كأنه الشعاع المنمق بالبريق، كأنه البريق إثر حريق، جاش في غابة الجروح الوردية.
قلعة الفجيرة تصوب للتاريخ أخطاءه وتخيب ظن عوامل التعرية لأنها تجاور الجبل، وتسف من سفيف الرمل، وتنام على حصير الوجد بلا صهد، تنام صاحية، وتصحو متماهية مع الكواكب والنجوم، وتتملى عبارات الفرح من فيض الأواصر وشفاه الذين غنوا للحياة بدون تكلف، وأنشدوا للحلم البهي، والأرض تلهج بلغة الضاد بدون تضاد، ولا حياد في الانتماء، كون الانتماء سر الدماء ولون السحنة وبريق الجبين.
قلعة الفجيرة تتفجر وعداً ونسلاً، وتحيط بالأغصان تطوق، ورمش حدق وأسور يعانق المرفق برفق، ويسرج للبريق خيوطاً من شعاع أشبه بأهداب الشمس، أقرب إلى وجه القمر، أدنى بمسافة من لمعة الموجة حين تنقر وجنة الساحل وتدغدغ خاصرة المحارات النائمة بسلام.
قلعة الفجيرة وحدها في المكان العاري من الضجيج، وحدها في الزمان المتوهج بعطر وأريج، وحدها تكتب الشعر بمشاعر الرمل، وعلى صفحات الطين نضع العنوان عريضاً، قلعة ونخلة موعلة في عشق النهار، مبدعة في صناعة الإبهار، مترعة بنقاء الأشجار، مسرعة باتجاه الأثر المؤثر المستأثر بالإثارة.
قلعة الفجيرة، تجثو على الرمل لأن في الرمل حنين، الباقيات الصالحات من أشواق الذين أحبوا وحببوا عند حضيض الجبل إجلالاً وإكباراً.