22 يونيو 2011 20:25
يتمثل العطب الأول من أعطاب المسرح العربي في عطب التأسيس وذلك من منطلق أن هذا المسرح لم يولد ولادة طبيعية، وبأنه كان وليد الصدفة فقط، ولم يكن نتيجة شروط موضوعية حقيقية، فالصدفة وحدها هي التي قادت تاجراً عربياً إلى أوروبا ليشاهد هذه (البضاعة) أولاً، وليعجب بها ثانياً، وليحاول أن ينقلها الى (المستهلك) العربي ثالثاً، وقد قال عنها مارون النقاش في مقدمة ترجمته أو اقتباسه لمسرحية “البخيل” بأنها (ذهب إفرنجي) ويكمن الخطأ في أن هذا الذهب الإفرنجي قد ظل على امتداد التاريخ ذهباً إفرنجياً، وظل بضاعة أجنبية، ولم يتم تعريبه، ولم يتم دمجه في إطار الثقافة العربية المختلفة والمخالفة، ولقد جاء هذا الشكل المسرحي ليكون بديلاً عن الشكل الشعبي في الاحتفال والتفرج، والذي كان يؤدي نفس الهدف، ويلعب نفس الدور، وذلك على امتداد قرون طويلة من التاريخ العربي، وبهذا وجد الإنسان العربي نفسه أمام مسرحين اثنين وليس أمام مسرح واحد موحد، فالمسرح الأول محلي والمسرح الثاني مستورد، وبقيت المسافة بينهما كبيرة جداً، الى أن جاءت الستينيات من القرن الماضي، وانتبهت الحركة التأصيلية الى ضرورة تأصيل هذا الفن، والى حتمية إدخاله في النسيج الثقافي العربي، والى جعله تقليداً يومياً يشبه الاحتفالات والأعياد الشعبية، والتي هي عند البعض مسرح، وهي عند البعض الآخر شيء يشبه المسرح، وهي عند الآخرين مسرح مجهض، وهي عند غيرهم تمثل ما قبل المسرح، وكل هذه الاختلافات لا تلغي الحقيقة الأساسية التالية، وهي أنه لا يمكن أن نتجاهل فرجات شعبية قديمة جداً، فرجات خبأ فيها الإنسان العربي طبيعته في التفرج، وأودعها آدابه وأخلاقه في التلاقي، وحملها شيئاً من خياله ومن فكره ومن معتقداته، ووضع فيها فلسفته في الحياة، وبهذا لم يكن مستساغاً أن يقبل الإنسان العربي على مسرح لا يجد فيه نفسه، ولا يجد بنايته تشبه المسجد والجامع والمقهى والسوق والساحة العامة، ولا يجد فيه شيئاً من الغنائية أو من الطربية أو من الخطابية أو من الحكي الشهرزادي، وكل هذه العناصر ـ وغيرها كثير ـ تمثل روح الثقافة العربية الحقيقية، وتمثل ثوابت هذه الثقافة التي لا يمكن أن تتغير ثوابتها الأساسية مع الزمن، ولعل هذا هو ما دفع كثيراً من المسرحيين العرب ـ خصوصاً في الستينيات من القرن ـ الى البحث عن مسرح عربي حقيقي، يكون من إنتاج هذه الأرض ومن إنسانها ومن تاريخها، ومن ثقافتها، وليس مستورداً، مسرح يكون فيه شيء من السامر المصري، ويكون فيه شيء من الراوي الشعبي العربي، ويكون فيه شيء من الحلقة المغربية، ويكون فيه شيء من الفداوي التونسي، ويكون فيه شيء من الحكواتي الشامي، ويكون فيه شيء من القوال الجزائري، ويكون فيه شيء من التعازي الشعبية، ويكون فيه شيء من القره قوز التركي.
فبدل أن يتأسس هذا المسرح العربي على العناصر الشعبية الأصيلة، في تفاعلها مع العناصر الكونية، فقد اكتفى بأن يستنسخ مسرحاً جاهزاً، وأن ينقله حرفياً، حتى في بعض تفاصيله التي قد لا تعني شيئاً، مثل شخص الملقن وحفرة الملقن والدقات الثلاث والجدار الرابع والكواليس ولون الستار وغيرها من اللزوميات التي لا لزوم لها، وبهذا، فبدل أن تكون الدرجة الأولى في تاريخ هذا المسرح هي درجة العقل، فقد كانت درجة النقل هي المنطلق، وبدل أن تكون درجة التأسيس هي فاتحة هذا الفن، فقد اكتفت بأن تكون فعلاً لاقتباس ما عند الآخرين، ولعل أخطر ما ظل يتهدد هذا المسرح العربي هو هذا الاقتباس الذي يكشف عن الكسل المعرفي والفكري والجمالي، والذي يعيد إنتاج ما تم إنتاجه، ويستعير ما تم تأسيسه في الأزمنة الأخرى وفي الأمكنة الأخرى وفي الثقافات الأخرى، وأن تتم هذه الإعادة ـ أو الاستعادة - بشيء غير قليل من الأخطاء والأغلاط.
النظام المسرحي القديم
هذا النظام المسرحي إذن، مرتب ارتباطاً عضوياً ورمزياً بالنظام السياسي والاجتماعي والفكري والأخلاقي العام، وعليه، فإنه لا يمكن أن نغير هذا المسرح من دون إحداث تغيير جذري عميق في بنية المجتمع العربي، ومن غير إعادة ترتيب سلم الأولويات فيه، ومن غير خلخلة شبكة العلاقات الإنسانية التي تحكمه، ومن غير مراجعة كثير من العادات ومن التقاليد التي ضيعت مدة الصلاحية، ومن غير اقتراح مواقف ومفاهيم وتصورات ومنهجيات أخرى جديدة، ولهذا يكون من الضروري أن نسأل: هل يكفي أن نقرأ هذا الواقع العربي ـ كما هو ـ وأن نقترح تصوراً جديداً لمسرح آخر جديد؟ وهل يعقل إقامة مسرح جديد ومتجدد، وذلك في مجتمع موغل في القدم؟ وهل يعقل أن ننادي بمسرح تجريبي يقوم على العقل، وذلك في مجتمعات لا تؤمن بالعلم ولا بالتجريب العلمي؟ وإذا كان الأصل في المسرح ـ كما يقال ـ إنه مرآة المجتمعات، فهل يمكن تغيير الصورة في المرآة، إذا لم يكن لهذا التغيير وجود مادي محسوس وملموس في الواقع اليومي وفي الحقيقة والتاريخ؟
نعم، إن المسرح فن يتغير، ولكنه يغير أيضاً، ومن هنا وجب التأكيد على أن يلعب هذا المسرح العربي دوره الحقيقي، وذلك في تطوير المجتمع العربي، وفي تنميته، وفي تحريره، وفي دمقرطته، وفي تأهيله لأن يدخل هذه الألفية الجديدة من أبوابها الحقيقية، وفي أن يكون عنواناً على الإنسان المدني المتحضر، وفي أن يكون شاهداً على الحياة والحيوية، وعلى التغير والتحول فيهما، وعلى أن يقوم هذا المسرح بدور الرصد والنقد، وعلى أن يكون قوة نقدية واقتراحية في نفس الآن، وأن تكون له القدرة على الفضح، وعلى التوضيح وعلى التصحيح.
التقليد المسرحي أولاً
إن الذهاب الى المسرح هو أساساً تقليد يومي متجدد في الزمان والمكان، وهو عادة من عادات الإنسان المدني، يقول الشاعر العربي (لكل امرئ من دهره ما تعود) ومن شب على شيء ـ كما يقول المثل ـ شاب عليه، وإن من يتعود على فعل شيء، أو حب شيء، فإنه لابد أن يصبح ذلك الشيء - الفعل جزء حيوي في نسيج حياته اليومية، ومن يتعود على الذهاب الى المسرح، فإنه لابد أن يكون على وعي بقيمته الفكرية وبخطورته في صناعة الإنسان، ولابد أن يكون على علم بضرورة تطويره وتجديده وتحريره حتى يمكن أن يؤدي دوره الحقيقي في المجتمع، كل شيء إذن عادة، حتى الصلاة والعبادة كما يقول العامة، ونحن لدينا عادة السمر وعادة الاستماع الى الشعر والى الخطابة، ولدينا عادة الذهاب الى السوق والى الموالد الشعبية، والذهاب الى المواسم الدينية، ولكن عادة الذهاب الى المسرح تبقى ضعيفة وفقيرة جداً، وتحتاج الى شيء من روح المخاطرة، وتحتاج بكل تأكيد الى ترسيخها أولاً، وتحتاج الى تقويتها ثانياً، وتحتاج الى تعميمها ثالثاً، ليس في المدن الكبيرة فقط، بل وحتى في القرى البعيدة والنائية أيضاً، وأن تشمل المرأة أيضاً، وأن تبدأ من البداية، أي من الطفل في الروضة وفي المدرسة، ونعرف أن من طبيعة العادة أن تترسخ في النفوس والأذهان بالتواتر وبالاستمرار وبالتكرار، أما أن تكون المسارح - كما هي اليوم في كثير من البلدان العربية - مغلقة طوال السنة، وألا تفتح إلا في المهرجانات الموسمية العابرة، فإن ذلك لا يمكن أن يساهم في تنشئة العادة المسرحية، ولا في بلورة الذوق المسرحي، ولا في تأسيس حركة مسرحية حقيقية، وبهذا يكون بناء المسارح وحدها فعلاً لا يكفي، إذا لم تكن هذه المسارح فاعلة ومشتغلة ومضاءة، وذلك على امتداد الأيام والأعوام، والأساس هو أن يكون في هذه المسارح “مسرح”، وأن يكون نشاط هذا المسرح كثيراً ومتنوعاً ومتواصلاً وغير منقطع، لأن الانقطاع يؤدي الى النسيان بالضرورة، وهو بهذا لا يمكن أن يؤدي الى خلق المناخ المسرحي العام، ونعرف أن في الكثرة يكمن النوع والتنوع، وأن من وجود القديم الكائن يخرج الجديد الممكن دائماً، وأن من تراكم المشاهدات - يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام - يتأسس التقليد المسرحي الحقيقي، ومن المؤكد أن شجرة واحدة لا تصنع غابة، وأن زهرة واحدة لا تؤسس حديقة، وأن مسرحيات متناثرة - هنا وهناك - ومتباعدة في الزمان والمكان، لا يمكن أن تؤسس مسرحاً حقيقياً، ولهذا يكون من الضروري التأكيد على الخطوات الأساسية التالية:
ـ إيجاد عروض مسرحية أولاً.
ـ أن تكون هذه العروض كثيرة ومتواصلة ثانياً.
ـ أن تكون يومية وغير موسمية ثالثاً.
ـ أن تحاول أن تؤسس جمهورها المسرحي رابعاً.