رضاب نهار (باريس)
من خلال شاشات العرض الضخمة والمضاءة في أتلييه لوميير في باريس، يطلّ الفنان الهولندي العالمي فنسنت فان جوخ في معرض ضوئي ثلاثي الأبعاد، محدّقاً بوجوه الزوار بعينين مفتوحتين تعلنان استعدادهما للكثير من القصص والحكايا.
يعيد المعرض الذي يستمر حتى 31 ديسمبر القادم، اكتشاف تجربة فان جوخ الفنية، ويسلّط الضوء على مراحل حياته بما فيها من عبقرية وجنون في جميع الأماكن التي أقام فيها (آرل وباريس وسان ريمي دي بروفانس) بوساطة أكثر من 2000 صورة متحركة، استخدمت نظاماً رقمياً متكاملاً من أجهزة عرض الفيديو والصوت، لتتمكّن من تغطية مساحة المكان البالغة 3300 متر مربع، والتي تشتمل على كامل الأسقف والجدران، بما فيها من تقسيمات.
والمعرض الذي أنتجته Culturespaces وأخرجه جيانفرانكو إيانوزي، وريناتو جاتو، وماسيميليانو سيكاردي، بالتعاون الموسيقي مع لوكا لونجوباردي، يأخذ زواره ضمن مجموعات في جولة مبهرة مدتها 35 دقيقة، يمتزج فيها السحر البصري مع الموسيقى وسط فضاءٍ أشبه بأفلام السينما. لكنّ المشاهد هذه المرة يعيش في كوادر وأماكن التصوير. وما إن تتكشّف العلاقة بين الظل والضوء في هذه التجربة، حتى نكتشف أننا في عالم ترسمه ضربات فرشاة تعبيرية وتسيطر عليه الألوان الجريئة. إنه ببساطة عالم فان جوخ الداخلي الفوضوي المزدحم بالمشاعر والتفاصيل. لذا وبينما تسطع أجزاء فان جوخ الملونة على كامل الجدران من حولك، تستطيع أن تعتبر نفسك بمثابة المتورّط في حياته، باحثاً عن إجابات للكثير والكثير من الأسئلة ليس فقط في حياته الإشكالية والغامضة، وإنما في أعماله أيضاً.. فجوخ من الفنانين الذين قد لا نستطيع استكمال قراءة أياً من لوحاتهم كعمل فني منفصل بحد ذاته، بعيداً عن حياتهم الشخصية أولاً، وعن الوقائع والظروف الزمانية والمكانية التي أنجزت في ظلها هذه الأعمال، ثانياً. الأمر الذي يجعلها رحلة مثيرة وتجربة غنية تشبع قليلاً من فضولنا حول هذا الفنان. وأثناء الجولة في الحقول المشمسة داخل المعرض، متنقلين بين «عباد الشمس»، «أكلة البطاطا»، «ليلة النجوم»، «غرفة نوم في آرل»، وغيرها من اللوحات التي أبرزت اهتمامه بتجسيد كل ما هو حيّ وحقيقي، قد نسترجع ما كتبه فان جوخ قبل أن ينتحر في رسالته الأخيرة لأخيه ثيو، حين قال: «لن ينتهي البؤس أبداً». لنقف متسائلين عن هذا التضاد الشاسع بين جمالية أعماله وما تحويه من ألوان وجمالية فنية وبصرية عالية، وبين معاناته النفسية واكتئابه العميق ووجهة نظره السوداوية إزاء الحياة. لكن في الحقيقة لا يوجد تضاد أبداً، فأعماله تعكس جمال روحه ورغبته في أن تكون الحياة شبيهة بهذا النمط، ألوان ساطعة ومفعمة بالحيوية والحميمية، بعيداً عن مرارة الواقع الرافض تقبله واستساغته.
لذا عندما أراد لحياته أن تنتهي في العام 1890، ترك لنا أجزاءه الملونة ولم يحرقها أو يتلفها مثلاً، مؤكداً رغبته في أن تستمر من بعده إلى الأبد، لعله يسهم ولو بقدرٍ بسيط، في تجميل قبح هذا العالم الذي لطالما عذّبه. ما يعني أن أعماله محاكاة للجمال الكامن في داخله الذي رفض أن تهزمه البشاعة.
ندخل المعرض باحثين عن إجابات، لكننا نخرج بالمزيد من الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها إلا إذا قرأنا فان جوخ فنياً وفكرياً ونفسياً ووجودياً، مؤمنين بأن عينيه اللتين كانتا تحدّقان بنا لحظة دخولنا، لا يبدو أنهما ستملّان وتغمضان أبداً.