يسود الاعتقاد أن الملبس، شأنه شأن اللغة، محدِّد من محدّدات هوية حامله. لذا يعتبر دالاً على مرتبتنا الاجتماعية وانتمائنا الطبقي، وعلامة على هويتنا (السياسية والثقافية والدينية) إن لم يكن جزءاً منها. ولعل خير وسيلة لتبين هذه «الهوية» اللباسية، وربما لخلخلتها، هو الكشف عن حركة تكوُّنها. فأنجع وسيلة لتجاوز الميتافيزيقا وتفكيك ثنائياتها هي اقتحام أبواب التاريخ الذي يعلمنا، كما كتب ميشيل فوكو: «إن وراء الأشياء شيئاً آخر، لكنه ليس السرّ الجوهري الخالد للأشياء، بل سر كونها من دون سرّ جوهري، وكون هويتها قد أنشئت إنشاء».
يسود الاعتقاد أن الملبس، شأنه شأن اللغة، محدِّد من محدّدات هوية حامله. لذا يعتبر دالاً على مرتبتنا الاجتماعية وانتمائنا الطبقي، وعلامة على هويتنا (السياسية والثقافية والدينية) إن لم يكن جزءاً منها. ولعل خير وسيلة لتبين هذه «الهوية» اللباسية، وربما لخلخلتها، هو الكشف عن حركة تكوُّنها. فأنجع وسيلة لتجاوز الميتافيزيقا وتفكيك ثنائياتها هي اقتحام أبواب التاريخ الذي يعلمنا، كما كتب ميشيل فوكو: «إن وراء الأشياء شيئاً آخر، لكنه ليس السرّ الجوهري الخالد للأشياء، بل سر كونها من دون سرّ جوهري، وكون هويتها قد أنشئت إنشاء».
لو استعنّا بمختبر التاريخ لتبيّن لنا أن لهويتنا اللباسية، شأن هوياتنا الأخرى، جذوراً في التاريخ، وأنها تحولت بتحوله وتطورت بتطوره، وأنها لم تكن دوماً على ما هي عليه، وأننا كنا من غير أن تكون.
***
لنأخذ مثالاً على ذلك حالة قطر عربي، ولنتوقف عند بعض الملاحظات التي يجملها المؤرخ عبد الله العروي حول تطور اللباس في المغرب الأقصى. يلاحظ العروي أن اللباس المغربي تطوَّر في انسجام مع التوجّه السياسي للبلاد. فعندما كان المغرب منفتحاً على التيارات الخارجية اتخذ اللباس طابعاً متوسطياً فأندلسياً فعثمانياً. وعندما كانت البلاد تنغلق على نفسها، كان المغرب يفضل أن يلبس لباساً مميّزاً.
عند بداية القرن التاسع عشر أقرّ السلطان مولاي سليمان اللباس الذي كان يَعتقد أنه لباس النبي، معتقداً أن الاهتداء بالسنة النبوية ينبغي أن يشمل جميع مظاهر الحياة بما فيها الملبس. إلا أن بداية القرن العشرين عرفت في عهد السلطان عبد العزيز، وتحت تأثير الأتراك، إصلاحات محتشمة وتحوّلاً في هذا المضمار.
وعندما قامت الحركة الوطنية ضد الاستعمار اتخذ زعماؤها لباساً في البداية: الجلبابَ الريفي، المائل إلى القصَر، إعجاباً بثورة عبد الكريم الخطابي، إلا أنهم سرعان ما حولوه إلى جلباب بورجوازي ذي طابع حديث، وهو الجلباب المعروف اليوم الذي أشاعه الملك محمد الخامس، وهو الذي أخذ يُعرف باللباس «الوطني». وعلى رغم ذلك، فإن بعض قادة الحركة الوطنية أنفسهم، خصوصاً أولئك الذين تشرّبوا منهم الثقافة الغربية، لم يجدوا حرجاً في أن يجلسوا أمام مائدة المفاوضات حول استقلال المغرب باللباس «الأوروبي». وهذه الازدواجية ما زالت إلى اليوم تطبع اللباس المغربي على العموم. فأنت ترى الشخص نفسه يلبس اللباس «الوطني» في محافل بعينها تأكيداً لهويته الثقافية أو الدينية أو السياسية، ويلبس غيره في مناسبات أخرى.
***
يشير رولان بارت إلى ما يدعوه قانوناً أثبته دارسو الفولكلور، فحْواه أن «كل منظومة لباس هي منظومة جهوية أو عالمية، وهي لا تكون أبداً منظومة قومية وطنية». لعل ما يعنيه صاحب «منظومة الموضة» هو أن اللباس لا يدل على انتماء بقدر ما يدل على تشيّع، وهو لا يحيل إلى هوية بقدر ما يردّ إلى اختلاف. فهو أساساً علامة تمْييز وتميّز.
***
معنى ذلك أن اللباس لا يردّ إلى أية هوية بما فيها الهوية الدينية. فهنا أيضاً نلمس الطابع الجهوي الذي يشير إليه بارت. ذلك أن لا وجود لِلِباس يحيل إلى ديانة بعينها، كل ما هناك ألبسة تحيل إلى تشيّع ديني. فليس هناك لباس مسيحي، بل هناك لباس أورثوذوكسي ولباس كاثوليكي وآخر بروتيستانتي.
***
رغم الوظيفة التمييزية التي يتحدد بها اللباس، فإن ميلاً عارماً أخذ يسود اليوم في اتجاه توحيد الملبس الذي أصبح ينحو نحو إلغاء الفروق حتى بين الجنسين. وما يسمّى اليوم في بعض المجتمعات اللباس الرسمي، ليس إلا لباساً موحّداً يخضع لقاعدة تُفرض فرضاً تنزع عن الملبس خاصيته التمييزية وقوته التفاضلية، وتفقده وظيفته، فتجعله موحَّد الشكل والمظهر uni-forme ليغدو أداة انسجام وتوحيد وتسوية.
***
وعلى رغم ذلك فاللباس يظل دوماً حاملاً لعلامات، هذه العلامات تشير إلى مهن وحِرَف، كما قد تردّ إلى أحوال نفسية واهتمامات عملية، بل إنها تحيل إلى مكانة ضمن التّراتبية الاجتماعية، فتُميّز بين طبقات وأجيال.
***
لعل المجال الاجتماعي هو أوضح ميدان يتضح فيه الطابع التمييزي للّباس، فاللّباس يميّز بين أجيال وبين فئات ومِهن. وهنا نلمس تقسيماً للعمل على مستوى الملبس موازياً لتقسيم العمل الاجتماعي إلى عمل فكري وآخر يدوي. وقد سبق لأمبرتو إيكو أن لاحظ أن من الملابس «ما يفرض عليك أن تعيش من أجل الخارج»، فيبعدك عن ذاتك، ومنها ما يعيدك إلى حياتك الباطنية. هناك ألبسة فضفاضة «تترك للجسد حرية الحركة»، وللفكر فرص العمل، وفي مقابلها ملابس «تلبس صاحبها»، وهي ملابس «عملية» كتلك التي يحملها رجال المطافئ والجنود والرياضيون. يبيّن أمبرتو إيكو كم ناضَل المفكرون الغربيون خلال قرون للتخلص من اللباس الضيق: «فبينما كان الجنود يعيشون خارجاً مغلّفين داخل لباسهم وأقنعتهم، فإن رجال الدين المسيحيين قد أبدعوا ملابس كانت تنسى الجسد وتترك له مجالاً للحركة وفضاءً للحرية».
***
رغم ذلك فإن هذه النظرة الوظيفية تظل محدودة عاجزة عن الاستيفاء بدلالات اللباس جميعها. فالنظرة إلى اللباس من حيث وظيفته كالقول، على سبيل المثال، إنه كساء يحمي ضد تقلبات الطقس ولدغ الحيوانات ولسع الحشرات، لا تبدو مستوفية. فكما لاحظ أحد الدارسين، لو أننا حددنا اللباس على أنه ما يحمي من البرودة، فإن شعوب البحر الأبيض المتوسط ستظل عارية عشرة شهور في السنة، هذا إنْ لم نذهب حتى القول إن الملابس بالأحرى هي التي تضعف من مقاومتنا، وتفقدنا القدرة على التأقلم مع الحرارة الطبيعية. وبالمثل إنْ نحن نظرنا إلى اللباس في وظيفته كوسيلة لستر الجسد دلالةً على الحشمة والوقار، فإننا نكون أكثر ميلاً إلى تبسيط الأمور. ذلك أن اللباس يُظهر عندما يُخفي، وعندما يسترُ جوانبَ فلإبراز أخرى. فالستر غالباً ما يقترن بالعري، والحشمة بالإثارة، وغالباً ما يهدف التستر إلى إبراز مفاتن الجسد بكيفية غير مباشرة.
***
حتى إنْ لم نكتف بهذه النظرة الوظيفية، وذهبنا إلى القول مع هيجل، إن اللباس هو «ما يصبح به الجسم دالاً»، أي حاملاً لعلامات، فإن ذلك يحتّم علينا أن نعتبر أن هذه العلامات، تتحدد مثل علامات دو سوسير، في علائقها التفاضلية، من حيث تحكمها الفروق والاختلافات، أي أنها لا تجد مبررها أساساً في الطبيعة أو في العقل.
***
على هذا النحو نلاحظ أن اللباس أصبح يتحدد بعوامل تفوق المهنة والرتبة والجنس، ليتخذ دلالات سياسية، بل وأحياناً أنطولوجية، تمس هويتنا وتحدد ذواتنا. فحتى «علمانية» الملبس ذاتها، أخذت تتراجع ليعود للباس معنى يتجاوز السياسة والمجتمع، وليضع الإنسان، لا ضمن تراتبية اجتماعية فحسب، وإنما ضمن تدرّج كوسمولوجي ومقامات كونية.