مقصودي هنا إظهار أن هوية اللغة تكمن في قدرتها الباطنية على الإفصاح عن حقيقة عالم ما، كما يفهمه ويحسه شعب أو أمة ما؛ ومن ثم فإن هناك صلة وثيقة بين ماهية اللغة من ناحية، وهوية الشعب الذي يتحدثها من ناحية أخرى. حقيقة اللغة تتجلى، أي تفصح عن وجودها الحقيقي، في لغة شعب ما، حينما ينطقها مفصحاً عن أسلوبه الخاص في التفكير والفهم والشعور.
لا شك في أن هناك كثيراً من الدراسات الجادة في الحقل الدلالي للغة، فطن أصحابها إلى ما هنالك من صلة وثيقة بين اللغة والهوية، بل بين اللغة والدين، حتى أنهم ذهبوا إلى أن اللغة تكاد تكون مرادفة للهوية في كثير من الحالات، باعتبارها المكوّن الأساسي في الحفاظ على الهوية الثقافية. بل إن الكنيسة قد اعتبرت الولاء اللغوي شأناً من شؤون الإيمان، عبر الشعار المشهور: «من يفقد لغته، يفقد إيمانه». غير أن مثل هذه الدراسات، على جديتها وعمقها، لا تسعى للكشف عن الدلالة الأنطولوجية للغة، وهي الدلالة التي تكشف عن أسلوب وجود أمة ما من خلال اللغة في تشكيلها الحسي والجمالي، على نحو ما أبان عن ذلك قليل من الفلاسفة أمثال هردر وهيدجر. ولطالما أكد هردر على الصلة الوثيقة بين اللغة والشعب، إذ إنها تحدد هوية الناس وتجعلهم على وعي بأنفسهم ووجودهم، وهو يرى أن معظم الناس يظنون اللغة شيئاً ما يُعني النحاة فحسب، في حين أنها حروف عقلنا، ومستودع ثقافتنا، وأساس وجودنا الاجتماعي؛ فاللغة هي ائتلاف أرواحنا.. الذي يربط الآباء بأولادهم، والمعلم بتلاميذه، وبأصدقائه، وبرفاقه المواطنين، تربطهم اللغة جميعاً كموجودات بشرية.
الوسيلة
تبقى اللغة هي العنصر الأساسي الذي يسهم في تشكيل هويتنا.. هوية شعب أو أمة ما.. إنها تجسد أسلوب الناس في العيش والفهم والشعور وإحساسهم بالوجود والحياة، إنها اللغة الحميمة التي لا يمكن التعبير عن معانيها بلغة أخرى، وهي اللغة التي تجسدها الأغنية خاصةً. غير أن اللغة لا تفصح عن هويتها؛ وبالتالي لا تفصح عن هوية شعب ما، في أي شكل من الأشكال المتداولة والمألوفة لاستخدامها: كما هو الحال ـ على سبيل المثال ـ في استخدامنا للغة بهدف توصيل أغراضنا ومقاصدنا العابرة المباشرة، وفي لغة العلم التي تسعى هي الأخرى إلى توصيل معرفة ما، وإن كان في شكل أكثر دقة وموضوعية. ولهذا يرى هيدجر أن اللغة في مثل هذه الاستخدامات لا تكون لغة بحق، أعني لا تتحقق فيها ماهية اللغة؛ فالوجود لا يسكنها، وإنما هي تتجه دائماً إلى الخارج ولا تجلبه إلى داخلها: اللغة هنا مجرد وسيلة أو أداة للتعبير عن المعنى الذي يوجد خارجها ولا يسكنها، لا يسكن حروفها وصوتياتها، بل وموسيقاها أحياناً. ولهذا يمكن القول إنه كلما استعصت معاني اللغة ومقاصدها على الترجمة، كانت أكثر إفصاحاً عن هويتها وإعلاناً عن حضورها.
وعلى هذا، فإننا يجب أن نتوقف في هذا البحث عند حالة الشعرية باعتبارها الحالة التي تتجسد فيها ماهية اللغة على نحو أصيل لا تنفصل فيه ماهية اللغة عن هوية أولئك الذين يتحدثون هذه اللغة. فالشعرية (التي تبلغ ذروتها في الشعر) تكمن في أن معاني اللغة تكون مضمرة في كلماتها وصوتياتها وإيقاعاتها وصورها الحسية المشربة بعالم الإنسان الذي ينطق اللغة. كما أن الشعرية ليست مقصورة على اللغة الفصحى، بل إنها يمكن أن تتجلى في اللغة العامية المنطوقة عندما تسمو، وعندما تتخلى عن أغراضها العملية العابرة والمباشرة، مثلما كان حالها في الأغنية. ولأن الأغنية حالة خاصة تتجلى فيها ماهية اللغة وهوية الوجود البشري؛ فإنها تستحق أن نتوقف عندها بوجه خاص.
خصوصية
لقد اعتاد فلاسفة الفن الاستهانة بالأغنية من بين الفنون جميعاً، مع أن الأغنية هي أكثر الفنون قدرة على التعبير عن هويتنا. ولا شك أن الفنون جميعاً تعبر عن روح عصرها ووطنها، ولا شك أيضاً أن الشعر - الذي هو فن اللغة على الأصالة - هو أكثر الفنون قدرة على التعبير عن هذه الروح، وأشدها التصاقاً بها. ولكني أزعم أن الأغنية بوجه أخص (أعني الشعر المغنَّى) أكثر الفنون التصاقاً بهذه الروح، ومن ثم بالهوية. ليس فقط لأن اللغة الشعرية هنا هي وطن نقيم فيه ويكسبنا ملامحنا وأسلوبنا في الوجود؛ وإنما أيضاً لأن الأسلوب اللحني الخاص الذي يتم به نطق الكلمات والتغني بها، يضفي على اللغة التي تُقال هنا دلالات بالغة الخصوصية، ويُلوِّن معانيها بألوان مشبَّعة بروح الوطن ورحيقه وروائحه. وطن بلا رائحة، وطن بلا روح. أفلا ترى ما هنالك من صلة وثيقة بين الرائحة والروح! إن الرحيق أو الرائحة هو مما لا يمكن ترجمته عبر أية لغة أخرى؛ ولذلك فإنه يبقى لصيقًا باللغة الأم التي نحس ونشعر من خلالها بملمس ورائحة الأشياء وتفاصيلها الحسية، ولا سبيل للآخر أن يفهم ذلك حق الفهم عبر الترجمة، فهو يمكن أن يفهم ذلك على سبيل التقريب فحسب، لا على سبيل عمق الشعور بحقيقة ما يُقال؛ ولذلك طالما أشفقت على المترجمين العظام الذين ينفقون معظم حياتهم في ترجمة النصوص الشعرية بوجه خاص.
لماذا الأغنية بالذات؟ للأغنية خاصة تلك القدرة الهائلة على استدعاء الشعور بالحنين للوطن، فالأغنية هي أكثر الفنون قدرةً على التعبير عن روح أمة أو شعب ما؛ لأن الأغنية هي الفن الذي تكمن ماهيته في اللغة.. لغة شعب ما. أعرف أن الأغنية ـ شأن كل فن ـ فيها طابع إنساني عالمي يتجاوز موطنها الأصلي، وهو ما يجعلنا نستمتع بها، حتى إن كانت لا تنتمي إلى وطننا. ولكني أعرف أيضاً أن مثل هذا النوع من الأغاني لا يمكن أن يمتد تأثيره إلى الآخر ما لم يكن معبّراً بصدق عن ملامح عصره وزمانه الخاص، وهذا ما يجذب الآخر إليه: خصوصيته، ورائحته، ومذاقه الخاص الذي يعبر عن أسلوبه في الوجود!
يتجلى كل هذا بوضوح في حالة الأغنية الوطنية خاصةً. غير أن ما نسميه «بالأغنية الوطنية» ليس هو الشكل الوحيد للتعبير عما هنالك من صلة وثيقة بين الأغنية والوطن. فكل أغنية حقيقية لا بد أن تجسد شيئاً من روح الوطن الذي يتبدى في لغة الأغنية، وفي موسيقاها، وفي تصويرها لمعاني الأشياء ولكيفية الشعور بها؛ ففي هذه التفاصيل الصغيرة تكمن روح الوطن وتتجلى من خلال الأغنية. ويمكننا القول بأن لغة الأغنية بوجه خاص هي اللغة التي لا يمكن ترجمتها إلى لغة أخرى، وإنما يمكن تخيّل نظير موضوعي لها فحسب. طالما شغلني هذا الأمر وتساءلت عنه: هل يمكن تصور وجودنا على النحو والهيئة التي هو عليها من دون اللغة التي نتحدثها وننطقها، وخاصة حينما نتغنى بها؟! هل يمكن تصور مطرب من مطربينا العظام ينطق بلغة أخرى ويتغنى بها؟! لو أمكن أن نتخيل ذلك، فلن يكون لصوتهم معنى عندئذ، ولن يكون فيه أي إحساس أو جمال؛ ولذلك فإن الآخر الذي لا ينطق العربية يمكنه فقط أن يتلقى تلك الأغنية من خلال تخيل نظير موضوعي لها في لغته التي تعبر عن عالمه. فالأغنية تظل لها متعتها بسبب أصالتها، أعني بسبب إدراكنا أن معانيها التي نفهمها قد جاءت إلينا محملَّة بعبق موطنها، وإلا كانت مسخًا مشوهًا بلا معنى! كذلك فإن الموسيقى بألحانها وإيقاعاتها المختلفة إنما تجسد شيئاً من إحساسنا الخاص بإيقاعات الأشياء من حولنا وفي عالمنا. ولهذا يمكن القول إننا عندما نستمع لأغنية ما، نجد أنها تستدعي عندنا الشعور بالوطن في لحظة تاريخية ما.
انسلاخ
لطالما حذر الحكيم غاندي أمته من تعلّم شبابها اللغة الإنجليزية كما لو كانت اللغة الأم، واعتبر اليابان النموذج الذي ينبغي أن يُحتذَى، فهم لم يستعملوا اللغات الأجنبية وسيلة للتعليم، بل يتعلمها بعضهم بهدف إغناء الثقافة اليابانية بالفكر والمعرفة، بأن يترجموا كل ما هو جدير بأن يؤخذ من الغرب، والمعرفة المتحصلُ عليها تصبح عندئذ ملكية قومية. أما سيادة اللغة الأجنبية كلغة تعليم وتعلم أو كلغة خطاب رسمي إنما هي ـ كما يقول د. رشيد بلحبيب ـ حالة مرَضية لعل أهم أعراضها: الانسلاخ من الثقافة القومية والتنكر لها؛ ومن ثم الشك في أهمية اللغة القومية، وفي مقابل ذلك تقديس لغة الأجنبي من خلال إكبار منتوجه الفكري.
معنى أن تحيا وتفكر بلغة الآخر أن تنسحق في الآخر: فالآخر ينبغي أن يبقى دائماً كموضوع ينبغي التعامل معه على المستوى النفعي، أعني التعامل معه على مستوى تبادل المنافع والمصالح: لا يمكن ـ أو لا ينبغي ـ التعامل مع الآخر كما لو كان وجوداً يمكن أن يحل محلي، أي لا يمكن أن يصبح «أنا». إن «الأنا» الحقيقية هي الأنا التي تكونت وصمدت عبر آلاف السنيين: إنها أشبه بصخور الجبال التي تواجه البحر في حالة من التحدي.. قد يغير البحر شيئاً من مظهرها بفعل النحر والتعرية، ولكنها تظل باقية على أية حال، إن كانت صخوراً حقيقية تنتمي لجبال أصيلة، ولا شك أن اللغة هي أول شكل من أشكال إعلان الحضور في مواجهة الآخر.
تحديات
تبقى قضايا لا حصر لها تتفرع عن هذا الموضوع الخصب الذي يستحق كثيراً من الدراسات الفلسفية التي يمكن أن يتأسس عليها كثير من الدراسات الاجتماعية والسيكولوجية والسياسية، لتخصب التناول الفلسفي الكلي بالوقائع التجريبية والمشاهدات العيانية. ومع ذلك، فإنه تظل هناك تساؤلات تطرح نفسها علينا هنا في نوع من التحدي.
من هذه التساؤلات التي يمكن أن تُثار في مواجهة موقفنا: أننا نجد أمماً ثنائية اللغة Bilingual أو متعددة اللغة Multilingual، فهل ينال ذلك من هويتها؟ ومن ناحية أخرى، فإننا نجد أمماً لا نستطيع أن نشكك في قوميتها تتحدث نفس اللغة: فاللغة هنا تتجاوز حدود القوميات، كما هو الحال في السياق اللغوي المشترك الذي يوجد في بريطانيا والولايات المتحدة واستراليا وكندا إلى حد ما. أفلا يعني هذا أنه ليس هناك ترادف أو حتى ارتباط وثيق بين اللغة ومفهوم الهوية؟!
ولا شك أن هذه التساؤلات تشكل تحدياً حقيقياً لموقفنا السابق من مسألة العلاقة بين اللغة والهوية. ولكنني أظن أن الإشكالية التي يطرحها هذا التساؤل يمكن تجاوزها إذا ما أدركنا أننا وإن كنا نتحدث عن هوية الوطن، إلا أنه ليس هناك ترادف بين الهوية والوطن أو القومية. ما يجمع أهل الدول ذات اللغات المتعددة، أو بين الدول المتعددة التي تستخدم لغة واحدة، إنما هو شيء آخر لا يخص الهوية، بقدر ما يخص الدستور والقانون والعقد الاجتماعي والتاريخ الذي يجمع كلّا منها على أرض واحدة. ولذلك فإن كون المرء سويسرياً ـ على سبيل المثال ـ يعني أنه يعيش داخل حدود إقليم يضم أعراقاً تتحدث لغات ثلاث هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، تجتمع وتأتلف معاً في وحدة واحدة بفضل الدستور والقانون؛ فضلاً عن أن المرء السويسري يعرف أنه ينتمي إلى هوية أخرى واسعة تندرج تحت كلمة «أوروبي». وكل هذا يستدعي أن نتأمل وضعنا كأمة عربية تتوافر لها كل مقومات الهوية، وعلى رأسها اللغة؛ ومع ذلك فإنها أقل الأمم العريقة وحدةً!