تشدنا المياه التي تجري، تجذبنا مسارات الأنهار التي في كامل عافيتها ولمعانها وشبابها، المياه المتحركة الحيّة التي تفتح فمها للبساتين والحقول ونداءات الفلاحين، وتمدّ ذراعها للتّرع والزوارق والأناشيد والمعابد، والتي تنمو فكرة الإنسان من حولها، وتتنهد الروح على تعرجات ضفافها، وينمو تاريخ البطء وذاكرة الزمن النهري.
ولكن ماذا عن الأنهار الصغرى التي تجف موسمياً؟ الأنهار التي تترك لنا لوحاتها الطينية في اليابسة، الترسبات التشكيلية لقنواتها وأوردتها، نحتها الأنطولوجي، تمثلاتها الرمزية، انثيالاتها المتعانقة؟
الأنهار الصغرى الراحلة في مواسم الغياب، تترك لنا سيرة عشّاقها في التجاويف والحواف الشاهقة، تترك إيقاع الزمن المشيمي الغائر في الأخاديد والبحيرات الجافة، تترك انعكاس وجهنا الغريب الغارق في براءة المياه الأولى، تترك لنا أشواقنا إليها، ملتهبة ومشعّة وجانحة، تترك لنا فكرة فلسفية غامضة، ريثما يعود دفقها الجاري في المواسم الخصيبة، القادمة بالفيضان.
وماذا عن الأنهار العملاقة؟ الأنهار التي كان لها سلف الجريان والتنوير والتحضّر والإضاءة الروحية في حقب الحياة البعيدة، الأنهار التي هاجمها فيضان الأتربة وفق غزوة صحراوية خطط لها المناخ المتلاحق في الجفاف والعتمة والعراء والقفر، حين اختارت رحيلها الأبدي، ما الوشم الذي تركته خالداً على جسد الصحراء؟
وماذا يحدث للزمن الأرضي، حين تجف وترحل تلك الأنهار؟ هل يجف هو الآخر؟ أم يدخل من جديد في دورة أخرى؟
وماذا عن المكان؟ والأثر؟ لِما يبدو في جوهره الميتافيزيقي وكأنه ذاهب إلى العدم العميق، منعكساً في بقعة ماء خارج الزمن؟ أم أنه يدير مفتاح زمن الأزمنة كلها؟ ماذا يترك النهر وراءه بعد رحيله؟
نهر الشجرة
النهر العظيم، النهر العتيق الذي امتدّ في الألغاز والحكايات وعيون السّحرة، ترك على جسد الصحراء شجرة وحيدة جيولوجية هائلة، تضاريسية عملاقة كأنها من حقل مردة الجن، ثم غاب أزمنة إلى حيث لا نعلم.
إن شجرتنا المذكورة في هذا النص ليست ضرباً من المجاز، وقبساً من هالة المخيّلة، بل هي حفر جيولوجي بارز، تجويف عملاق، خريطة تائهة من الأخاديد والجداول الناشفة، لوحة واحدة تشكّلت من ضربات الماء القديم لملامح شجرة ربّانية عارية عملاقة هائلة (جذع صلد/ أغصان وفروع طرية).
النهر العظيم في الصحراء لم يمت، لقد فُقِد بين إغفاءة الزمن وانتباهه. ها هو حاضر بقوته الجبّارة في أيقونة روح جافة، ينبت له على مر العصور جسد زمني يكبر نحته في اليابسة والحجر، وفق أوركسترا النور والرمل والألغاز الكونية.
يا تُرى، من أي زاوية سماوية عميقة تبدّت وتجلّت تلك اللوحة الشجيرية الغائرة في الوجود العظيم؟
***
لم يكن حلماً، لم تكن فكرتي سوريالية، لقد تراءت لي تلك اللوحة من سماء تبعد عن مدينة (الأقصر) المصرية الأثرية بـ 200 كيلومتر تقريباً. تأتي العروق والأغصان الرملية الجوفية كأول مشهد افتتاحي يتعرّج بالجمال من مشاهد الأرض الشجيرية، مرتفعات ووهاد متورمة إلى اللانهاية منذ آلاف السنين، صدوع حادة وأبراج جبلية مقوّضة على شكل أغصان.
إنه نحت أوزيريس، لا شك فيه، حفر أسطوري مهيب، لوحة تلو لوحة، وكأن الإله مد إصبعاً من فيضان، ليرسم كل تلك الأغصان العارية في الأرض.
يوماً ما، ومنذ مئات السنين وأكثر، كان النهر هناك، يربط الجبال بالبشر، كان جسراً للبقاء.
لقد انكسر ذلك الجسر النهريّ، إنه نهر مُحبَط، انكسر كمعنى انكسار القلب في أقصى حالات الخذلان، فبدت آثاره وكأنها ظلال تجريدية لأغصان شجر تساقطت عنه الأوراق. وبدا لي كما لو أن هناك انتماءً واضحاً لشجرة ما، شجرة وجودية، ملخص تكوينها نحت نهري، حفر ورسم بيد النهر، حياة تمرّ، ولادة كائن يضحك وسط صحراء رملية حصوية في منتهى الجفاف والموت.
وكان السؤال الكبير: ألا يمكن أن تتكرر تلك المنحوتة النهرية في صحراء عظيمة أخرى من صحاري العالم؟
البحث في المدى
يشدنا المدى، الغني بالمعاني والدّوال والخيال، المدى المتاح لتشكيل صور تتجاوز الواقع، والذي يقدم نفسه بوصفه فضاءً كونياً مفتوحاً على امتداداتٍ من الإشارات السحرية.
بدأ المدى يشدّنا من جديد، الشدّ نحو البحث أكثر في أطلس الأنهار، في قواميس صور المياه القاحلة وعطش المجرى، فعثرتُ على صورة أحفورة نهر عملاق، قد جفّ منذ آلاف السنين في صحراء (باجا) في المكسيك، برزت على صدر الصحراء منحوتة التيارات النهرية التي تركت وراءها لوحة لأشجار كاملة عارية (جذوع/ أغصان/ فروع). ثم اطلعتُ على صورة أخرى تحمل تفاصيل الشجرة نفسها في صحراء واسعة تجثم على غرب أستراليا. وتساءلت: (ألا يمكن أن تكون لوحة الشجرة النهرية أيضاً في صحراء الربع الخالي كجزء من نهر مفقود؟ نهر بقيتُ أطارده في روايتي التي نسجتها عن تلك الثيمة الروحية للأنهار الأزلية الضائعة؟).
لم يتعرقل سؤالي ولم يتحجّر كثيراً، فأنا أتذكر تلك الصور التي التقطتها الأقمار الصناعية وتظهر فيها شبكة هائلة من الأنهار في شبه الجزيرة العربية، وتحديداً صحراء الربع الخالي، لكن الأبرز منها وظلّ عالقاً بعلاماته النادرة هي تلك الصورة التي التقطتها وكالة ناسا الفضائية لنهر جاف على بعد 120 كيلو جنوب الرياض.
اختفى النهر الحالم عبر الأزمنة، تاركاً وراءه روافد ومسارات قاحلة، تأخذ شكل أوراق النبات المتفرعة.
ماذا يريد النهر أن يقول في غيابه؟
هناك نبوءة زمنية، غيبية، رسالة النهر المفقود في الصحاري.
قد يقول قائل: ربما هي هالة المخيّلة.
ليست مخيلة، هي رسالة شعورية مطمئنة، إشارة خطرة وجميلة وحساسة.
أقول ذلك وكأن حلقي يحمل جفاف كل أنهار الأرض. أكان من الأجمل لو أني صمتُّ وامتنعت عن تدوين الإشارة المرهفة، وواصلت التفكير السري بما رأيت هناك من الأعالي؟ وكيف سأحتمل كتمان ذلك المشهد الساحر المكتنز بطاقة الزمن والجلال؟
بعيداً عن التفسير العلمي الذي يقنن من إمكانية التأويل الجيّاش للسّحر والتمدد الرمزي، فنحن أمام لوحة تشكيلية خلاقة وبديعة من ريشة الله، أكثر من كونها تطريز جيولوجي بيد الطبيعة، البعد العلمي قد يفسد بعض الجمال المنتظر خلف ستر الطبيعة. فما هو البعد الرمزي الذي أراد النهر إيصاله من خلال لوحة الشجرة؟
قد تعني الشجرة التجلي الكليّ، وترمز في بعض معانيها إلى أصل الحياة، وإلى البدايات الأولى وانبثاق عناصر الوجود، ونشأة الكون وصيرورته، وإلى المصير الإنساني المأساوي المقترن بالموت والعدم.
تحقق الشجرة أيضاً الوصول إلى القوة الشمسية، والسرّة، ومركز العالم، وتحمل مدلول المبدأ الأنثوي والغذاء والمأوى والحماية، كما أنها تمثل جانب الدعم والمساندة عند الأم العظيمة، ورحم المياه الخصبة دائمة التدفق التي تتحكم فيها، وتصور الأشجار على هيئة شخصية أنثوية.
ولكن لما اختار النهر الجاف شكل الشجرة من بين كل أشكال الطبيعة؟
لن تكون هنالك إجابة قاطعة.
تمتد جذور الأشجار إلى أعماق الأرض عند مركز العالم، وحيث إنها متصلة بالمياه، فإن الشجرة تنمو في عالم الزمن، وتضاف إليها الحلقات لإظهار عمرها، وتصل فروعها إلى السماء والخلود.
الشجرة الوارفة دائمة الخضرة أشبه بالنهر العملاق، ترمز إلى الحياة الأبدية، وترمز إلى الرّوح التي لا تموت، وإلى الخلود، أما الشجرة الموسمية سريعة الزوال، فهي تمثل حال العالم المتجدد دوماً والمتوالد باستمرار. إنها الموت، والحياة، والبعث، والتكاثر، وكلتا الشجرتين ينطبق عليها التماثل النهري، كالنهر الذي رَمَزَ للتنوّع في الوحدة، والروافد الكثيرة التي تتفرّع من نهر واحد هي كالأغصان الكثيرة التي تنبت من جذع واحد، ثم تعود ثانية إلى الوحدة في الاحتمالية الكامنة لبذرة الثمرة على هذه الأغصان.
الأشجار تسبح في النهر
في أميركا الشمالية عند قبائل الهيداتسا، حين يجرف نهر (ميزوري) في تياره شجرة عظيمة أو جزءاً من أغصانها، يُقال إن روح الشجرة تبكي. إذ يعتقدون أن لكل شيء طبيعي روحه الجديرة بالاحترام.
حين يجرف نهر (ميزوري) جزءاً من ضفتيه بسبب الفيضان، يجرف في تياره شجرة فارعة الطول، في حين تتمسك الجذور في اليابسة، حتى يسقط جذعها في الماء.
وفي بعض المعتقدات الشرق آسيوية يقال بأن جسد العاشق من ماء وشجرة، لا ينبغي أن يُدفن في طين مقبرة، يُدفن في شجرة مقذوفة في المياه. فالموت في الشجرة المقذوفة في المياه هو أكثر أشكال الموت أمومة، فحين يوضع الميت في قلب الشجرة، وتوضع الشجرة في قلب الماء، تُضاعف بطريقة ما تلك (القوة الأمومية)، وتُعاش مرتين أسطورة الدفن التي تحكي بأن الماء يعيد الميت إلى أمه، ليكون مولوداً من جديد.
يحدث في طميّ أغلب أنهار العالم، أن يعثروا على جذوع أشجار حفظها التحجّر بأعجوبة، كان قد سكن إنسان في كل جذع.
مرد الإنسان إلى الحضن النباتي للشجرة، ذلك المخبأ الشجريّ المتروك للنهر، والمقدّم للماء والبحر، ينتظر التحلل البطيء في الهواء، تساعده عليه الطبيعة، وطيور الليل، ويرقات الصباح، وآلاف أشباح الرّيح.
***
مهما كتبت عن لوحة الشجرة التي رأيتها في تورمات نهر جاف قبل مسافة كيلومترات من معابد الفراعنة في مدينة (الأقصر)، فلن أصل إلى مستوى الإشباع الكامل لما رأيت، أحتاج للدخول إلى مرحلة الكمال عند الكتابة عن منحوتة ذلك النهر العظيم، والكمال لن يحدث مطلقاً، إذا اكتمل الشيء مات، لذا سأستمر في محاولاتي وإن كنت غير راضية عن المحصّلة، سأجعل من كل لحظة كتابة عن الأيقونة الخفيّة لذلك النهر، هي لحظة إنشاء وولادة جديدة للمشهد، لحظة انصهار بجوهر النهر الغائب.