شاكر نوري
عن دار نشر «رواشن» الإماراتية، صدرت الأعمال الشعرية الكاملة تحت عنوان «أصافح ضيوفاً لا أعرفهم في الظلمة» للشاعر الإماراتي أحمد العسم، في 464 صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن جميع دواوين الشاعر الصادرة بالفصحى بين عامي 1998-2016 في تسع مجموعات وهي: «مشهد في رئتي»، و«يحدث هذا فقط»، و«الفائض عن الرف»، و«باب النظرة»، و«ليل يبتل»، و«المُهمل في الحياة»، و«لم يقصص رؤياه»، و«كوخ مالح»، و«وسط بعيد» إذ تشكل هذه المجموعات حجر الأساس في تجربة الشاعر الإماراتي أحمد العسم. ويعتبر هذا الإصدار حدثاً أدبياً له صداه وتأثيره في سياق الشعر الإماراتي والعربي. كتبت المقدمة له الشاعرة صالحة عبيد تحت عنوان «قصيدة التلَف اليوميّ»، وطرحت تساؤلاتها عن مكون القصيدة الحيوي الذي يجعلها عصيّة رغم تحولات المعنى الكبرى على مر الأزمنة.
ليس من السهل الكتابة عن تسع مجاميع مرة واحدة لأنها تحتوي على عوالم متشابكة ببعضها بعضاً تبدأ من العام 1998 بـ«مشهد في رئتي» وانتهاءً بمجموعة «وسط بعيد» 2016. وهذه فترة زمنية كبيرة تختزل فكرة القصيدة التي يكتبها أحمد العسم، وهي قصائد تسعى إلى سبر أغوار الذات عبر مناجاة وتأملات الكائنات الأقرب إلى روح الشاعر وهم: البحّارة والرواة والعشّاق، ويكشف الشاعر عن تعلقه بالليل، وما فيه من سحرٍ خفي. ويمضي الشاعر في مجاهل الشعر لكي يختصر ويوجز العبارة حتى تصبح القصيدة في أدنى كلماتها كما في قصيدة «إضاءة»:
كلما أشعلت مشهداً/ انطفأ آخر.
في أبيات أخرى، يتحوّل الشاعرُ إلى حكيم مفكر:
توحدت الانفعالات فاشتعل رأسي بالحرائق.
ولكن هموم الشاعر تضغط عليه ولا تعطيه فسحة «انفعالاتي ضجيج هائل»، وهو ينظر إلى الجسد والروح في شكل الظلام. ولا يتعب من خوض طريق لا ينتهي.
فالشاعر لا يتردد في طرح أسئلة النص بكل جرأة، مازجاً بين تجربته الشخصية وتجربة الواقع، طارحاً أسئلة اللغة وعلاقتها بالجسد، ويرى الجمال عبر الألم. وقد خاض الشاعر تجربة المكوث في المستشفى، وتعرف على جسده وآلامه، وقلبه، ورغم ذلك فالبهجة تستمر، ولا تعرف النهاية لأنه ببساطة مؤمن بألق الشعر مهما تضاعفت الهموم.
وعي
نلاحظ أن الشاعر يسعى إلى تقديم الحكايات عبر قصائده، وهي راسخة في الواقع الإماراتي وتشكل خزين الذاكرة الشعبية التي لا يتخلى عنها الشاعر. كما أن للشاعر وعياً كبيراً بالحياة كما يقول: «الحياة قراءة لا يستوعبها أبله». في عدد من القصائد، يسبر أغوار الحياة الواقعية أحياناً والمتخيلة أحياناً أخرى.
وعبر هذه المجاميع التسع، حاول الشاعر أن يحوّل كل ما هو معاش ويومي وعابر إلى نبض شعري يتمتع بجزالة هائلة. ولكنه يعمل على هذا اليومي جاعلاً منه تجربة وجودية لها علاقة بالوجود، حتى نتساءل من يكتب الآخر؟ ونتساءل معه: هل يكتب القصيدة أم تكتبه القصيدة؟
كما هو الحال في قصيدة «تمثال»:
وحده يقف/ كهاتف عمومي معطل/ التمثال.
إنه يتعلق بالحكاية ويعتبر الشعر كله عبارة عن سرد لهذه الحكاية:
بدأتُ بمزاحمة نفسي/ والغرق في جزيرة يرسمها الوهم/ وسراب يروي لي حكاية/ الحكاية/ تفقد نفسها، الآن....
على الرغم من كتابته لشعر التفعيلة والموزون، لجأ العسم إلى قصيدة النثر، غير عابئ بالتسميات، فالمهم أن يجد الشعر الذي يبحث عنه، وهو الشاعر الذي يسكن البحر، ويطل على منافذه اللانهائية في مدينته رأس الخيمة التي أرضعته وارضعها.
وهناك علاقة بين جسده والبحر كما في قصيدة «ظن»:
مثل كل ليلة/ يتدحرج جسدي ككتلة لهب/ الرابعة فجراً/ النعاس على المشبك يتدلى/ حافة أطرافي/ ترتجف/ قد أذهب بظني للبحر.
تأملات
ولا ينفك من الحب الذي يتكرر في قصائده:
كما أنت/ في طفولة دافئة، وحادة/ قد تأتين بالعطر.
قصيدة «حب» وقصائد أخرى تتخلل المجموعة الكاملة عبارة عن برقيات وتأملات يرسلها الشاعر عبر مرآته.
في مجموعته «يحدث هذا فقط»، يعود إلى عالم الطفولة والحلم والبوح. وكما في مجاميع أخرى، ينحو الشاعر نحو الاختزال وتكوين اللقطات البارقة، مستعيداً الذاكرة في توهجها ونبضها واتساعها، من خلال التركيز على البحث عن «جمالية العناصر» في الحياة، وما يتمخض منها من تجارب ذاتية وعامة.
وتستولي العزلة على الشاعر، لكن ما يبدد هذه العزلة هو الحلم كما في قصيدة «حنين الدفاتر»:
ماذا يفعل رجل/ يحتفي كل ليلة بوحدته/ صمتٌ أعمقُ من بئر/ عمن يبحث في دفاتر الأيام؟
وتتحول المدينة إلى نوع من الأسطورة والخيال والخرافة في ذهن الشاعر.
وهنا يستعين بالليل كما في قصيدته «لغة الليل»:
كلما دخل الليل/ ازداد بياض الأصدقاء/ وكلما اتسعت اللغة/ ابتل الساحل بالحروف.
وتصل لغة الاختزال إلى أقصاها في قصيدة «قراءة»:
يجلس وحده/ يستمع لهمس الأشجار.
آلام
في مجموعته «الفائض من الرف»، يتعامل مع الجسد وآلامه، معاناة المستشفى، ومشارط الأطباء، والحوارات مع المرضى كما يقول في قصيدة «جدار آخر»:
عندما أخذتني للطبيب/ ظننت بأني سأشفى/ لكنني عدت مليئاً بالوعود/ كأنني الغياب، مصاباً بربو/ يتلبسني قلق بأسنان/ ويمتلئ فمي بإشاعة.....
وفي «بلاد» يستعيد الأسئلة الوجودية التي لا يجد لها الحلول:
لا تموت هذه الشجرة/ ولكنها تمتد/ البلاد أيضاً لا تكبر/ ولا تقرر ولا تفعل شيئاً/ لكنها ترفع صوتَ/ الموسيقى/ البلاد نفسها حفرة/ عميقة للأسئلة.
ويتغنى في «رأس الخيمة» بالمدينة التي ولد فيها وترعرع:
أحببتك حتى صرت مثلاً/ لطالما فتحتُ نوافذي/ وانتظرت عالقاً بي/ ناسياً العشاء على الطاولة/ ...... والبحر مثل عنوان معلق/ سيدلهم «سهيل» على قبره.
ثم يعود فيخاطب الجسد كما في قصائد عديدة ومنها قصيدة «جسد»:
كن صبوراً أيها الجسد/ وادفع دمعتك عالياً/ وسبّح مثل طير في الصبح/ كن صبوراً واخفض صوتك/ ورقّة قلبك/ كي لا تسيل آلامك/ إلى الحجرات وتغرق...
وهنا يتذكر ممرضة اسمها «شيبة» التي تعالجه في ساعة متأخرة من الليل حيث البوح والحنين.
ولا ينسى الشاعر تذكر مآسي العالم العربي كما في قصيدة «مرورٌ خاطف»:
مرت خاطفة/ ناثرة الوقت البطيء/ مستعينة بصواب/ أي البلاء أنت؟/ العراق الجامع/ أم فلسطين العزيزة/ متثاقلاً نهضت/ أملأ كيس الأمل/ بدموع.../ وما وصلت/ حتى غرفت البلاد فيّ.
التقاطات
والشاعر شغوف في التقاط كل ما هو مهمل في الحياة كما في مجموعته «المُهمل في الحياة»، ويكاد يلتقط كل ما يحيط به من حياة، فهو منفتح على البيئة والطبيعة والإنسان في آن واحد.
في قصيدة «باب فاطمة» يتحدث عن فاطمة الجارة، وكلبها، وتفاصيل حياتها، كما يقول بشفافية:
فاطمة.../ تزرع شجراً كثيفاً/ كي يكون الظل واسعاً أيضاً/ للإفطار والرعاية.
ويستمر في القصيدة معبّراً عن الفرح الكامن في الأشياء:
الله وحده/ من يضع في القلب الفرح/ ويسكن من يشاء منازل يرضاها/ والله وحده/ منحها كل ذلك/ فاطمة.
وتنتهي القصيدة بقوله:
فاطمة تؤوي/ عربة/ وسائقاً/ وفراشاً/ وكلباً.
وينغمس الشاعر في حياة الصيادين كما في قصيدة «دكّة الصيّادين» وما يعيشونه من لذة في المراكب.
وكما أسلفت فهو يراقب حياة الآخرين، الكائنات التي تشاركه الحياة، بلهفة وشغف، كما في قصيدة «ورق الكنّاس الأخير» يقول فيها:
كم حجم الموت (مرات) إذا لم يجد الصبر في داخلك مشكلة، وأنت من وراء النوافذ تنظر إليه، وهو يكنس شجرة لوز طويلة، ويباعد عن رجليها الغبار.
وفي مجموعته «لم يقصص رؤياه»، يمزج بين الرؤى واليوميات والتفاصيل الصغيرة التي تصب في جوهر الشعر، والتي لا ينتبه إليها الآخرون في العادة. وهنا يؤكد مرة أخرى انحيازه لقصيدة النثر الأقرب إلى عالمه، من شعر التفعيلة والشعر الموزون.
ويسعى الشاعر إلى اللعب بالكلمات والابتكار، فيقول في قصيدته «أبتكر حظاً يجلس معي»:
أبتكر حظاً يجلس معي الليلة، أو في الصباح نذهب به نشاكس الطريق/ معاً، نفترق/ محمْلقين في العودة/ الحظ: فعلنا المبلل.
وفي قصيدة «محاولة لفتح شرفة الأب» يقول الشاعر:
كرسيك تحت مظلة القلب، تحرسه أيامي، وإبهام إصبعك، الذي مررته/ وأنت تحتضن ألفتي، أثث الأمان في منازل العين/ أيها الأب، كل الطيور على أغصانك ترف برضاك، إلا الطائر الغريب/ يطرق باباً لا يفتح له.
وفي قصيدة «الحيز الواسع للحب»، يقوم الشاعر بلعبة كتابة القصيدة وحذفها في صفحتين متقابلتين، صفحة مطبوعة وصفحة مقابلة مكتوبة باليد، وقد حذفها الشاعر. وفي مقطع يقول الشاعر:
الغزارة المتدفقة/ تملأ النص/ من دفء الكتابة/ هو إحساس غيمة/ ملأ ضرعها الحب.
استجواب
وفي قصيدة «فكرة النص والروح» يفكك الشاعر ماهية النص وجوهره من خلال استشراف الروح التي تتحكم بالإبداع.
أتعرفين مكاناً يستريح عليه النص؟ أفرش له سلطة مستريحة وأغويه/ بالامتزاج/ خروج الأحاديث منك حضور تحت قبضتي/ شهوتك، وعود مسائك ألين/ وأنتِ، فكرة الحرف الخاتل تحت طياتك.
ويستمر الشاعر في استجواب القصيدة لكي يكتشف اللغة كما في قصيدة «الوقت المجنون من الساعة»:
«كنت الاكتمال في اللحظة التي ترصد مجيء اللغة، ووشماً على زبد الحروف، وحين يرصد قلبك المرور، تصبح الحياة انعكاسات لمرايا ذات حدقة واسعة المزايا، كذلك حين يفاجئنا النعاس، وننام نهذي. يوماً ستظهر شرفات تطل على الاكتمال».
في مجمل قصائده، يجسد الشاعر أحمد العسم حالات شعرية غرائبية، نوعاً ما، ولكنها استثنائية، ومنقاة، ساعياً إلى كتابة نص يوثق من خلاله ما يميّز هذه الحياة من تعقيدات ومشاكل، يتابع فيها تفاصيل الحياة وتخزينها في شفافية ورقة بحيث يضفي على الحياة مسحة حُلمية كما لو أننا نعيش في متاهة. كتابة من نوع «السهل الممتنع»، مشحونةً بتأملات اللحظة الراهنة، وتضاريس المكان بكل صدق: الفريج، الدكان، الأزقة «السكيك»، سطوح البيوت، البحر، والسماء، كلها أماكن تهم الشاعر بل وتدخل في مسامات جلده. وهذا التفاعل وحده يخلق قراءة مغايرة للواقع، محملاً إياه شحنات شعرية متألقة كأنه يرسم لوحات لفنان بارع في مزج الألوان في اللغة. ويمكن أن نطلق عليه بحق شاعر التفاصيل الحياتية الغزيرة، وهي تصل بسهولة إلى جميع مستويات القراء. فالشعر لم يكن يوماً منفصلاً عن حياة الأجيال عبر روحانية الأشياء وعناصرها الحقيقية المرتبطة بذات الشاعر.
ومن خلال انتقاله من شعر التفعيلة والموزون، منحته قصيدة النثر أجنحة إضافية، يحلق بها بعيداً في الرؤى الإنسانية البعيدة، لأنها أكثر رحابة من قيود القصيدة الكلاسيكية التي قد تكبل الشاعر ضمن قوانينها الصارمة، وهي لا تتلاءم مع شاعر تواق إلى كل ما هو حياتي ونابض لأنه من هؤلاء الشعراء الذين ينصتون إلى الحياة برغبة عارمة، وتأمل كبير. فقد أثبت في الأعمال الكاملة، أنه شاعر مقتدر، ويمضي نحو ريادة الشعر الحديث إماراتياً وعربياً من خلال قصيدة، لا يتحكم بها الواقع بقدر ما تتحكم بها ذات الشاعر الذي يرى عناصر الحياة بطريقة مغايرة لما هو مألوف.
المحو في مقام الإثبات
كانت لافتة لعبة المحو التي لجأ إليها الشاعر أحمد العسم في مجموعته «لم يقصص رؤياه» 2015، وهو يكمل قصيدته «الحيز الواسع للحب»، التي جاءت في مقاطع مرقمة. كتب الشاعر المقطع الثاني، ثم شطب سطوره، دون أن يجور حبر الإعدام على الكلمات فظلت مقروءة، مبقياً على تاريخ كتابة السطور، ومكان كتابتها. وكذا فعل في المقطعين الرابع والسابع. وكأن لعبة المحو والإثبات هذه، كانت تمريناً كتابياً على قلق يعتمل في نفس الشاعر، خلال الكتابة أو قبلها أو بعدها. بدت المقاطع الثلاثة المشطوبة والمثبتة في آن، أصدق بيان عن لحظة فيض لا يدركها إلا صاحبها فحسب، ولكنها عند العسم فاضت على الورق.