إبراهيم الملا
تمتلك السينما قابلية كامنة فيها ومتداخلة مع قدرتها التأثيرية الخاصة، باعتبارها مادة بصرية تحوي بنية جمالية قائمة على المزج بين السرد والتشكيل، بين المكاشفة والإضمار، وبين التلميح والإخبار، وهي في ذلك تنحو تجاه الإخلاص للفنون التعبيرية بشكل عام، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة جزءا حيويا، ومفصلا ديناميكيا من مفاصل الحياة العامة في المنطقة، وخصوصا في المملكة العربية السعودية التي تحتفل بيومها الوطني التاسع والثمانين، وهو اليوم الذي يجسّد احتضان المملكة القوي للثقافة، ودعمها اللافت للفنون الأدائية والبصرية المختلفة.
كان من الطبيعي أن تجري مياه الفن في مجاريها، خصوصا مع ظهور مستجدات مبهجة يمكن تلمّسها ومعاينتها على أرض الواقع، واستشعارها في الفعاليات الترفيهية المقامة بشكل متواصل خلال الأعوام الثلاثة الفائتة، فالشريحة الواسعة من الشعب السعودي أكثر قبولاً وتسامحاً مع المضمون الإنساني الشامل الذي يختزنه الفن، وخصوصاً السينما التي لا يمكن لها أن تتنفس وتبوح وتبث رسائلها، دون وجود مناخ حرّ وتفاعلي يتجاوب معها ويهيئ لها البيئة المشجعة التي تستطيع فيها أن تترسخ وتتطور وتزدهر.
ويجب أن نذكر هنا أن للسينما السعودية جذوراً عميقة وممتدة في الوعي الجمعي لناسها وأهلها والمقيمين فيها، منذ بداية الخمسينيات، حيث تشير المدونات التاريخية إلى أن فترة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات الميلادية، شهدت زخماً سينمائياً في مناطق السعودية من خلال دور العرض التي انتشرت بين السكان المحليين، وكانت صالات المشاهدة والفرجة البصرية متاحة أمام المواطنين السعوديين، وموجودة في الأندية الرياضية المحلية على وجه التحديد، وفي بعض الساحات والبيوتات الشهيرة، خاصة في الرياض وجدة والطائف وأبها والدمام، وأحياناً في بعض السفارات الأجنبية، إلا أنه ـ وحسب وصف هذه الوثائق التاريخية ـ كانت هذه العروض عشوائية وتفتقد للتنظيم والتهيئة اللازمة للمشاهدة المتواصلة والتسويق المناسب والاختيار الجاد.
الموجة الثانية
أما الموجة الجديدة للسينما السعودية فقد استندت على هذه الجذور كحالة ثقافية متوقّدة ومنشغلة بسؤال المكان والهوية والذائقة غير المنقطعة عن النتاجات الأدبية المدهشة للشعراء والنقّاد والقصاصين والروائيين السعوديين، والذين بات لأغلبهم دور مهم في إعادة إحياء السينما محليّا، وضخها بالأفكار والاقتراحات والمساهمات الإبداعية التي جعلت من السينما السعودية ظاهرة مبشّرة على المستويين الخليجي والعربي، والأهم من ذلك قدرة الفيلم السعودي على المشاركة والمنافسة أيضا في المحافل والمهرجانات السينمائية الدولية العريقة مثل: «كان» و«فينيسيا» و«برلين» و«تورنتو» وغيرها من المناسبات والتظاهرات المحاطة بتغطية إعلامية واسعة على النطاق العالمي، سواء جاءت هذه المشاركات السعودية من خلال الأفلام القصيرة، أو التسجيلية، أو الروائية الطويلة.
ويمكن أن نشير أن بداية النهضة الثانية للسينما السعودية كانت في منتصف الألفية الجديدة عندما شارك صناّع الأفلام السعوديون الشباب في الدورات الأولى من مسابقة «أفلام من الإمارات» بالمجمع الثقافي بأبوظبي، والتي أدارها وأشرف عليها الشاعر والمخرج الإماراتي مسعود أمر الله الذي يعد الأب الروحي للسينما الإماراتية والخليجية، حيث كان له دور محوري في توجيه الشباب السينمائيين في الخليج نحو طرائق وأساليب منتمية لتقاليد السينما الحقيقية والوازنة والقياسية، ومن هنا جاءت المشاركات السعودية في مسابقة أفلام من الإمارات، وفي المهرجانات الكبرى التالية في الدولة مثل مهرجان دبي السينمائي الدولي، ومهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، ومهرجان الخليج في دبي، كمشاركات منشغلة بالتنافس وحصد الجوائز، وليست مجرد مشاركات هامشية لإثبات الحضور الشكلي فقط، واعتمدت الأفلام السعودية في تلك الفترة على خبرة تراكمية امتدت لأكثر من عشر سنوات في المهرجانات الإماراتية تحديدا، قبل ظهور مبادرات داخلية جعلت المنافسة بين الأفلام السعودية حصرا، إحدى الحلقات المهمة في خلق تيار ثقافي جديد منهمك ومأخوذ بهذه التجربة البصرية الحافلة بمناهج ومدارس وأنماط سينمائية متعددة وثرية.
مخرجات واعدات
وكما يشير الروائي السعودي المعروف عبده خال إلى أن السينما السعودية لا يمكن لها أن تنجح دون أن يتأسس وعي خاص تجاهها، والمتمثل في كونها «صناعة»، وليست عملاً يعتمد على الجهد الفردي فقط، كما هو الأمر مع فنون الرواية والقصة والتشكيل والشعر، وهذا الوعي الذي يدعو له عبده خال يمكن تلمس ملامحه الأولى الآن في المؤسسات الثقافية المعنية بترويج الثقافة السينمائية بالمملكة ودعم وتشجيع الأصوات والمواهب الواعدة في هذا الحقل التعبيري الصعب والممتع في آن، ونذكر على سبيل المثال «مهرجان الأفلام السعودية» الذي تنظمه سنويا جمعية الثقافة والفنون في الدمام بالشراكة مع «مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي»: (إثراء) وهو المهرجان الذي يضع من ضمن أهدافه العامة تطوير صناعة الأفلام السعودية، كما يسعى المهرجان ليكون محركاً لصناعة الأفلام ومعززاً للحراك الثقافي في المملكة، وتوفير الفرص للمواهب السعودية من الشباب والشابات المهتمين في صناعة الأفلام، والاحتفاء بأفضل النتاجات المقدمة في هذا السياق.
ويعمل مهرجان أفلام السعودية على خلق بيئة لتبادل الأفكار بين المبدعين في صناعة الأفلام، كما يقدّم خطة على مدار العام تعطي أصحاب المواهب في صناعة الأفلام العديد من الفرص للتعلم مباشرة من أجود الممارسين المحليين والعالميين في هذا المجال، كما يوفر لهم البنية التحتية لعرض أفلامهم والتواصل مع الجمهور، وهو مهرجان ثقافي غير ربحي ويقام بفرع الجمعية بمدينة الدمام، يحتفل سنوياً بأحدث الأفلام الإبداعية، ويضم برامج تدريبية وتنافسية إلى جانب العروض الجماهيرية، وإقامة الندوات التخصصية، وإصدار الكتب النوعية ذات التوجه المكثّف نحو تأصيل الثقافة السينمائية في المكان.
وبجانب الحضور البهيّ والمشاركة الواعدة للمخرجين السعوديين في المهرجانات المحلية والخارجية، فإن قدرة المخرجات السعوديات على التميز باتت هي العلامة الأبرز لهذا الحراك الفني المتصاعد، وجاء التميز النسوي مرافقا لتمكين المرأة في السعودية، كونها عنصراً أساسيا وفاعلاً في المجتمع، ولقدرتها على بث الوعي المعني بالتصالح مع الذات واكتشاف الآخر وتخطّي الحواجز الاجتماعية التي تحول دون تأدية المرأة لدورها الحقيقي في ازدهار المنظومة الحياتية، وتحقيق الرؤية الوطنية الشاملة، المتوافرة على مبادئ المساواة والتعاضد والتعاون بين الشرائح والفئات المجتمعية كافة.
ونذكر من المواهب النسائية السعودية في مجال الإخراج السينمائي كلا من: هيفاء المنصور، وشهد أمين، وهند الفهّاد، وريم البيات، وعهد كامل، وسميرة عزيز، إضافة لعدد من الممثلات السعوديات اللائي تميزن في تقديم أدوار صعبة ومركبة في معظم هذه الأفلام المعنية بالتعاطي مع القضايا والإشكاليات الاجتماعية بشكل عام، ومع قضايا المرأة بشكل خاص، ونذكر من هؤلاء الممثلات: سناء بكر يونس، وميلا الزهراني، وريم عبدالله، وريماس منصور، وأسماء الحسن.
وفي الدورة الأخيرة لمهرجان فينيسيا السينمائي بإيطاليا، كان حضور السينما السعودية من خلال المخرجتين هيفاء المنصور، وشهد أمين هو الحضور الخليجي والعربي الأكثر سطوعاً، رغم تمايز المواضيع والأساليب الفنية التي اتبعتها كل من المخرجتين، حيث شاركت هيفاء المنصور بفيلمها: «المرشّحة المثالية» في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا في دورته السادسة والسبعين وهي المرة الأولى التي تشارك فيها السعودية بالمسابقة الرسمية لهذا الحدث السينمائي العريق، ما يعد إنجازا تاريخيا مهما، بسبب القدرة على التواجد في قلب المهرجان ومزاحمة مخرجيين عالميين كبار داخل حلقة واحدة تستقطب جلّ الأضواء الإعلامية، وجلّ الحضور النقدي والجماهيري، فمع وجود مخرجين رواد واستثنائيين أمثال الأميركي ستيفن سودربيرغ، والكندي أتوم إيغويان، والسويدي روي أندرسون، والياباني هيروكازي إيدا، فإن بصمة الفيلم السعودي ستظل محفورة في سجلات وذاكرة أحد أكبر وأشهر المهرجانات السينمائية في العالم.
ثراء بصري
تدور أحداث فيلم «المرشّحة المثالية» لهيفاء المنصور حول طبيبة سعودية شابة تقرر الترشح لمنصب في الانتخابات البلدية، ويعمل والدها ضمن الفرقة الموسيقية الوطنية في المملكة، ويتناول الفيلم التطورات الاجتماعية التي تشهدها المملكة السعودية، والتحديات التي تواجهها النساء، والطموحات الحديثة فيما يخص الفنون وتحولاتها، والثقافة وتجاذباتها، ويتطرق الفيلم للطموحات السياسية لدى المرأة السعودية، ورغبتها القوية في المشاركة الاجتماعية، ويذكر أن «المرشحة المثالية» هو أول فيلم يحصل على دعم من المجلس السعودي للأفلام، وشارك في بطولة الفيلم: ميلا الزهراني ونورا العواض وضاحي الهلالي، وتولى كتابة نص الفيلم السيناريست «براد نيمن» مع هيفاء المنصور، وتم تصويره بالكامل داخل السعودية.
أما فيلم «سيدة البحر» للمخرجة السعودية شهد أمين، فقد حقق إنجازاً آخر مهماً في مهرجان فينيسيا، حيث اقتنص جائزة «فيرونا» عن فئة الفيلم الأكثر إبداعاً، وتدور أحداث الفيلم حول الشخصية الرئيسية «حياة»، التي تستحضر المخرجة من خلالها إشكاليات المرأة في العصور القديمة بشكل رمزي وأسطوري، وتمتّع الفيلم بأسلوب سردي جاذب، وبإمكانات تقنية ناجحة استطاعت من خلالها المخرجة التنقل بين العالم الواقعي والآخر الافتراضي بسلاسة ورشاقة بصرية، مع الاحتفاظ بالرسائل التي قدمها الفيلم كصيغة احتجاجية ضد النظرة غير الملائمة للمرأة، وكصيغة حالمة أيضا بضرورة التغيير الإيجابي وخلق رصيد كاف من الأمل للأجيال القادمة.
ويكشف الفيلمان اللذان قدمتهما هيفاء المنصور وشهد أمين عن طموح كبير يحيط بواقع السينما السعودية ذاتها، وهو الطموح المتمثّل في صنع حراك متواصل ودفع عجلة الإنتاج والعمل الجماعي، مع انفتاحها على الذات من خلال استثمار المواقع الطبيعية المتنوعة والساحرة في المملكة، والاستعانة بالميراث القصصي والروائي المدهش في المدونة السردية المحلية سواء المطبوع منه أو الشفهي، إضافة إلى اكتشاف المناخات والمواضيع السينمائية العالمية وملاحقة تطوراتها التقنية وأساليبها الإخراجية، حتى تصبح السينما السعودية مثالاً باهراً للتصالح بين الأصالة والمعاصرة، والاحتفاظ بالهوية والخصوصية، مع البحث في ذات الوقت عن أفق إنساني مشترك، بمعيّة عناصر الجودة والثراء البصري فيما يتعلق بالحكاية أو القضية المطروحة، وكذلك ما يتعلق بتكوين الصورة السينمائية، وتحقيق شروطها المثالية.