15 يونيو 2011 19:47
عرفت الحضارة العربية في القرون الأولى ثنائية النقل والعقل، وكانت ثنائية محكومة بالتضارب والتناقض، النقل يعني الاعتماد على النص الديني في المقام الأول، أما العقل فهو يعني الاحتكام إلى التفكير العقلاني، بما يعني تأويل النصوص لاستخراج معانٍ جديدة لها، وقد ظهرت هذه المشكلة مع اتجاه العرب الأوائل إلى الترجمة وتعرفهم على التراث الإغريقي القديم، وظهرت اتجاهات تعلي من مكانة العقل مثل المعتزلة والفيلسوف ابن رشد، لكن لم يقدر لهما النجاح بالصورة المتوقعة.
والجديد الذي يقوله د. أحمد محمد سالم في كتابه “العقل والدين.. من الخطاب الإصلاحي إلى الخطاب العلماني” الذي بين أيدينا، أن مشكلة العقل والنقل لا تزال تعيش بيننا في العصر الحديث، بمسميات أخرى.
النقليون أو المتمسكون بمرجعية النص، تمثلهم في العصر الحديث المدرسة الإصلاحية، وعلى رأسها علماء دين وفقهاء مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده ورشيد رضا ومحمد إقبال وأمين الخولي وغيرهم، هؤلاء جميعا - كما يرى المؤلف - عملوا على تنقية النصوص الإسلامية مما علق بها من بعض التفسيرات والتأويلات، ومحاولة الوصول إلى الفهم الأول لها.
هذه المدرسة الإصلاحية تمثل النقل أو الدين، في مقابل مدرسة أخرى يقف على رأسها أحمد لطفي السيد وشبلي شميل وغيرهما، وهي توازي مدرسة العقل في القرون القديمة، ويسميها المؤلف المدرسة العلمانية وأحيانا الليبرالية أو العقلانية، وقد ظهر هذا الانقسام الثقافي والفكري مع انفتاح بلادنا على الحضارة الغربية اثر حملة نابليون على مصر والشام بين عامي 1798 - 1801، فقد اكتشف الجميع أننا نفتقد أساليب وأسباب النهوض التي يتمتع بها الأوروبيون والتي مكنتهم من التفوق علينا وغزونا في بلادنا ومحاولة فرض أساليبهم علينا.
وانتهى فريق “الليبراليين - العلمانيين” إلى أن أوروبا بنت نهضتها على العقل والعلم والمنفعة، وانها قامت بقطيعة كاملة مع تراثها الوسيط واستبعدت تماماً النصوص الدينية من الحياة العامة والسياسة والسلطة، فضلاً عن مناهج التعليم والتفكير والثقافة العامة، والاهم حياة الناس وسلوكهم اليومي.
وعبر فصول الكتاب نلتقي مع قراءات يقوم بها المؤلف لافكار وكتابات رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وفريد وجدي ثم أمين الخولي، فضلاً عن لطفي السيد وطه حسين وشبلي شميل وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وكذلك د. فؤاد زكريا.
وتصعب الموازاة بين لحظة العقل والنقل في الثقافة العربية والإسلامية بدءاً من القرن الثالث الهجري واللحظة الحديثة التي نعيشها منذ غزو نابليون لمصر والشام، في اللحظة الأولى، أي القرن الثالث الهجري وما تلاه، كانت الحضارة والدولة العربية في مركز القوة، هي المنتصرة، وكانت اليونان القديمة أقرب إلى ثقافة وحضارة منها إلى قوة عسكرية ولا تحمل تهديداً مباشراً لنا، كان العرب والمسلمون هم الأقوياء والمنتصرون، وكان أمامهم فرص الاختيار والمفاضلة، ولعل هذا ما رجح انتصار مدرسة النقل على مدرسة العقل.
أما اللحظة الحديثة والتي تبدأ من عام 1798، فلم نكن في موقف القوة، ولم نكن منتصرين، لقد عشنا الهزيمة ورأيناها، لنتذكر أن ضغوط الإنجليز كانت السبب الرئيسي الذي دفع الحملة الفرنسية إلى الخروج من المنطقة، وكنا نتجرع الهزيمة من محاولات الغزو التي يقوم بها الأوروبيون، في عام 1807 حاول الإنجليز غزو مصر واحتلالها وهزمتهم المقاومة الشعبية في رشيد ولم ييأس الإنجليز وظلوا يحاولون حتى أمكن لهم احتلال مصر في عام 1882، والفرنسيون عادوا إلى المنطقة ولكن إلى الجزائر وانتهى الأمر بأن احتلوها في 1830، أي بعد أكثر قليلا من ربع قرن على حملتهم الأولى على مصر، وكان المفكرون والكتاب العرب يكتبون في ذلك الإطار وهذا المناخ العام، لذا يصعب أن نضع حداً فاصلاً وقاطعاً بينهم بشأن تسمية العقل والنقل.
بين الأصول والنهضة
هذه اللحظة التي شعر فيها المفكر العربي بضعف موقفنا، كان تفكيره موزعا بين تمسكه بأصوله الفكرية والنهضة الأوروبية التي تأتي لغزونا، ولنتأمل حالة رفاعة الطهطاوي هو بالتأكيد الشيخ رفاعة ابن الأزهر الشريف، إمام البعثة المصرية في باريس، وله العديد من الدراسات الفقهية، مثل “القول السديد في الاجتهاد والتجديد”، وهو صاحب أول كتابة معاصرة للسيرة النبوية، لكنه هو أيضاً من اكثر دعاة الحرية، خاصة الحرية السياسية والفكرية، لذا يعده الليبراليون العرب رائدهم الأول، الأمر نفسه يمكن أن نراه بشأن الشيخ محمد عبده، فمن تلاميذه الشيخ مصطفي عبدالرازق شيخ الأزهر فيما بعد وكذلك الشيخ المراغي، ومن بين تلاميذه كذلك لطفي السيد وقاسم امين وكل منهما يعد رائدا من رواد العلمانية، بل لتتوقف عند اسم الشيخ امين الخولي، فقد كان إماما بالسفارة المصرية في ايطاليا، وكان ازهريا، لكنه هو نفسه الذي اتهم من جانب التيارات السلفية بأنه يبث افكاراً علمانية بين طلابه في جامعة القاهرة، فقد كان استاذاً ومشرفاً على رسالة د. محمد خلف الله حول القصة في القرآن الكريم.
أقصد أن هؤلاء الكُتاب والمفكرين جميعا كانوا يعيشون التمزق بين أصالتهم والضعف الذي نعيشه، فضلا عن الاحتلال الأجنبي لبلادنا، وكانت اختياراتهم مرتبطة بهذه الأزمة، ولم يكن أمام أي مفكر منهم نفس الفسخة التي كان يعيشها أنصار الأشاعرة او المعتزلة، وكان موقف ابن رشد مختلفاً عن موقف الطهطاوي وبقية المفكرين العرب المعاصرين.
وربما كان د. فؤاد زكريا هو اكثر المفكرين العرب إدراكا لهذه الازمة، حين حلل موقف اصحاب الاصالة ودعاة المعاصرة، اذ رأى ان التشابه بينهما ليس بعيدا، إذ إن فريقاً منهم يقلد السلف والفريق الآخر يقلد الغرب في ارتداء احدث موضات الملابس، كل منهما اتباعي وليس ابداعياً، بينما نحتاج إلى افكار ابداعية ومبدعين.
الكتاب الجديد يطوف فيه المؤلف بنا عدة قرون ونماذج فكرية عديدة، من القديم إلى الحديث، من ابن خلدون الى زكي نجيب محمود ومن ابن رشد إلى فؤاد زكريا.