في منتهى الوعي، وغيابةْ الصحوِ النّدي، في رفّة القلب عندَ رنًة الحرف الظليل، هناك عند المتكأ الأرحب من الليل البهي، حيث القمر يلاعب السماء دلالاً وانثيالاً ضوئياً طفيفاً، عندها حيثما/ وحينما بغتةً تسلل نحو «خْشيف الريم» بهدأة وأناة، سار َنحوه/ نحوها، صاغها قصيدة قبل أن يكتمل، وقبل أن ينبت عود الطفلة الصغيرة، باغتها كحلمٍ سخيٍ فاستقر في جوفها ليضيء الداخل بوهج آسر لم تألفه، ولا تعرفه، ولم تسمع عنه، وكأنه يسرٌ إليها «لك محلٍ فيه ما حلَي/ غير حضرة شخصك بذاته» لذا جئتك سارياً على صوت قصيدة، وسرج سماءٍ فارهةِ الغمام، زرقاء ساحرة، أخاذة، عندها ضحِك القمر، واستبشر الشعر بولادة نجمة جديدة، فريدة في الحضور، آسرةٌ في الطلعة، حاضرةٌ في النبض، من المحيط إلى الخليج.
هناك عند الظلة الظليلة في «المويجعي»، حينما سردت الصغيرة علمَ الحلم، وطار لينبش معناه والدٌ يحبّها، هناك وُلدت شاعرة ذاع صيتها، شاعرة رافقها القمر كصوتها، كظلها النحيل الفاخر، كشدو صوتها الذاهب إلى أعماقنا حباً خالصاً، لصوت نجهل صاحبته شكلاً، لكننا نعرفها عاطفة جيّاشة، ونبضاً يستحيلُ على التكرار، وحرفاً خاصاً بها وحدها تتفرد به كأن اللغة/ لغتها وُجدت لها وحدها دون سواها.
هناك عند المدينة التي أحبت «العين» بين حاراتها، ومزارعها، وصحرائها، ومنازلها، وكثبانها الرملية، و«رياض روض السلاطين» نبتت القصيدة، وسارت سير الماء في جوف الزمن، وإذا بها يتردد صداها يملأ الآفاق:
يا شوق هزّنيهْ هوى الشّوق/ هزيز غصنٍ تاح الأوراق
كل غْرضٍ م الوقت ملحوق/ إلاّ وصول الصّاحب شْفاق
وإذا بالشوق يأخذ أشكالاً كثيرة متعددة جاءت في ثوب كلمة، ورداء حكمة، وفلسفة إنصات، ومدحٍ أخّاذ، ورثاءٍ حارق، ونشيدٍ دينيٍ فارِه، شعر لجماله تكاد تندس بين تشكيلاته اللغوية، حاضراً كلّك كما لم تفعل من قبل، إنها هي الطفلة رفيقة القمر ذاك الوفي الذي يلازمها، وفي روحها يسكن، وإلينا يبعث أحلى الكلام، ويشاغبنا كثيراً حين يستفز مشاعرنا «حباً، ولعاً، فخراً، حزناً، فرحاً»، كثيرة هي الأشياء التي يستفزها، فينا، كثيرة هي «عوشة بنت خليفة السويدي» في أرواحنا.
«عوشة الشاعر»، «فتاة الخليج»، «فتاة العرب»، «فتاة تشكُلّنا الإنساني، نمّونا، وعينا، أحلامنا، مغامراتنا، عاطفتنا، قصيدتنا المشتركة، تلك القامة التي باغتها القمر فاندس في أعماقها، ثم يوم مواراتها الثرى، وليلة خسوفه أخذها معه، ما فعل بنا هذا القمر الطاغي حضوراً، الموجع رحيلاً.
كثيراً أذكره ذاك الصباح الذي ذهب بي نحوَ موجات من السحر، في نهايات الثمانينيّات حين جلست إلى جانبها عند طرف الكرسي الحاد قليلاً رهبةً وحباً واحتراماً، لم أستطع التجاوز فاقتربُ منها أكثر، كنتُ في حاجة إليها، أريدُ قراءة النصوص التقديمية لها، أعرف أنها تحبُ شعرها جداً، وفيةً له ومخلصة، أليست هي التي قالت لي يومها «أخشى على قصيدتي من كسرٍ أو خطأ كتابي إنْ دفعتُ بديواني للمطبعة» يا الله، كيف هوَ الإخلاص للقصيدة في كامل وعيه وإصراره وترصده، يومها كانت تحملُ حقيبة فاخرة سوداء اللون من تلك التي يحملها رجال الأعمال أو المغرمين بالورق وحفظه، في تلك الحقيبة كان يسكنُ قمر القصيد، كانت النصوص هناك منثورة بسلام، يدفيْ بعضها الآخر، أليست القصيدة هي الدفْ، هناك كان قلبي حين حملتُ الحقيبة من المسرح إلى مكتبة كليات الطالبات، حيث احتفى الجميع بها بعد انتهاء أصبوحتها الشعرية الوحيدة التي أحيتها على مسرح كليات طالبات جامعة الإمارات بمنطقة المقام، المسرح ذو المقاعد الحمراء، والأضواء الخافتة، المسرح الذي كان حلمنا يوم أن كنّا طالبات على خشبته تلتقي طموحاتنا، وأفكارنا المجنونة.
هناك جلست «قمر الشعر»، كنت أرقب حركة يديها، نظراتها، صوتها الرخيم وهي تنضّد القصيد فتغرد:
ريمٍ ربا في عالي إسطوح المسك لَسْوَد له منافيح
ما لِبْسْ تنَوره ولا شْلوح لِبْسْ المزرّيْ والمفاحيح
وينْ الزّباد الشامي إيفوح مع دهن عود وخامر الرّيح
لي تاح قلبي في الهوى توح شبه القمر بين المصابيح
ومن التَخلَق دوم مشْروح فيه الأناسهْ والتَفاريح
بازَاوره لو دونه نْزوح سَرْيَه وْ مسراح وْ مَراويح
وعندَ «ما لِبْسْ تنوره ولا شْلوح/ لِبْسْ المزرّي والمفاحيح»
أسمع تصفيقاً، تصفيقاً، تصفيقاً، وأرى دهشةً وفرحاً
ويُسدلَ الستار
فلا «زْياره، ولا سَرْيَه، ولا مسراحْ، ولا مراويح»
قد ذهبَ الأحبةُ كلّهُمُ.