الجمعة 22 نوفمبر 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين عوشة السويدي والماجدي بن ظاهر

بين عوشة السويدي والماجدي بن ظاهر
2 أغسطس 2018 02:23

تكاد المسافة الفاصلة بين عوشة بنت خليفة السويدي وبين الماجدي بن ظاهر، هي المسافة الجامعة ذاتها بينهما، وكأن المشيئة اختارت أن تضعهما في قلب اللعبة المرآوية المدوّخة، في تأرجحها بين التجريد والتشخيص، وبين التخييل والتجسيد، وبين الاستحضار والتخلّي، حيث يصير القطع وصلاً أيضاً، والهجر اقتراناً، والبليّات رفقاً وحناناً على الشعر والشعراء.

 

لعبة سوف تجمع الواضح بالملتبس، والمتيقّن بالشكاّك، والكتوم بالفضّاح، كيف لا ونحن أمام مسوّغ ذهني يمنح فسحة افتراضية لتآلف الأضداد، وعناق الخصوم، والتحام الشرارات والبروق، في أبهى صور هذا التآلف وأكثرها تجليّاً، لعبة سوف تتحول إلى أحجية عندما تصبح «جنية» بن ظاهر التي منحته بركة الشعر، هي ذاتها «قمر» عوشة الذي زارها في الرؤيا وصار مزيجاً من كلام وضوء، وهي أيضا «سلمى» ابنة الماجدي ابن ظاهر، ورمز القصيدة الْمَوْءُودَةُ في ذاكرتنا الشعبية، سلمى التي خرجت من مرقدها ومن تابوت الرمل، كي تعبّر بلسان «عوشة» هذه المرّة عن قصائدها الأثيرة والمؤجلة، قصائد سكتت عن البوح بها دهراً، لتحوّلها عوشة إلى عاصفة لهب، وأوقيانوس وهج، وأرخبيلات نور، وهنا يؤول جبروت الزمن إلى قبضة رماد، ويصير مشاع البعد استئناساً بما هو محميّ من التلف والانطفاء والنكران.

 

خيال متطرف
تقول الحكاية المستندة ربما لخيال متطرف وشرس، إن الماجدي بن ظاهر قام بقطع لسان ابنته سلمى كي لا تقول شعراً أجمل من شعره، أو أنه اضطر إلى قتلها كما في رواية أخرى، قد تحتشد هذه الحكاية بما يكفي من طغيان ذكوري وإقصاء متعمد للمرأة عند اقترابها من فن مقصور على الرجال وحدهم في بيئة تحتكرها الفحولة قولاً وعملاً، كما في البيئة التي عاشها بن ظاهر، حسب ما هو وارد في الحكاية، وقد يكون الأمر ـ كما وصفه الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني ـ مجرد «رمسة» في مجلس مغلق تناول الواقعة الحقيقية وبتفاصيلها الدقيقة في حكاية ابنة الماجدي بن ظاهر، وعندما خرجت الحكاية من المجلس، انتهكت خصوصيتها، وفسّرها الرواة حسب أهوائهم، وذاعت تأويلاتهم الملتبسة في الآفاق، ذلك أن «الرمسة» هي الكلام الجامع بين قلة من الأشخاص، وهو كلام قد ينطوي على خفايا وأسرار ومنادمة، وقد يكون مشتقاً من الرمس، وهو القبر، حيث يخفى الجثمان، ويدفن كي لا يتفسّخ في العراء، والرمسة عكس الكلام العلني الموجه للحشود، ذلك أن الرمسة تنطوي في الغالب على قول يتداول في الحلقات والمجالس، ولا يصح للعوام الاطلاع عليه أو نقل ما فيه من معارف وأخبار قد تفهم على غير مقصدها وقد تُؤوّل بظاهرها دون باطنها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن قطع لسان سلمى، يعني حبس كلامها ومنعها من قول الشعر ولا يعني البتر مطلقاً، وقاطع الطريق هو الذي يهاجم المارة ويمنع الناس من إكمال سبيلهم، كما أن حادثة قتل ابن ظاهر لابنته فيه من التشنيع والتجريم ما يعارض تصديق الرواية أو الجزم بها أصلاً، خصوصاً أن ابن ظاهر اشتهر بالورع والزهد وإيراده لصور تعذيب القتلة والمجرمين في الآخرة، وشعره زاخر بهذه الصور الرادعة والمهيبة.
وعلى أية حال، فإن الرمزية العالية المبثوثة في هذه الحكاية، وتأطيرها في قالب أسطوري وخرافي، لا يمنعنا من اعتبار عوشة بنت خليفة السويدي هي بنت ابن ظاهر الافتراضية التي خرجت من عباءة الإقصاء، وعوضت سلمى عيوب ومثالب وانتقاصات كل هذا الهدر الأنثوي، والإجحاف المعنوي، والتنكيل الجنساني الذي طالما وضع المرأة في الهامش الضيّق جداً للمجتمعات المغلقة، والأسيرة لمفاهيمها السلبية.

 

تخمينات وترجيحات
وهكذا أيضاً استدعت ذاكرة عوشة السويدي ما خطّه الماجدي بن ظاهر من بوح عميق وقول غزير وانتباهات متدفقة في زمن بدا مجهولاً لكل من تتبع سيرة بن ظاهر، وسط أحداث لم ينجح المؤرخون في تفكيك طلاسمها، ولم يعثر الباحثون على مفتاح لأبوابها المغلقة، فما بقي فقط هو أقوال وتخمينات وإشارات ترجّح وتقدّر وتحوم حول الفترة التي عاشها «الفهيم» بن ظاهر، أما عوشة السويدي، فقد تكون الوحيدة التي «فهمت» المعنى القابع خلف كل هذه الأسوار الترجيحية العالية، وخلف كل هذه الأسرار المتراكمة، فذهبت إلى شعر الماجدي بن ظاهر مباشرة، ومسّها لأول وهلة عارض القلق، وهو عارض مطلوب إذا تعلّق الأمر بتوليف الكلمات المغايرة، وسبك التصاوير المتفرّدة، وامتحان الموهبة، والركون إلى ما هو عصيّ على الترويض، وهذا القلق لن يكون ذهنياً فقط بل مادياً وملموساً وشبيهاً بما خبره بن ظاهر من مكابدة جسدية في أسفاره وفي حلّه وترحاله، مكابدة وعُنْت ومشقة دوّنها ابن ظاهر بحيثياتها وتفاصيلها في شعره، ووثّقها في قصائده، قبل أن يشرع المؤرخون في الكتابة عنه، وتتبع أحواله وحكاياته، والدخول في ضروب من التأويلات غير الجازمة حول الفترة التي عاشها والأحداث التي صاغت شخصيته، وصنعت شهرته.
تذكر الدكتورة رفيعة غباش في كتابها: «عوشة بنت خليفة السويدي ـ الأعمال الكاملة والسيرة الذاتية»، أن أكثر ما توقف أحفاد عوشة عنده في الحديث عنها هو الحالة النفسية التي وصلت إليها بعد اعتزالها الشعر، فقد عاشت درجة عالية من القلق والتوتر والحركة المفرطة، وكأنها تهرب من قصيدة ملحّة، ولم يكن لمزاجها أن يسكن إلّا بعد أن تلجأ لقراءة القرآن.
ويسرد الكتاب أيضاً رواية لفاطمة بنت أحمد العتيبة تقول فيها إن حالة القلق التي اتسمت بها شخصية الشاعرة عوشة تعود لقريحة الشعر وهيمنته على تفكيرها، وعلى حالتها الذهنية والنفسية، مضيفة: «يبدو أن الشاعر الملهم بأفكاره وكلماته ومعانيه وصوره البلاغية قد يجد من الصعوبة البقاء في مكان واحد، إذ تبقى سكناته، صمته، حديثه، وكل تحركاته متصلة وتابعة لتدفق المعاني والكلمات والأبيات بداخله، تضغط عليه فيقصد المكان الذي يحرّك فيه كل تلك الأحاسيس، ثم يترك المكان بمن فيه ليخلد إلى نفسه، أو لينتقل إلى غيره، وهكذا يظل الشاعر الملهم في حركة دائمة، ولا يعرف الهدوء».

 

غريزة التنقل
سوف تحيلنا علامات قلق عوشة هذه إلى «غريزة التنقل» التي خبرها ابن ظاهر بحساسية مفرطة على طول الخارطة الجغرافية لرحلاته المترامية بين البرّ والبحر والجبال والصحارى والوديان، ابتداء من منطقة دهان في رأس الخيمة ثم العين والذيد والجميرا والسعودية وعبري وعُمان، وصولاً مرة أخرى لمناطق رأس الخيمة العزيزة على نفسه مثل الظيت وزعاب والخرّان.. رحلات وأسفار سوف تتقاطع تالياً مع قلق المكان الذي خبرته عوشة من أبوظبي إلى العين ودبي وما لقيته في أسفارها البحرية من نصب وإعياء وجرح نازف في الروح، جرح سوف يلتئم لاحقاً ليكون بمثابة طاقة تزوّدها بالحكمة الناجزة والبصيرة الموجهة، ومعاينة التباين المذهل في طباع البشر وفي صنوف الأمزجة وتقلّب الأحوال.
لذا يمكننا وصف ابن ظاهر بأنه رجل جاس في الديار حتى ملّت منه الطرق، وتعبت تحت قدميه الدروب، أما عوشة فقد ساقتها الأقدار إلى متاهة ضارية، فاستدلت بالشعر ودلّت به وكانت هي بكامل عنفوانها الأنثوي بوصلة الحيارى والعاشقين الذين رهنوا قلوبهم لظل نخلة سامقة في وادٍ غير ذي زرع.
تقول عوشة في إحدى قصائدها التي نظمتها في جزيرة «دلما» بعد أن تعطلت السفينة وبقت في الجزيرة مدة ثمانية عشر يوماً:
«تكفى وزا ما صابنا والقلوب اشتات
ضحى ما يودع ذايب القلب مضنونه
وجوه يظهر عليها الحزن والحسرات
نهار الحبيب يودّع اللي يحبونه
علينا اظلمت لوطان واغبّرت الفيّات
وسالت ادموع اللي زها الكحل بعيونه
يخفي بكاه لا يفرح الشمّات
ولها عبرة في باطن اليوف مكنونه»
باحت عوشة بهذه القصيدة وهي في العشرينيات من عمرها، لتدشّن مسيرة قلق رافقها طوال حياتها، وهي هنا تصف انكشافها مبكراً على حالة اغتراب لم تختره، لكنه عزّز لديها حسّ الاستقلالية واعتبار الحياة مغامرة تستحق الخوض في أهوالها، واستكناه غوامضها، وتجاوز عثراتها بالصبر والحنكة والمداراة، والاستعانة بالقصيدة أيضاً لتعويض الخسارات الذاتية عند المواجهات المحتدمة مع العزلة والخيبات وغدر الأحباب وانكفاء الأمل.
وفي المقابل، نستمع لابن ظاهر وهو يصيغ هذه القصيدة المطرزة باليأس والتي يصف بها حال الدنيا قائلاً:
«ترويك منها صحبة مجفيّة
ولا بد من يوم تميل إيلالها
ما في صداقتها من صلاح ولا بها
خير تبدل لامها بزوالها
مكّارة غدّارة بصداقها
ناس دعوها ذخر أو عزّالها
لا تستغربها تراها مثل ما
غيم الضباب ولا يدوم اظلالها»
تتقاطع المعاني الموحشة هنا بين ذاتين فرقت بينهما السنون، ولكنهما اجتمعتا على حزن شفيف، وعلى حكمة تندلع من نفس توّاقة للبوح وتبيان مكنونها من الرؤية الخاصة للوجود، رؤية لا تعكرها شوائب الانفعال اللحظي، بل تجلّيها الفكرة القائمة على تأمل الظواهر الخارجية ونقدها، واستثمار الألم كحالة استنارة داخلية تعيد شحن الذات بما يعينها على تخطي المواجع والانكسارات.

 

أصالة تعبيرية
الملمح الآخر الذي يمكن رصده حول الوشائج والتعالقات الوصفية والتعبيرية المشتركة بين قصائد عوشة السويدي والماجدي بن ظاهر هو هذا الميل الواضح نحو الجزالة اللفظية والبلاغة الأسلوبية المستندة إلى جذر لغوي فصيح استقى تراكيبه من القرآن الكريم، ومن ميراث الشعر العربي المتنوع الأغراض والأجناس والبحور، وقبل ذلك فقد غرفت قصائد عوشة وابن ظاهر من معين لغوي عميق ومتجذر وصفه الشاعر محمد شريف الشيباني في مقدمة كتابه: «ديوان الجواهر في شعر ابن ظاهر» بلغة البادية المحافظة على نقائها وصفائها، لأنها أقرب إلى الفصيح من سائر اللهجات لقلّة مخالطتهم للأعاجم، ولكنها لما تعطلت ألسنتهم من الإعراب، تصرفت في الكلام على غير نظام، فاختلفت لهجاتهم، وصارت تختلف في بلدين متجاورين داخل القطر الواحد.
ومن أمثلة هذا التشابه والتشابك بين الفصيح والنبطي قول عوشة السويدي في إحدى قصائدها:
«واغتنم من وجدي الونّة
يوم كل بالكرى غافي»
وقولها في قصيدة أخرى:
«لو يراه العابد إهتالي
انحرف والصف ما يمه
ريم ما يرميه ختّالي
ذاير القنّيص من شمّه»
وفي قصائد ابن ظاهر الكثير من المفردات الفصيحة التي لا يمكن فصلها عن أصالة لغوية حاضرة ومتفاعلة في ذهن الشاعر، ومنها هذه المقطع الشعري:
«ولكنّي إذا منّي بليت
فلا البلوى يجوز إلها التواني»
وقوله:
«وشطت بي صروف النايبات
عن الأولاف وابتعد المدى بي.
بليت إبهمّة ما أستطعها
عشية ينتهي عني شبابي»

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©