يا إلهي! كم لهذا الاسم من أبعاد تتوغل في القلوب وفي الزمان وفي المكان. رحمك الله أيتها الشاعرة المبهرة يا من شغلت الأسماع وأطربت القلوب قرناً من الزمان، تقلبت فيه الأجيال، وتلونت فيه الأحوال وتغيّرت فيه الأذهان، وأنت تسكبين من فيض روحك معسول القول فيصغي إليه الذاهبون والقادمون، فيطرّز الأرض والآفاق بالجمال والحكمة والكلمة الرائعة، الرائقة لكل الباحثين عن الصفاء والنقاء، والسائرين في دروب الشعر ينشدون الارتقاء والألق.
أذكر قبل خمسين عاماً عندما كانت ساحة الشعر مأهولة بالشعراء من جيل الآباء، حينها كانت حروف اسمك تتراقص على ألسنتهم عجباً وإعجاباً وهم يروون ما تناهى إلى أسماعهم أو مداركهم من بديع قلائد أشعارك، ومبهر نباهتك وسرعة بديهتك، وما تناثر من شذرات موهبتك المبكرة وأنت تصعدين مراقي المجد الأدبي ويتراءى نجمك للناظرين إلى القمم.
وفي الخمسين سنة الأخرى ظلّت عقود أشعارك حية متألقة على الألسنة، تطلّين من علياء القمر الذي ابتلعته ذات ليلة وسكن في أعماق نفسك المبدعة ليأنس به الشعراء من جيل الأبناء ثم الأحفاد، تقولين فتزهر كلماتك في المقروء والمسموع والمرئي وينتشر شذاها في قلوب الصاعدين فتزيدهم توقاً وترفدهم برحيق الهوية، ويجدوا في أزاهير متونك بألحانها وقوافيها هدير صحوتهم ونهضتهم. ويتنسموا عبق الإمارات ببواديها وسيوحها وجبالها وشطآنها وبحارها و(خليجها).. وأعلام الكلمة في الإمارات يمدّون إليكِ حبال الاستقاء وأشطان التواصل، يمتحون ويتقربون علّهم ينالون شرف المدارسة والمجانسة والتباري، وأنت تعطين ولا تستثنين، تجولين في الساحات والقلوب تنهلين من القديم والجديد.. من النبطي والفصيح.. لا تريْنَ للشعر حدوداً ولا سدوداً.. ولا تريْنَ للشعر جنساً يفضله، ولا بيئة تحصره أو أفقاً يقصره، فكنتِ التنوّع والشمول وكنت ملتقى الأجيال والعقول، فتألق نجمك العلوي في السماء العربية المطلقة، وحقّ لك اسم (فتاة العرب).
رحمك الله يا فتاة العرب فكثيراً ما اصطحبتك معي في تأملاتي في الشعر العربي بعامية نبطيّه وفصيحة. وفي مرة ذهبت أستجمع أسماء الشاعرات العربيات على مدى عصور الشعر العربي، وأقارن وأمايز فما وجدتُ منهن من حققت في مداها الشعري ما حققته فتاة العرب. ولست هنا لأبالغ أو أجامل، فقد ارتكزت في رأيي هذا إلى أمور مختلفة يصعب حصرها كلها في هذا المقام، لكنني أشير إلى بعضها:
1- ضخامة النتاج الشعري ومقدار العطاء، فللشاعرة عوشة ديوان شعر ضخم مطبوع ولها على الألسنة قصائد كثيرة متناقلة بين الناس، ولها قصائد لا يعرفها إلا المقرّبون، بل إن لها قصائد نسبت إلى سواها.
2- التنوع الفكري والموضوعي في النتاج الشعري، وهنا تبرز الشاعرة عوشة في سعة نطاق أشعارها وكثرة الموضوعات التي كتبت فيها حتى لا يكاد المطالع أن يجد موضوعاً ذا قيمة لم تدخل الشاعرة إليه.
3- العمق الثقافي في الأشعار وهذا يتضح للمتلقي من أول قصيدة يقرؤها للشاعرة فهي مطّلعة محيطة بالمسائل الفكرية والحيوية التي تعيشها والتي تشغل الناس وهي تمتلك ثقافة عامة واسعة.
4- المقدرة اللغوية والإحاطة بمفردات اللغة وتراكيبها وأساليب القول فيها.
5- الإحاطة بالفنون الشعرية المختلفة في مجالات البلاغة والمحسنات البديعية والبيانية وهذا واضح جلي في أشعارها، ومن أبرزها جمال التخييل الشعري والتصوير الإبداعي.
6- معرفتها بالمقاييس والمعايير الشعرية في مجالات المعاني والبناء الفني والأسس الفنية وأساليب الارتقاء بالقصيدة، ومواضع الضعف والخلل فيها، وقد اتضح هذا من آرائها النقدية التي سمعناها أو قرأناها.
7- تنوع الروافد الفكرية للشاعرة ومصادر ثقافتها، من مثل الشعر العربي الفصيح، الشعر النبطي، الموروث الثقافي الشعبي من عادات وتقاليد وأقوال وأمثال.. الخ، والثقافة الدينية الواسعة الراسخة من القرآن الكريم والحديث الشريف وقصص الأنبياء عليهم السلام.
8- طول النفس الشعري، فكثير من قصائد الشاعرة طويلة وهذا لا يستطيعه إلا الشاعر المتمكن من فكرته وأدواته.
9- تنوع فنون البناء وأساليب الشعر في قصائدها بصورة محكمة مثل أساليب القص والحوار وغير ذلك.
10- كثرة الشعراء الذين ذكرتهم في أشعارها من شعراء الفصحى وشعراء النبط.
11- كثرة الشعراء الذين تبادلت معهم القصائد معارضة ومساجلة ورداً، وهو ما يسمى في الشعر النبطي بالمشاكاة والمردّة.
12- تنوع الشعراء الذين تبادلوا القصائد مع الشاعرة من حيث مستواهم الشعري ومكانتهم الاجتماعية والسياسية وعلى رأسهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، وصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي.
13- سعة المدى الزمني الذي بقيت فيه الشاعرة عوشة منتجة مبدعة تستقطب الأسماع، فقد شغلت بإنتاجها الحي أكثر من ثمانين سنة بما فيها من مستويات شعرية متغيرة وأجيال مختلفة حتى إنها استحقت لقب شاعرة القرن.
14- سعة المساحة المكانية التي انتشرت فيها أشعار الشاعرة.
15- شعبيتها المطلقة وحضورها الشعري في أذهان وأسماع الناس من مختلف الطبقات مع أنها تنتمي إلى طبقة رفيعة من المجتمع.
16- وهذا أمر لافت للنظر، وهو تبادلها القصائد مع الشعراء من الرجال علاوة على الشاعرات من النساء، وهذا أمر تميزت به الشاعرة عوشة في موطنها الإمارات وفي الخليج حيث المجتمعات المحافظة التي لا يروق لها التخالط بين الرجال والنساء في مجالات الحياة ومنها الشعر. وهذا يدل فيما يدل عليه على ثقة الشاعرة بنفسها من جهة وعلى ثقة أهلها بها من جهة أخرى وعلى ثقة المجتمع بكلا الطرفين كذلك.
17- اقتحام الشاعرة مجال الشعر الذي كان ولا يزال حكراً على الرجال يدل على ذلك ما روته الحكايات عن الشاعرة بنت ابن ظاهر التي كادت تفقد لسانها بسبب قول الشعر. كما أنها بدأت قول الشعر منذ عقود طويلة سبقت بكثير عصر النهضة والتنوير والانفتاح.
18- تنوع النتاج الشعري للشاعرة من حيث الألحان والأوزان الشعرية، فقد نظمت على مختلف الأوزان الشعرية المعروفة ومنها بشكل خاص الألحان الإماراتية مثل الردح بنوعية والونّة، ومنها الأوزان الوافدة المشتركة مع البيئات الأخرى مثل المسحوب والشيباني والمنكوس.. وغيرها.
لهذا وغيره، أقول إن الشاعرة عوشة تميزت في نتاجها الشعري وقامتها الشعرية على النساء الشواعر في شعر الفصحى والشعر النبطي قديماً وحديثاً.
نعم أقول هذا وأنا أعرف قامات شعرية عربية نسائية عملاقة مثل الخنساء وليلى الأخيلية ومثل نازك ولميعه وسعاد وفدوى.. ومثل كثير من شاعرات البوادي العربية اللواتي سجلت أشعارهن في الكتب والمخطوطات أو حفظتها الصدور مثل بخوت ومويضي وعفراء وأنغام وسواهن.. بل إن المقارنة على ما سبق ستظهر صواب ما أقول.
وبعد..
فإن قمر عوشة الذي غاب سيترك في الساحة الشعرية فراغاً قد لا نجد من يؤنسنا فيه سوى أصداء تتوالى وذكريات تتناوب أو مبدعات تتعاقب.
رحم الله عوشة بنت خليفة السويدي رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته.