16 يناير 2011 20:54
قهوة “القزاز” ليست مثل بقية المقاهي إنه مقهى ثري بحضارته وتاريخه، عمره من عمر بيروت القديمة، مرّت عليه محطات مشرقة وأخرى مليئة بالمآسي، مثل أحداث الحرب الأهلية التي وقعت سنة 1975 واستمرت حتى عام 1990. إلا أنه أقفل مؤخرا أبوابه عقب منازعات قضائية طاويا صفحة من صفحات التراث البيروتي العريق.
يقال إن اسم قهوة “القزاز” مأخوذ عن مقهى معروف كان يقع في ساحة البرج سابقاً، ثم انتقل هذا الاسم إلى منطقة الجميزة عند افتتاحه المقهى عام 1920، حين كان سور بيروت الكبير يلفها من سبع جهات، وأشجار الجميز تحيط بالطرق لاسيما تلك المؤدية إلى طرابلس، قبل أن تحل مكانها عقارات البناء والعمران.
شخصيات سياسية
يقول الشيخ طه الولي في ذكرياته عن “أحياء بيروت بين اليوم والأمس” إن قهوة “القزاز” استقبلت زبائن وشخصيات سياسية واجتماعية وفنية، تركت بصماتها على الساحة اللبنانية، ومن أبرزها كميل شمعون وصائب سلام وبيار الجميل وريمون اده وموسى برنس، ونخبة من الفنانين من مصر وسوريا، ومجموعة من “قبضايات” ايام زمان الذين ارتبطت بهم حكايات وقصص النخوة والشهامة ونجدة الغير.
ولم يقفل المقهى أبوابه بالرغم من المحطات التي عصفت بالبلاد، وزواره لم ينقطعوا يوماً عن ارتياده لأخذ القهوة والشاي وتدخين “الشيشة” ولعب “دق طاولة” وزهر وورق، والتسامر حول شؤون وشجون البلد، فأصبح المقهى معلماً من معالم الجميزة وبيروت.
وحول تاريخ ملكية العقار الذي يضم المقهى، يقول الولي “بقيت ملكية مقهى القزاز بيد الأسطى باز فترة 15 سنة، لتنتقل بعدها إلى المستثمر حسن الصمدي الذي أقام فوق العقار مبنى جميلا وتراثيا، فيه طبقة أرضية وأبواب خشبية وزجاجية، وبقيت إدارة المقهى بيده، وفي عام 1945 انتقلت الملكية إلى يوسف عبود”.
ويروي ابن الجميزة فيليب كرم أن قهوة “القزاز” كانت مجرد خيمة منصوبة بجوار سوق الخضراوات، يجتمع فيها رجال البلد الكبار في ضيافة باز، وتحولت فيما بعد إلى مبنى حديث لكنه تراثي وكان ذلك عام 1937، وحافظ المقهى على شكله وموقعه ووظيفته بالرغم من التغييرات التي طرأت، وبالرغم من تبدل مالكيه مراراً خلال نصف القرن الماضي.
صاحبة المقهى حالياً انجيل أبي حيدر، التي ورثت المقهى عن والدها، تقول إن تاريخ قهوة “القزاز” كان دائماً حافلاً بالأمسيات والسهرات اليومية، وملتقى لكل رجالات البلد من دون استثناء الأغنياء والفقراء، حيث تلتئم في يومياته ديوانيات أهل السياسة، والسجالات بين الكتائب والحزب القومي خصوصاً خلال الانتخابات النيابية والبلدية، وكان المقهى يحجز من أجل إقامة المهرجانات كما حدث سنة 1940 حين أقام رئيس الكتائب بيار الجميل مهرجاناً فيه.
عصر ذهبي
تقول أبي حيدر إن قهوة “القزاز” شهدت عصراً ذهبياً، ورواده واظبوا على الحضور رغم كل الأحداث حتى سنة 2001، حين بدأت عيون المستثمرين تبحث عن عقارات جديدة مؤهلة للبناء والاستثمار، وما لم تستطعه الحرب في قفل المقهى، قدرت عليه رؤوس الأموال، حين اشترى أحدهم العقار سنة 1997 وأوقف عقود الاستثمار القديمة، ما أدى إلى نزاع قضائي استمر أكثر من 12 سنة، ربح فيه القضية. وتتابع “هذا ما جعلني أنقل المقهى إلى منطقة انطلياس التي تبعد عن العاصمة بيروت نحو عشرة كيلومترات شمالاً، وأنا أتأسف من قفل قهوة “القزاز” إجبارياً.
لكن أعتقد أنهم لن يستطيعوا محوها من التاريخ، بل سيتمكنون أمام “موجة” العمران العصري، أن يقتلوا فيها نكهة التراث وحضارة الماضي الجميل”.
الموظف حسين جابر، الذي يعمل في “قهوة القزاز” منذ زمن طويل، يتذكر الأيام الصعبة التي كانت تعصف بالبلاد، والتي كان المقهى أحد ضحاياها، لأنه يقع على خط تماس فاصل بين شطري العاصمة وبالرغم من هذا كله، فإن الزبائن والرواد لم ينقطعوا عن المقهى، بل العكس كان يزداد حضورهم عند تلبّد الأجواء بالاقتتال والتراشق بالأسلحة، وكان بعضهم يلجأ لدى اشتداد القصف إلى الاختباء في زوايا المطبخ مع شيشهم.
وعند استباب الهدوء وتوقف القصف يرجعون إلى طاولاتهم وكأن شيئاً لم يكن. ويضيف “بعد أن رفض مالكو المقهى التجديد لاستمرارية الحياة في قهوة “القزاز”، تحركت هيئات وجمعيات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فنظمت حفلات الوداع والاعتصام والاعتكاف، بل أقيمت احتفالات حزينة تندب مصير “قهوة القزاز”، الذي سيصبح أطلالاً على أساس ما يشاع من أن أصحابه سيقفلون أبوابه، لحين استبدالها بمشروع استثماري”.
وبعيداً عما يحمل هذا المكان من ذكريات وحقبات ومحطات، لم يبق منها سوى يافطات كتب عليها: “وداعاً مقهى الجميزة”، مع صور عديدة لدموع حزينة تنزل من فنجان قهوة، وهو آخر فنجان شربه زوار ورواد هذا المكان العريق العابق بالحنان لتاريخ بيروت القديمة.
صرخات احتجاج
آخر حفلات وداع قهوة القزاز، أقيمت بدعوة من تجمع “أنقذوا تراث بيروت”، حيث وقف الجميع دقيقة صمت وحداد، مع كلمات تأبينية، وتلا ذلك حفلة موسيقية ترمز في عناوينها وتابلوهاتها الفنية، “الوداع لقهوة القزاز” التي لم تبلغ وتكمل المئوية الأولى بعد. ويقول جورجيو غي طراف، أحد أعضاء الجمعية، إن قهوة “القزاز” ليست حجارة عتيقة، بل هي خزان ذكريات قل نظيره، وإذا كان البعض لا يشعر بأهمية هذا المعلم، على أساس أنه عبارة عن مكان لشرب الشاي والقهوة وتدخين الشيشة، وقضاء الوقت للتسلية، فلا بد من القول إن الأيام ستدور على غيره من الرموز والمعالم، لأنه بعد “قهوة القزاز” سيأتي دور أماكن أخرى، كانت محور التراث والتاريخ بعيداً عن طاولات النرد والزهر ولعب الورق. وما أصعب الأيام حين تدور لتطال مصير معالم تشبه قهوة “القزاز”.
المصدر: بيروت