أوقفتُ السيارة في المواقف المخصصة، وسألتُ نفسي بينما أمرر عيني على مجموعة كثيفة من الأشجار، أين هو المبنى الفائز بجائزة الآغا خان للعمارة، كأول مركز على مستوى دولة الإمارات العربية المتحدة؟ قررتُ المشي، بخطوات متسارعة، واتبعتُ الطريق المعبد، إلى أن وصلت إلى ممر مؤدٍّ إلى منطقة سفلية تحت الأرض. ودُهشت، لأنه من الغرابة أن يفوز مبنى يخفي ملامحه الكلية بين تضاريس الطبيعة، مشكلاً عقداً اجتماعياً واتفاقاً ضمنياً بعدم تجاوز روح المكان..
هل يكون سر الاحتفاء بـ«مركز واسط للأراضي الرطبة»، بإمارة الشارقة، باعتباره منجزاً معمارياً أثرى ثقافة الوعي بالحياة البرية، وتحديداً عالم الطيور المهاجرة، هو الرؤية الرفيعة التي قدمها المهندسون المعماريون، بالتعاون مع الجهة المعنية بالمركز وهي «هيئة البيئة والمحميات الطبيعية في الشارقة»، على مساحة مبينة مقدره بنحو 2534 متراً مربعاً، ضمن مساحة تمتد للمركز مقدرة بـ4500 متر مربع، عبر تلاشٍ تدريجي لمفهوم الحجم الكبير للمبنى وإبراز جماليته بالمضي نحو التبسيط والتواضع القائم على مبدأ احترام الطبيعة، بجعلها المساهم في رسم خطوط المبنى حسب احتياجاتها، وبالتالي يمثل العمل تعاوناً وجودياً يلتقي فيه الإنسان، كونه الفاعل، والكون في تجسيده للفضاء الإبداعي المستدام.
قبل الدخول إلى المركز واكتشاف العمارة البديعة، كان لزاماً تجربة المشي في الموقع الخارجي للمركز، والوقوف في الأماكن المصممة لمراقبة الطيور، للتعرف أكثر حول معنى أن تُوصف الأرض بـ«الرطبة»، ولاستشفاف المحيط الطبيعي المُلهم للمهندسين المعماريين. وبالوصول إلى منتصف رحلة المشي، وضعت يدي على أغصان أشجار القصب، التي تتخذ بعض الطيور منها بيوتاً، وتختبئ فيها بعض الأعشاش، وتأملت قوة ارتباطها وتكاملها مع شجرة الآراك، وبينهما تطير الفراشات بخفة. انتابني الفضول لاستخدام المنظار ومشاهدة طائر البلشون الصغير، وخلال ذلك استنشقت الهواء النقي، ومنها يتساءل المرء: كيف كان هذا الأفق الساحر مكباً للنفايات، وبدأت عملية إصلاحه وإعادة تأهيله قبل 14 سنة، عام 2005، بوعي حقيقي من حكومة الشارقة، التي حرصت على معالجة الأرض من الكيماويات السامة، وإزالة ما يعادل 40 ألف متر مربع من النفايات، ليكون مصفاة طبيعية بزراعة نحو 35 ألف شجرة، يحيطها سياج أخضر كبير، بمثابة حاجب طبيعي للصوت والغبار، يفصل الموقع عن مناطق التطور العمراني، ويحوله إلى رئة طبيعية تتنفس عبرها مدينة الشارقة الحديثة.
لغة الأرض
من بين أبرز التوزيعات الرئيسية لمواقع مراقبة الطيور، ضمن تصميم المحمية، الذي أصبح موطناً لـ350 نوعاً من الطيور، النقطة الواقعة في المنطقة المقابلة تماماً لموقع المركز، يقف الزائر ليتأمل مجمل الفضاء الطبيعي، وبالأخص صعود الماء العذب واختلاطه تدريجياً بمياه البحر المالحة، تتولد منها النتوءات الملحية البيضاء، التي تصل فيها نسبة الملوحة إلى 3 أضعاف ملوحة البحر، مشكلةً تمازجاً خلاّقاً مع اليابسة، محققةً التنوع الحيوي، ويخيل إلى الناظر أنها كتابة لونية، وأن الأرض تتحدث بلغتها الواضحة بالشكل والمعنى. وهنا تحديداً كتبتُ الملاحظة الأولى حول المكان بسؤال: كيف استنبط المهندسون المعماريون مخططهم البصري المبدئي خلال زياراتهم للمكان عام 2012؟! لأن الطبيعة هي الجوهر، فهل أثّر عليهم مثلاً مشهد تحذير طائر أبو المغازل وهو يهز رأسه مع إدارة عين واحدة ليحذر الطيور من قدوم الغرباء؟ وهل أسهمت الدلائل العلمية المهمة في تحديد نوع الطائر من مثل «وضعية وقوفه»، لرسم بيئته الطبيعية معمارياً؟
ومن جهة أخرى، تُعتبر فلسفة بناء «الأعشاش» من بين أكثر الأشكال المعمارية الطبيعية المبهرة، فهل لعبت دوراً محورياً على مستوى بناء سياقات الشكل والمضمون في محمية واسط الطبيعية؟! بعد الجولة الميدانية الخارجية، توقفت لمدة 5 دقائق في الباحة الأمامية لنقطة الالتقاء بين مكاتب الموظفين والمكان المخصص لعرض الطيور المتنوعة، بمختلف بيئاتها، في الموقع الداخلي من مركز واسط للأراضي الرطبة، والذي من خلاله يُمكن تلمس البُعد الحيّ للعمارة وأبعاد أثرها. الوقت كان يقارب فترة العصر، وبدأت الشمس بالانحناء الرقيق والعد التنازلي للوهج، ويمكن بذلك ملاحظة الخطوط الضوئية التي تشكلت على أرضية الباحة، نتاج مرورها بين عيدان الأخشاب المتوازية على السقف، مخففاً وطأة حرارة السقوط المباشر لأشعة الشمس، ويضفي رونقاً عمرانياً لظِلال ساقطة على الجدران البيضاء، يجعل منها عملاً فنياً يُشبه «الجداريات».
تناغم طبيعي
بالدخول إلى المركز، تستشعر برودة المكان، وتتأكد أكثر بمجرد ملامستك للزجاج الشفاف بين الزائر والطيور المعروضة. وكأول ردة فعل ألصقت وجهي عليها تماماً، لأرى كيف صُنعت تلك الأخاديد، فيها تجاويف تشبه تلك التي في الجبال البعيدة، وتأتي القيمة الجمالية لتلك الأشجار الخالية من الأوراق في وقوف طيور الوديان على أغصانها، مثل طائر «أبو منجل الأصلع الشمالي» النادر، الذي يحتاج صغاره إلى 5 سنوات تقريباً ليتمكن من السفر دون الاعتماد على والديه، لحظتها سمعتُ صوت نقرة على الزجاج وابتعدت قليلاً، كان طائر «الدجاج الحبشي» المسمى (غرغر)، الذي يتميز بلون المحيط في جزء من رأسه، فقررتُ الجلوس ومراقبة حركة التشكل الطبيعي للتواصل بيني وبين الطيور، عبر مقاعد جانبية للزوار، لأُدون احتمالات اللقاء مع المهندس المعماري الإماراتي أحمد آل علي، الذي قام ضمن فريق عمل متكامل بتصميم مركز واسط للأراضي الرطبة. والمهندسون هم: فريد اسماعيل، ميركو أوربان، باريا منافي، دانة شيخ، عبدالله بشير، وليد المزيني، كريستيان جيرونيمو، براين أبارينتوس، إياد زرافة، حيدر القلمجي، من شركة «X-Architects».
بينما نمشي باتجاه طيور المسطّحات الطينية، نستذكر أن المهندس المعماري أحمد آل علي، هو أول إماراتي يحصل على جائزة الآغا خان للعمارة، واعتبرها رسالة للمعماريين الإماراتيين والمقيمين، بأنهم قادرون على تحقيق إنجازات عالمية، تتجاوز الإنجازات المحلية، وقال لـ«الاتحاد الثقافي»: «بينما تتحركين في الممر الذي يصل طوله نحو 100 متر، وصولاً إلى البحيرة الأكبر في المعرض الداخلي للمركز، أود التأكيد لكِ بأننا كنّا نفكر في حركة الزائر. وعند زياراتنا للمكان اخترنا بناء المركز في أكثر المواقع المتضررة، حفاظاً على المساحات غير المتضررة، بعد عملية الإصلاح، لما للأمر من أهمية «إيكولوجية»، ومنذ اللحظة الأولى تمسكنا كفريق بمسألة أن البنيان يجب أن لا يطغى على التناغم الطبيعي للمحمية، ولا يحاول أن يتحداها، بل يشكل منظومة منسجمة مع كل تفاصيل الحياة مع نحو 33 ألفاً من الطيور المهاجرة، متخذة من موقع المركز مهبطاً لها، عبر مواسم مختلفة».
شخصياً، كزائرة، أعجبتني المشهدية الخاصة بطيور البحيرات المفتوحة، وحركة طائر البجع وردي الظهر الطافي على سطح البحيرة، وفيه تشهد لحظة غروب الشمس، تتجمع مجموعة من طائر النحام الكبير، بأرجله الوردية الطويلة، وأمام كم الهدوء، تُهديك بأن عليك الانتقال إلى الجهة اليُمنى، عكس اتجاه الشمس.. يصف المهندس المعماري أحمد آل علي هذا التحول في الاتجاهات الداخلية، بأنه مبني على دراسات للموقع، حسب مستوى المنسوب، وتشكلات التضاريس من تلال وغيرها، وربما أحد مقومات نجاح المشروع، هو الاهتمام الدقيق بالمتغيرات الطبيعية للمكان، فعادةً يُفضل المهندس أن يبني مبنى ضخماً وواضحاً، يُظهر فيه شخصيته وفكره، بل ويُفضل أيضاً أن يُرى المبنى من عدة جهات، مشكلاً رقصة متناغمة مع كل الأشكال والكتل التي من حوله، لكن ما حدث في محمية واسط الطبيعية، هو أن المهندس شارك الطبيعة في خياراته التصميمية، ليخدم عطاءها اللامتناهي، بجعلها تمتد من خلال إبداع مبنى تنصهر فيه شخصيته، ولم أسأل المهندس أحمد، عما إذا كانت الطبيعة تهدينا أحياناً حس الهوية، لنعود من خلالها إلى الطبيعة مجدداً عبر التخلي عن الهوية نفسها، وإنتاج حالة تلمس جل الهويات في العالم، ويصبح المشروع بذلك ذا حس إنساني عالمي.
محيط بيئي
اشتغل المهندس أحمد آل علي، والمهندس فريد اسماعيل وفريق العمل مع مجموعة من الخبراء والمختصين في مجال علم البيئة وعالم الطيور، لتأسيس بيئات الطيور المختلفة، فلكل طائر محيط بيئي يتضمن أشجاراً معينة وبرك ماء ونوعاً مفضلاً من الصخور ليعيشوا فيه، ومنه جاء المبحث حول أهمية استخدام التضليل أو الشباك في المنطقة الداخلية للمركز، التي يتصورها المشاهد بأنها على شكل خيم، فهل ذلك مرتبط بهوية المكان الصحراوية؟ يجيب المهندس أحمد آل علي عن السؤال، بأن التصميم يتبنى أكثر الجانب الوظيفي في تخفيف الحرارة وحماية الطيور، ويحق للزائر أن يرى العمارة بالشكل المتخيل الذي يريد، مؤكداً أنه من هنا تأتي أهمية العمارة في أننا نشكلها، وهي تشكلنا وتؤثر في تفكيرنا وسلوكياتنا، متجاوزة مسألة الاستثمار التجاري البحت، الذي يفتقد للأسف للرؤية والاهتمام بهوية المدينة وطبيعتها وأُناسها، فكما قال المهندس المعماري العريق رينزو بيانو، من الصعب أحياناً إزالة مبنى قبيح من أمام مرأى شخص ما، فهو فن اجتماعي مفروض!
أحد التهديدات الرئيسية للمحافظة على التنوع الحيوي، التي ذكرها مركز واسط للأراضي الرطبة، هو تدمير بيئة الطيور الطبيعية والتوسع العمراني وتغيّر أساليب الزراعة والصيد. وفيما يتعلق بالعمران لفت المهندس المعماري أحمد آل علي، إلى أن العمارة في مجال البيئات والمحميات الطبيعية، يجب أن تقوم على دراسات بحثية، خاصة أننا في مواجهة مستمرة مع الكوارث الطبيعية والفيضانات، التي قد يكون سببها العمران المتضخم غير المدروس، والاشتغال عبر العمارة يجب أن يكون فكراً جماعياً وليس أحادياً، للحصول على أكبر قدر ممكن من الرؤى المختلفة والمتعددة، التي تخدم الطبيعة وتحافظ عليها. وأضاف بحرص: «التطور العمراني كان سريعاً، وافتقد للفلسفة النابعة من الفكر المحلي، الناتج من اعتقاد أن الرؤية الغربية، أجود من رؤية المهندسين المحليين، وهو كلام أثبت عدم صحته مع الوقت، فالأمر يبقى نسبياً، والتعامل مع الأرض، يتطلب تفعيلاً للطرق الأخلاقية والاجتماعية في التعاطي معها».
وصولي عند طيور مصبّات الأنهار، إعلان لنهاية التطواف داخل المعرض البيئي الحيّ لمركز واسط للأراضي الرطبة، الذي قام فريق عمل التصميم بتقسيمه إلى 3 مسارات متداخلة، بما يخلق شكل حرف H ضخم، تحوي مناطق مختلفة من المكان، ضمن استخدامات وظيفية متعددة من بينها الأقفاص والمتجر ومكاتب الاستعلامات وصالات العرض، ويمكن للزائر أن يطلع عبر الخرائط الهندسية على مواقع تخزين الأغذية ومستلزمات الطيور. الوصول إلى نجاح هذا المشروع، يفتح أفق دراسة أثره على المهندس أحمد آل علي شخصياً ومهنياً، الذي أوضح كيف أن العمارة قدمت له طريقة مختلفة في التفكير، وكيفية للنظر إلى الأمور بأوجه متعددة، قد لا يراها الناس عادةً، ساهمت في تعزيز مهارة النقد البصري للبناء، وهي أداة مهمة لتطوير شكل الحيز الذي نتحرك فيه ويؤثر علينا.
جائزة الآغا خان للعمارة
مثّل حفل توزيع الجوائز لدورة عام 2019 ختام للدورة الرابعة عشرة من جائزة الآغا خان للعمارة التي تقام كل ثلاث سنوات، وأنشأها الآغا خان عام 1977. تختلف جائزة الآغا خان للعمارة من حيث توجهها واهتماماتها عن الكثير من جوائز العمارة الأخرى، فهي لا تكافئ المهندسين المعماريين فحسب، بل أيضاً البلديات، وعمال البناء، والعملاء، والعمال المهرة، والمهندسين الذين كان لهم دور مهم في إنجاز المشاريع. تمنح الجوائز لمشاريع من جميع أنحاء العالم.