نبيل سليمان
يعرّف بندكت أندرسن الأمة بأنها جماعة سياسية متخيّلة، ولا يعني ذلك أنها خيالية، فهي واقعية وحقيقية. وتزداد أهمية الجماعة المتخيلة وواقعيتها بقدر ما تتفكك الجماعات الدنيا (العشيرة - القبيلة..)، أي إن القول بالمتخيّل هنا يتناسب طرداً مع التطور من الاجتماع الصغير إلى الاجتماع الكبير فالأكبر. والانتماء إلى الطائفة الدينية مثلاً، إذا ما تجاوزت حدود القرية أو البلدة أو الفضاء الصغير المحدود، يصير انتماء إلى جماعة متخيلة، فكيف جاء التعبير الروائي عن هذه الجماعة، سواء في جسدها الإماراتي أم في انتمائها العربي؟
هنا قراءة في ثلاثة أعمال روائية راودت كل منها الجماعة المتخيّلة، من زاوية مختلفة:
«نافذة الجنون».. سيرورة ممتدة
تصور رواية «نافذة الجنون» (1990) لعلي أبو الريش سيرورةً فردية وعمومية تمتد نصف قرن من حياة بطل الرواية سعيد. وتشتبك في هذا الزمن المديد الذات الفردية بالذات الجماعية، وبالتدرج من طفولة سعيد إلى شبابه وكهولته، ومن كل ما مهّد ثقافياً وسياسياً واجتماعياً إلى المفصل الذي تمثله هزيمة 1967، وإلى ما اصطخب به العالم كله أيضاً على سائر الصعد والمستويات. وإذا كان لهذه الرواية ما يميزها فهو خفق الخيال في الواقع الصلد، وهو ما يجعل «نافذة الجنون» أنموذجاً بالغ التميز والدلالة على ما تعنيه الجماعة المتخيّلة في مختلف مراحلها وأزمنتها وتعرجاتها وانتكاساتها.
في نشأة سعيد في القرية يتشرّب الخرافة والرعب. ويكفي لتمثيل ذلك صورة الجارة سارة التي تعرّت أمام الناس، فقيل بتعليل ذلك إن الجنّي قد ضربها، وهو ما ترويه الأم للطفل سعيد، محذّرة من الخطأ، كيلا يناله ذلك العقاب الذي نال سارة. وقد أورث ذلك للطفل الكابوس خوف أن يكون له ذلك المصير المرعب، فبدا بارتباكه وهزاله كأن مساً قد أصابه. لكن الأم ستعجل بالعلاج، إذ تغطس خاتمها في الكأس، ويشرب سعيد من الماء/ الدواء، فخاتم الأم متخصص بطرد الجن والشياطين والعفاريت.
ومن بعد، تأتي سنوات الشباب المديدة الخصيبة التي تسلّح فيها سعيد وجيله بالعلم والثقافة، فحذق النظريات والفلسفات، وطارت به الطموحات والأحلام الفردية والقومية. لكن ذلك الزمن العارم لم يطل، كما لم يكن التسلّح فيه مكيناً، وها هي الوقائع تترى، فتقوّض العمارة الورقية المزوقة، ولكن: الهشة، وبدأ مسلسل الانتكاس والانهيار، بدأت الهزائم الصغيرة والكبيرة، الفردية والجماعية، ورمزها الأكبر ما كان عام 1967.
في شرفة الخمسين يطل سعيد على ذلك الماضي المترامي من الطفولة إلى الكهولة، من القرية إلى المدينة، من الوطن إلى العالم. وفي الاستعادات والارتجاعات التي تنبني بها الرواية، لا يأتي الزمن بمثل الانتظام الذي عبّرت عنه السطور السابقة. فهذا الاختيار الفني ينادي الأزمنة والفضاءات لتشتبك، فيتكسر العمود السردي التقليدي، وسعيد يسرد صدوع الذات وصدوع الجماعة المتخيّلة. وعبر ذلك ترتسم أسباب العجز العميم، وأزمات الأمة، والنكوص على أي مستوى شئت، في الثقافة والفكر، في السياسة، في الحياة الاجتماعية، وحيث عادت الخرافة فتفشت كما لم يكن لها في الزمن الأول البعيد، كما تضاعف القمع، وتفاقمت الفرقة في الجماعة المتخيلة - الأمة، وحل التناحر محل التضافر، والخصام محل الوئام، وتواترت خيبات التصدي لبعض ذلك. وبتفاعل الحال الفردي والجمعي مع حال العالم المعاصر يغلب الصخب والانهيار، ويتعاظم إفلاس الفلسفات والنظريات، وتكون النخبة المثقفة التي يمثلها سعيد الضحية الأولى للنفاق والقهر، وهي الحالمة بالعدل وبالحضارة، وإذا بالمال هو الجنون واليأس، هو الغربة والعجز مما تمثله العبارات التي ختمت الرواية: «يا تعيس.. أنت الآن عاجز لأنك تصورت أن النظريات وحدها يمكن أن تغيّر مجرى الكون». وفي هذا المونولوج الأخير الذي يتوّج ما قام به أود الرواية من المونولوجات، نقرأ: «أنت خائف.. خائف.. خائف» فهل سيستجيب سعيد الفرد، وسعيد الجماعة، لهذا النداء الذي تجلجل به الرواية: «اصح.. انهض»؟
«سيح المهب».. الفطرة النبيلة
تنبض رواية «سيح المهب» (2007) لناصر جبران (1952 - 2017) بالأسى والشجن، وبالقلق الممضّ أيضاً. ولا يفتأ ذلك يضطرم في الرواية إلى أن تبلغ نهايتها، حيث يتذكر الكاتب حميد في الخاتمة وجوهاً كثيرة، أسهمت في بناء الدولة وأخلصت لها، ووجوهاً فاعلة رحلت بصمت، ووجوهاً هاجرت «ولم نتمسك بها»، وهي تحن للعودة إلى البلاد. ونقرأ: «أتذكر أوفياء كثراً.. شرفاء.. أنقياء، ومواطنين حملت ظهور أجدادهم حجر هذا الوطن وترابه، ودافعوا عن حياضه، وتحملوا مشقة الغوص والسفر». وتطلق الرواية السؤال الملتاع: «لماذا تحيد البوصلة عن مثل هؤلاء وتتجاهلهم؟» أما حميد فيطلق صرخته الملتاعة: «آه يا وطن»، وتبدو له المدينة الأخطبوطية التي كبرت بسرعة قد انتهكت عفاف الفلاة، أي عفاف الفضاء الأصلي، فضاء الذات الذي تحضر فيه الطبيعة: الصحراء، البراري الصفراء، الكثبان، القطعان، الواحة التي تشبه شامة عطرت خد الصحراء، السدر والنخل والمانغو والحنّاء والفرصاد...
يكابد حميد الشعور بالوحدة والغربة. وفي خلوته بنفسه في المقهى يرمي بالسؤال/ السوط: «لماذا صرت مع شعبي المتسامح الكريم إلى أقلية ضائعة بين حشد من القوميات الوافدة؟». وتتضاعف وقدة هذا السؤال عندما يصوّر الشباب ويصفهم بجيل «التشويش والخراب الذي يستنشق كبريت الحروب الطاحنة، ويعب باندهاش غرائزي من ثقافة التمييع». كذلك هو شباب متعولم بآفة الحاسوب، ويعاني من تبعات ومشاكل الزواج من أجنبية، مما يراه حميد تهديداً للهوية الوطنية، لذلك يحذر من استمرار الأمور على ما هي عليه من اختلال التركيبة السكانية ومن بطء علاجها.
في صلب كل ما يأتي به حميد في الرواية، تتلاطم المشاعر الوطنية والقومية للشاعر والروائي الصديق الراحل ناصر جبران. وقد كانت تلك المشاعر النبيلة الحارّة تعقد آصرتها بين الجماعة المتخيلة وبين البشرية والإنسانية، كما تعبّر هذه الشذرات في مفتتح رواية «سيح المهبّ»: «أيها العالم الصحو../ ترجّلْ وقاتل فلول الظلمة البغيضة../ يا أبناء البشرية انتصروا لإنسانيتكم المبعثرة وابحثوا عني مثلما أبحث عنكم/ أغيثوني.. أنقذوني.. أكاد أموت../ أين أنتم..؟». ويبلغ هذا التوحيد بين الجماعة المتخيّلة والإنسانية مداه في هذه العتبة الأخرى من عتبات «سيح المهبّ»: «لماذا يجهزون على كل شيء جميل، ويعاقبون النقاء، ويخنقون الأرض؟ أما آن للإنسان أن يشكم شرود ذاته الدفينة المستفرغة كلما أمسك بخيط نجاته، ويقر بضآلته النتنة؟ إن البشرية بحاجة لسنة ضوئية كي تصالح فطرتها النبيلة، وتطهر جوهرها من قباحة أفعالها الشائنة، وتدنو بضآلةٍ نحو إدراك الأصل من القيم العادلة الخالصة، ولسنة أخرى مماثلة كي تمارسها بحق..!».
في نهار واحد لحميد، هو زمن الرواية، يتلاعب السرد على لسان كل شخصية تسرد ما قَسَمَ لها الكاتب، وبالتنقل بين ضميري المتكلم والغائب. وبالعين المدققة ترتسم الأشياء والأمكنة والشخصيات. وبالتواضع الذي عُرِف به ناصر جبران، نقرأ في الإهداء الذي تصدّر الرواية: «إنها محاولة متواضعة لرواية تعزف لحنها بجنون أسئلة كثيرة»، لكن «سيح المهب» أثرى من ذلك وأدمى قدر ثراء وتعقيدات الجماعة المتخيلة.
«رائحة اللبان».. الحلم الأزلي
ثمة من يؤثر الحديث عن الهم الوطني أو الهم القومي كما تبدى في الروايتين السابقتين، بدلاً من الحديث عن الجماعة المتخيّلة، وإن تكن في صلب الحديث عنها، تلك الهموم العامة. والأمر نفسه نجده في رواية إبراهيم مبارك «رائحة اللبان» (2015)، وهي الأقرب إلى (النوفيللا) أو الرواية القصيرة التي تعود إلى زمن الاحتلال الإنجليزي.
من البحر إلى الصحراء يترامى الفضاء الروائي، وتتألق الرواية في رسم هذا الفضاء، فالأمواج التي تتلاحق إلى الشاطئ كأنها حورية البحر، والبحر يغسل الأرجل كأنه الأم الحانية، والبحر أيضاً هو النشيد الذي يسكن صدور الباحثين عن الحرية منذ الأزل.
ومن السموم الحارقة إلى الضباب، إلى نجم سهيل، إلى الهجير وطائر الخضيري والنسمة الباردة التي تعانق رذاذ الماء.. من كل ذلك تنتسج الصور الروائية لذلك الفضاء الذي أقبل عليه الإنجليز، فنذر شبانٌ حياتهم لحلم الحرية: مقبل الظفاري وخميس بن غابش وآخرون يصدحون أحياء وأمواتاً: «نحن جذور النخيل والجبل، نحن نشيد الساحل والرمل وثورة البحر.. من يهزم هذا الانتماء؟».
تحت الاحتلال وأثناء مقاومته ظهرت رؤوس ماكرة، وثمة من باع نفسه للعدو. وحين كان طابور سيارات الإنجليز يعبر القرية، كانوا يرمون حزم الخبز للأطفال الذين ما كانوا يدركون استباحة الجند لأرضهم، فتحول جريهم خلف السيارات إلى تحيات ولهفة للخبز. وفي الصحراء كان جنود الاحتلال يتركون بقاياهم، وكان (خليفة) المترحل بين الساحل والصحراء مع جماله وأغنامه، يحضر (الصفر/ النحاس) من تلك البقايا، كما كان يتتبع مناوراتهم، ويقول لزوجته إنهم لا يخلفون إلا الرماد والكشرة، و«مكباتهم مثلهم لا خير فيها أبداً». وقد عاد مرة بقنبلة دخانية: «إن هذا شيء عجيب، فهو ليس ناراً ولا حريقاً أصاب المنزل، ولكنه دخان أحمر لا ينطفئ أبداً».
إنه دخان الإنجليز، لكن قنبلة غير دخانية ستدمر بيته وتقضي عليه. وبالمقابل، ينظم شبانٌ صفوفهم لمقاومة الاحتلال، ويُسجن مقبل الظفاري، ويتخفى خميس بن غابش، ثم يخرج من الغياب (كطائر الفينيق)، ويطل هذا المطارد (كالفجر)، ويشتري لحمود الطفل ابن السجين طائراً، فيطلق الطفل الطائر من القفص وهو يقهقه فرحان، في مشهدٍ رامزٍ بديع.
مع رحيل الإنجليز تنتقل الرواية إلى الاحتلال الجديد. رحل غراب وأسرع غراب ليحل محله ويأخذ حصته من تركة السواحل: «احتل جزراً أو طالب بأوطان الآخرين». وترسم الرواية ابتهاج الناس برحيل الغراب الإنجليزي، وغضبهم على حلول (غراب الشمال) محله. وفي مظاهرة حاول الطلاب إنزال علم الاحتلال الجديد. ومن قرية المنيعي إلى قرية حتّا يندفع الرجال «الذين صنعوا الحياة وتحدوا الجبال». وتبرز هنا شخصية سالم الذي يقرر هجران القرية ليلتحق بالشباب الذين كونوا نواة جديدة لمقاومة الاحتلال الجديد.
عندما سقط سالم شهيداً شيّعته (جلفار) في جنازة رمزية. وستروي عجوز أنها شاهدت في الشتاء شهاباً يطوف في السماء، يأتي من بحر الخليج العربي إلى قمم الجبال ووادي المنيعي، وليس ذلك إلا روح سالم. وعلى هذا النحو يوالي إبراهيم مبارك رسم المشاهد الرامزة في «رائحة اللبان»، كما في هجوم غربان الشمال في موجات هائلة لم يأت مثلها منذ أربعة قرون بهذه الكثافة. بيد أنّ ثمة عجوزاً وحفيده يقاومان الغربان. وسوف يعثر الصيادون على جثتيهما ممزقتين طافيتين على وجه البحر. وبينما يهدر القائد العسكري آمراً الناس: «ارحلوا أيها الأعراب إلى مدن البدو»، وبينما يتم اجتياح الجزيرة بأحدث الأسلحة، يختم إبراهيم مبارك روايته بما عَنْوَنَها به: «وحده الخليج العربي استمر في تدفقه الأزلي، وحلمه الأزلي أن تستمر رائحة اللبان تعطر الماء والمكان».
وبمثل ذلك، تتعين خيالية الجماعة في بشر مسكونين، وبلاد مسكونة، بأحلام وصبوات، من أمومة زوجة مقبل الظفاري إلى سجنه أو إلى شهادة سالم، إلى أحلام الحرية والسعادة، إلى خفق خيال العجوز بروح شهاب وقد صارت شهاباً. وقد قدمت روايتا علي أبوالريش وناصر جبران أمثلة أخرى لتعيين خيالية الجماعة، أي للجماعة المتخيلة، في تعبير روائي بديع.