10 فبراير 2009 01:18
هل يأتي العصر الذي نستغني فيه تماماً عن الورق ورائحته الممزوجة مع الحبر، فنقلّب الصفحات ونتفاعل مع كل صفحة نمرّ بها حسيّاً وعاطفياً؟ هل سنستغني في يومٍ قريب عن الكتاب؟ هل ستتوقف دور النشر عن الطباعة التقليدية بأغلفتها الملونة أو السوداء والبيضاء لصالح القارئ الالكتروني، الكتاب الذي أطلّ باللغة الأجنبية ويتم البحث في إصداره باللغة العربية، فتزول مكتبة المنزل وتنحصر في آلة كمبيوتر تشبه الكتاب شكلاً، لكنها تتسع لآلاف العناوين؟
في السابق وحين بدأ استخدام جهاز الكمبيوتر لكتابة المقالات والدراسات والروايات والأشعار، عاداه الشعراء والكتاب والدارسون وأقصوه عن حياتهم مفضّلين ممارسة الإبداع من خلال الأوراق الصفراء، وليس بواسطة الشاشة المثبتة على مكاتبهم، ثمة من قال إنه لا بديل عن ملمس القلم ورائحة الأوراق في طقوس الكتابة·· وها هم جميعاً يستخدمون الجهاز لأنه الوسيلة الأسرع والأكثر فعالية، سواء بالاستخدام المباشر أو بمساعدة آخرين يتولون طباعة أعمالهم ويحفظونها، ويرسلونها إلى الجرائد والمجلات، أو دور النشر·
بما يفيد الكتاب الالكتروني العالم العربي، وهل سيشكل بديلاً في يوم من الأيام عن الأوراق؟
ثقافة إلكترونية
إن التقنية الحديثة وما وصلت إليه من تطور هائل، لتأخذنا إلى أبعد ما كان يجنح إليه الخيال الإنساني· وليس منا من يستطيع أن ينكر ذلك، فما يحدث في هذا العصر، إن هو إلا ثورة في أنماط الحياة كلها، فما نكاد نستأنس نمطاً جديداً حتى يقفز نمط أجدّ منه، فيطرده ويحل محله·
فقد أتت التكنولوجيا على معظم مجريات الحياة وغيرّت كثيراً من اتجاهاتها، فلم تعد بوصلة الحياة تثبت على نمط معين منها، وهذا كلّه بفضل الله تعالى، مانح الإنسان هذا العقل الجبار، الذي لولاه لما كان هذا التطور الهائل ولا هذه الطفرة في التكنولوجيا التي سخرت لخدمة الإنسان، وصار العالم كله، وكما يقال، قرية صغيرة تتجول فيها، كيف ومتى تشاء وأنت في مكانك لا تبرحه·
وهذه الشبكة العالمية ''الإنترنت'' جعلت البعيد قريباً، والتواصل بين الناس سهلاً، حتى أصبح كل واحد في مرمى عيون الآخرين، وغدا العالم وكأنه كرة زجاجية شفافة تقلبها بين يديك، والأمثلة على ذلك كثيرة، إن عددناها لا نكاد نحصيها، فأنت ومن مكتبك أو من غرفة نومك عبر شاشة الإنترنت تطالع صحف العالم كل صباح، وتستطيع أن تقرأ أي كتاب تشاء، وهذا ما يسمى الكتاب الإلكتروني وقارئه هو القارئ الإلكتروني، تقلب صفحاته وتختار ما يريح عينيك من ألوانه، فثقافة الإنترنت والتواصل من خلالها دخلت البيوت من أوسع أبوابها، ودونما استئذان، وما من أحد يجرؤ على أن ينكر فضل هذه التكنولوجيا وما قدمته من تسهيلات، ولا يستطيع أحد أن يجذِّف ضد التيار ويعارض هذه الثقافة·
الكتاب الإلكتروني له عشاقه وهم كُثر، وله فضله، والقارئ الإلكتروني ظاهرة حضارية ترسخت عند الكثيرين، ولكن السؤال المطروح هنا، هل يشكل الكتاب الإلكتروني تهديداً وخطراً على الكتاب الورقي؟ أو يلغي دوره وهل سنشهد عصراً من القراءة، خالياً من الكتب والأوراق؟ هل سنحذف من ذاكرتنا بيت شعر المتنبي الشهير:
''أعز مكان في الدنا سرج سابحٍ وخيرُ جليسٍ في الأنام كتاب''
هل بهذه البساطة يمكن أن نهجر الكتاب التقليدي؟
أنا شخصياً لا أعتقد، وغيري الكثير مثلي، إن هذا سيحدث، فبيني وبين الكتاب التقليدي عُشرة عمر وصداقة حميمة، وطقوس قراءة ليس بالسهولة أن انصرف عنها، ولستُ بالذي يبيع صاحبه ابتغاء مرضاة الإنترنت، فالكتاب لو قلتَ صديقي قلتُ أسمى، إن ما بيني وبينه جل أن يسمى، إنه ليس مجرد صفحات تقلبها يداي، ولا كلماتٍ تقرأها عيناي، أو أفكارٍ أتداولها، إنه رفيق درب مخلص، إذا عزّ الرفاق وصديق صدوق لا يعرف النفاق، بيني وبينه حميمية وطقوس نؤديها معاً، إنه مرآتي التي أرى بها ذاتي، معاً نشرب قهوة الصباح وفي المساء يشاركني التمتع في عدّ نجوم السماء، ولطالما اصطحبته في رحلة شوقٍ عبر موجات أفكاري·
كان وما زال بيننا وبين الكتاب عهد وميثاق والكتاب جدول ماء وقصائدنا حوله عشاق·
الكتاب الورقي يبقى المنافس الأشرس
تحوّل جزء كبير من الأعمال الكتابية والطباعية وشؤون المراسلات وسواها إلى جهاز الكمبيوتر وعالم الانترنت التواصلي والمعرفي، فطرح السؤال حول ما إذا كان الانترنت سيحلّ مكان المراجع والبحوث العلمية وإن كان سيصبح المصدر الوحيد للمعلومات وللتحصيل العلمي·
أثبتت التجربة أن الانترنت بالمواقع التي يوفرها- على الرغم من تنوعها وكثرتها عددياً- لم يتمكن من أخذ مكان الكتب الورقية والمراجع والمصادر· ووجدت أن الطرح الذي يقول إن عالم الكتاب الورقي إلى اندثار هو طرح خاطئ وأعارضه بشدة، فلا يزال الكتاب الورقي متألقاً في المكتبات ليس لسبب رفض العالم الالكتروني، إنما لما للكتاب من خصوصية وحميمية لدى القارئ·
يعشق القارئ ملمس الكتاب ورائحته، ولفعل القراءة أجواء وصداقة تنشأ بينه وبين الكتاب·
وعلى الرغم من توفر ''القارئ الالكتروني'' لم تتحول دور النشر العالمية إلى دور إلكترونية، مع العلم أن أي وسيلة جديدة سمعية أو الكترونية تشجع على القراءة من مهامنا دعمها· وذلك لأن أجواء الكتب الورقية لا تزال مخيمة في عصرنا على العلاقة بين القارئ والكتاب، وكما لم يشكل الإنترنت الوسيلة الوحيدة للبحث والقراءة والاطللاع على كل جديد، كذلك الأمر مع ''القارئ الالكتروني'' وإن كان لا غنى عنه، لأنه برأيي لا يزال الكتاب الورقي منافساً شرساً للوسائل الالكترونية الحديثة لجهة القراءة والتمتع بهذه القراءة·
ومن دون شك، يأتي ''القارئ الالكتروني'' ليحلّ مشكلة في عالمنا العربي حيث إن لدينا نقصاً في آليات التوزيع الفعالة، ومن هذا الجانب، أجد أن بوسع الوسيلة الحديثة هذه أن تكون بديلاً للعلاقة بين الناشر والقارئ، ولكن أجدني شخصياً أطبع الكتاب على الأوراق لقراءته، فحتى المراسلات أعود لطباعتها لأتمكن من قراءتها بتعمق بعيداً عن الشاشة التي أجدها بعيدة عني وغريبة، فيما الورق له جماليته وخصوصيته وقيمته لديّ ويريحني في التعامل معه، وهذا لا يقتصر عليّ شخصياً فإذا ما نظرنا إلى جيلي وإلى الجيل الأكبر سناً، نجدهم متشبثين بالكتاب الورقي، مؤمنين به ومخلصين إلى أبعد حدود·
خاضت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث تجربة رائدة لتشجيع القراءة عبر توفير موسوعة سمعية تحمل 65 عنواناً ضمت إلى إصدارات الهيئة الجديدة، مجموعة من الشعر التراثي والشعر العربي الكلاسيكي وأمهات الكتب العربية الأدبية وكتبا للأطفال، وكان هدفنا تشجيعاً لإغناء ثقافة الأفراد اطلاعهم على هذا المخزون في طريق سفرهم الطويل، فيستمعون إليها كما يستمعون إلى الأغاني· وقد لاقت تجربتنا نجاحاً دفعنا للعمل على توفير الموسوعة الشعرية الكترونياً للقراءة بأسعار جد رمزية، وهي تضم أكثر من 100 عنوان من أمهات الكتب العربية، بالإضافة إلى أكثر من 2300 ديوان شعري، وقد بدأ المجمع الثقافي تجربته هذه منذ العام ،1997 وحالياً تسعى الهيئة في المستقبل لتوفير معظم إصداراتها الأدبية والمعرفية، ومنها المترجمة عن لغات أجنبية، بصيغتين، الصيغة الورقية والصيغة الالكترونية·
وإلى جانب سعينا لتعزيز موقع وقيمة الكتاب والتشجيع على ثقافة القراءة، نسعى إلى تشجيع دور النشر بالعناية بمطبوعاتها وهذا ما يحصل الآن، لجهة طريقة العرض والإخراج والأغلفة والصور- خصوصاً كتب الأطفال، لأنه، وللأسف، نجد الكتاب الأجنبي متقدماً على العربي في هذه المجالات بأشواط وثمة ضرورة ملحّة كي يكون شكل الكتاب جاذباً للصغار وللكبار·
مع الكتاب، تعمل أكثر من حاسة، اللمس والرائحة والنظر والسمع لدى القراءة بصوت عال، والكتاب عالم جديد نكتشفه ونصادقه وليس مجرد شاشة غريبة·
القارئ الإلكتروني يحلّ مشكلة التوزيع العربية
سئلت عن رأيي بالقارئ الالكتروني وأنا في خضم تحضير العقود بالتعاون مع المحامين والمؤلفين، من أجل تحديد ثمن تحميل الكتاب من موقع الدار الذي أملكه إلى القارئ الالكتروني·· وذلك بعد أن تقدمنا في الدار خطوات سبقت مرحلة تحديد الثمن والذي سيكون زهيداً بطبيعة الحال حيث لا كلفة في الطباعة ولا كلفة في العرض والتوزيع يختصرها الابتكار الجديد للقارئ الالكتروني، الذي يستطيع أن يجمع آلاف العناوين في دفّة واحدة تختصر الغلاف والغلاف الخلفي وكل الصفحات، بشكل لا يختلف عن الصورة المكوّنة في أذهاننا لشكل صفحة الكتاب·
وعلى الرغم من ''النوستالجيا'' (الحنين) إلى الورق الذي سيعاني منه الجيل الكبير من كتاب وشعراء وقراء، فإني أرى أن هذا هو مستقبل النشر الذي سيتجاوز الحدود الجغرافية واللغات ووسائل الحصول على الكتاب، إذ يكفي أن تشتري القارئ الالكتروني لتحمّل ما تشاء من العناوين عن الانترنت بأبخس الأثمان· وهذا المستقبل لا يهدّد عالم النشر في العالم العربي، إنما على العكس فهو الوسيلة الأسهل والأضمن للوصول إلى القارئ العربي من دون القيود التي ندفع كناشرين وكأصحاب دور نشر أثماناً باهظة لتخطيها· لطالما عانينا ولا نزال في العالم العربي من العلاقة بين الناشر والقارئ، فالحلقة الوسيطة المتمثلة بشركات التوزيع وبآليات التوزيع لا تزال ضعيفة، وهي تتقسم إلى جهات لا تحصى وفق البلدان التي ستدخلها نسخ الكتب، فماذا عن البلدان الأجنبية·
مع القارئ الالكتروني، بوسعي الوصول إلى القارئ العربي أينما وجد في العالم، يكفيه أن يحدد نوع الكتاب الذي يريد حتى تفتح أمامه العديد من المواقع حيث يستطيع تحميل العنوان الذي يريد قراءته بدولارين أو ثلاثة وربما بأقل من ذلك، فيستخدم بطاقة الائتمان لديه ويحصل من منزله على الكتاب·
وبطبيعة الحال، ثمة من يتخوّف من كل جديد، ففي فيتنام كان يموت مئة شخص ولا نعرف عنهم، أما اليوم فقد شاهدنا في الوسائل الإعلامية كل ما حصل في غزة مباشرة، عرفنا عن كل شخص استشهد· من كان يعتقد أن الوسائل الإعلامية ستصل إلى هذا الحد من التطور الذي يمكنها من نقل الحدث مباشرة· ومن كان يتخيّل في يوم من الأيام أن تنضيد الحروف في الطباعة التقليدية سيتحوّل إلى ذاكرة تطبع الأحرف والكلمات بكبسة زر واحدة، ومن كان يتخيّل أن تطلب جريدة عربية في كندا من آلة أمام المقهى فتطبع لك الجريدة بالشكل والحجم الذي تجده في البلد العربي!!!
في يومنا الحالي، نعلّم أطفالنا على التعامل مع لوحة المفاتيح في جهاز الكمبيوتر كما نعلّمهم الإمساك بالقلم فيتعلّمون ويتآلفون مع الجهاز الجديد، وبالتالي إن مسألة العادة مهمة وسيأتي الجيل الذي سيتعوّد على القراءة من خلال القارئ الالكتروني فيذهب من الصفحة الأولى إلى الثانية وهكذا من دون أن يلمس الورق، ويقلبه ويحدّد إلى أين وصل في القراءة من دون ثني طرف الورقة·
بواسطة القارئ الالكتروني سيزول من بال الناشر همّ الشحن والنقل والطباعة، وتزول الحلقة الوسطى الضعيفة أساساً في التوزيع بالنسبة لدور النشر الكبيرة أو الصغيرة·
نحن نسعى للتواصل مع القارئ العربي من خلال معارض الكتب في العالم العربي وفي العالم، وكل دار يستطيع أن يصل إلى شريحة أكبر من خلالها إذا تمكن مادياً من المشاركة فيها جميعها، وتمكّن بالإضافة إلى ذلك من توفير نقطة بيع للكتب التي ينشرها في المكتبات العربية· ومع الكاتب الالكتروني تلتغي كل هذه المشاكل ونصل إلى القارئ بشكل فعّال، وأعود لأؤكد بأن هذا لا يعني أن متعة الإمساك بالكتاب وتقليب صفحاته ستزول لأن لهذه المسألة خصوصيتها·
تعاني دور النشر من قرصنة في بعض الأحيان تعرف بها لكنها لا تجد الوقت الكافي وطول البال لملاحقتها، فقد يرى ناشر من مصر مثالاً كتاباً نشرته في لبنان فيعيد طباعته ويبيعه في السوق المصري، ومع علمي بذلك لا أتحرك لتوفير الوقت والتعب على نفسي كدار لديه عناوين محددة، والعكس يحصل أيضاً· وبالتالي فإن عمليات القرصنة تبقى وثمة من يعرف القرصنة على الانترنت ولكن بات لهذا العالم الافتراضي قوانينه وضوابطه، فقد نشر أحد الأشخاص كتاباً نشرته في الدار في موقع على الانترنت فأرسلت إليه إنذاراً فسحب المحتوى ونشر اعتذاراً لمدة أسبوعين· وإلى ذلك، هناك القرصنة على بطاقات الائتمان ولكنها ليست بالقرصنة السهلة ولها أيضاً مفاعيلها القانونية·
وفي كل الأحوال فإن إحصاء عمليات قد تتم في قرصنة على الكتب وما بوسعنا أن نحققه من خلال القارئ الالكتروني، يجعل من الخسائر ضئيلة الحجم وغير مهمّة أمام ما نوفّره للقارئ وللكاتب ولنا كناشرين·
وأنا أشجع على سرقة الكتب، فيا ليت يسرقون الكتب بدل سرقة أشياء أخرى، فنحن بحاجة كي تتحوّل شعوبنا العربية إلى شعوب تقرأ ونعاني الكثير لجعلها تقرأ، وبالتالي فليقرأوا وإن من خلال القرصنة لأن ما نتمناه يكون قد حصل·
تمنيت مراراً أن يتم نشر الكلاسيكيات العربية القديمة مجاناً على أحد المواقع، بمعنى ايجادها كاملة ومجانية، فلا ورثة لهؤلاء مع مضي مئات السنين، ولا حقوق، لكن هذا مجال مؤسسات ثقافية توفر موقعاً مخصصاً لهذه الأعمال من مثل كتاب الأغاني للأصفهاني وألف ليلة وليلة والشعر الجاهلي والعباسي وسواها، خصوصاً أننا نحتاج في عالمنا العربي إلى أن نضع بتصرف الناس ونوفّر لهم ما بوسعنا تقديمه لإغناء ثقافتنا العربية·
المصدر: أبوظبي