إبراهيم الملا
إذا كانت «المعرفة» هي وعاء «العلم»، وهي مهد التجريب والاختبار والاستبصار لتوليد وبعث وتهيئة القفزات الكبرى للتاريخ البشري، فإن إطارها التوصيفي العام - كما تذكر بعض المعاجم الشارحة - يرتبط أيضاً بالبداهة والبحث لاكتشاف المجهول وسبر أغوار الذات وتطوير التقنيات المواكبة للمسار التصاعدي في التجربة الإنسانية المنذورة لعمارة الأرض، وجني ثمار التقدّم، وتحقيق التعارف والتواصل الحضاري بين الشعوب.
أمّا تطبيق هذا المفهوم، وتفعيل هذا التوصيف، فيحتاجان لرؤى وانتباهات عميقة، استشرافية وتحليلية، تقيس وتستقرئ وترصد الواقع المعيشي في بيئة معينة، وتضع مقاربات ومقارنات مع بيئات أخرى أقل أو أكثر نمواً وازدهاراً وارتباطاً بمؤشرات الوعي النوعي، والإنتاج المادي وغير المادي، وقياس مستويات السعادة، والأمن، والاستقرار، والتنوع الثقافي الإيجابي، وتوافر المعايير الاحترافية في التعليم والصحة والحياة المدنية، ورسم وتصميم خريطة الوظائف والصناعات المستجيبة فعلياً لحاجة سوق العمل بمتطلباته الحاليّة، واحتياجاته المستقبلية.
في السياق الفلسفي والتاريخي، يصف أفلاطون المعرفة بأنها: «الإيمان الحقيقي المبرّر»، وعليه يمكن ربط مفهوم أفلاطون للمعرفة بالتوصل إلى الحقائق والاستنتاجات التي يمكن من خلالها الحكم على ظاهرة معينة، أو التنبؤ بنتائج ومآلات إجراء معيّن ، استناداً لمعلومات وخبرات وحوادث شبيهة بظروف ومسببات ومخرجات هذا الإجراء، بينما يصف الدكتور عبدالوهاب المسيري المعرفة بأنها «المتن الكلي والنهائي» مضيفاً أن تعبير الكلية هنا يفيد الشمول والعموم في حين أن النهائي بالنسبة للوجود يعنى غائيته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء.
ولا شك أن امتلاك «المعرفة» لتحقيق الطموحات المتجاوزة للبيئات الأقل ازدهاراً، والوصول لطموحات محايثة وشبيهة بالبيئات الأكثر ازدهاراً، يتطلب صياغة آليات وقوانين واستراتيجيات طموحة بدورها، وواعية وقارئة لشروط «المعرفة» في بعدها النظري، وفي مجالها التطبيقي.
لا تتشكّل «المعرفة» ولا تتبلور، من دون وجود قاعدة بيانات، تفضي إلى حيازة معلومات، والتي بدورها تحرّك الأدوات الذهنية للشروع في المقارنة والمقاربة والقياس، فمن دون هذه البيانات والمعلومات والأدوات تصبح «المعرفة» عمياء وصمّاء وخرساء، تتخبّط في الفراغ، فراغها هي، وفراغ المحيطين بها، وبالتالي تتعطل الدينامية الذاتية للشعوب للتكيف مع سيرورة الزمان وصيرورة المكان، والاستجابة لتحولات العالم برمّته تجاه البنى الأقوى والأصلح والأكثر انتباهاً للتفكير المستقبلي.
ولذلك تقوم الحكومات المستنيرة بإحياء «المعرفة» من داخلها وضخها بطاقة متجدّدة ومتوهّجة على الدوام، حتى يظل وقودها التنويري ماضياً إلى الأمام خلال الخمسين سنة القادمة، وقادراً على مواجهة التحديات الاقتصادية والعلمية والسياسية والسوسيولوجية للثورة الصناعية الرابعة في اعتمادها شبه الكامل على الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتطورة في إنشاء مدن المستقبل الذكية، والشبكات الإلكترونية فائقة السرعة، و«الروبوتات» القادرة على تحقيق أصعب المهمات البشرية في زمن قياسي وبإنجاز نوعي.
صناعة المستقبل
وتعد دولة الإمارات العربية المتحدة، نموذجاً حاضراً وواعداً لحكومات «المعرفة» المعنية بدراسة المستقبل على ضوء الوقائع والأحداث السابقة والراهنة، وذلك استناداً إلى الرؤية الاستشرافية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والتي لخّصها في كلمات مكثفة ومؤثرة تقول: «إن استشراف المستقبل وبناءه لم يعد مفهومًا نظريٍّا، بل هو عامل أساسي يضمن بقاء الدول في دائرة التنافسية العالمية»، مضيفاً سموه: «إن صناعة المستقبل لا تبنى على الاحتمالات، بقدر ما تبنى على وضوح الرؤية والتخطيط والعمل والتنفيذ».
وعطفاً على هذه الرؤية الثاقبة والحكيمة تم إطلاق «مؤسسة دبي للمستقبل» بهدف أداء دور محوري في استشراف المستقبل، وتكوين خريطة طريق تسترشد بها المؤسسة في استشراف مستقبل القطاعات الاستراتيجية على المدى المتوسط والطويل الأجل، وذلك بالتعاون مع العديد من الجهات والمؤسسات في القطاعين العام والخاص، حيث إن المستقبل المشرق لا يأتي فجأة، بل يتطلب استراتيجيات وامتلاك فنون صناعته ومهاراته والاشتغال على تطوير أدواته وتقنياته، والعمل على بناء الأجيال وتطوير القدرات واكتساب المعارف وصقل المهارات الاستشرافية، وهي الأدوار والمتطلبات التي أكّد عليها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي، رئيس المجلس التنفيذي، رئيس مجلس أمناء دبي للمستقبل، في توصيفه للمهمات المنتظرة من مؤسسة دبي للمستقبل.
وتهدف المؤسسة أيضاً إلى تنظيم معارض تفاعلية داخل دولة الإمارات العربية المتحدة وخارجها، بُغية التعرف عن كثب على مستقبل القطاعات المختلفة، بالتعاون مع شبكة ممتدة من الشركاء العالميين، كما تطلق المؤسسة العديد من الاستراتيجيات التخصصية والمشاريع التجريبية، بهدف ترسيخ مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة كدولة رائدة على مستوى العالم.
الأجندة الوطنية لرؤية الإمارات
ومن جهة أخرى فإن رؤية الإمارات الشاملة لتفعيل «حكومات المعرفة»، و«الحكومات الإلكترونية» يمكن استكشافها من خلال الأجندة الوطنية لرؤية الإمارات 2021 والتي ستجعل من الإمارات واحدة من أهمّ الأطراف القوية المساهمة والمستفيدة من التحولات العالمية الكبرى القادمة، ذلك أن المستقبل لا يعترف بالجمود وبالسقف الثابت والحدود المسيّجة، فهو مستقبل يتغذى على تجليّاته، ويتشرّب إلهاماته، وهو قائم أساساً على دعامات مرنة ومتحركة قوامها الجودة والابتكار والإبداع على مستويات عدة، أهمها الجانب الاقتصادي والتقني والسياحي والمهني والتشريعي، وكما تشير مدوّنة الأجندة الوطنية، فإن الإمارات تسعى لأن تكون العاصمة الاقتصادية والسياحية والتجارية لأكثر من ملياري نسمة، وذلك بالانتقال إلى اقتصاد قائم على المعرفة، وتشجيع البحث والتطوير، وتعزيز الإطار التنظيمي للقطاعات الرئيسية، كما تهدف الأجندة الوطنية إلى أن تكون الدولة من أفضل دول العالم في مجال ريادة الأعمال، حيث تواصل دورها في إطلاق إمكانات المواطنين، ليقودوا عجلة التطوير الاقتصادي من خلال تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة في القطاع الخاص، وغرس ثقافة ريادة الأعمال في الجامعات والمدارس.
ابتكارات الحكومة الخلّاقة
تؤكد الأجندة الوطنية على السعي الحثيث للحكومة في توفير الحياة الكريمة للناس وليس فقط تحقيق مراكز متقدمة في التقارير الدولية، ووضع الإمارات في قائمة أفضل الدول في نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي، إضافة إلى رفع نسبة التوطين في القطاع الخاص خلال السنوات القادمة. وفي سبيل تكريس «مجتمع المعرفة» قامت دولة الإمارات بتحليل الإحصاءات ووضع الدراسات من أجل نشر هذا التوجه المستقبلي وتعميميه في الدوائر والمؤسسات والقطاعات الإنتاجية المختلفة، وركّزت هذه الدراسات والإحصاءات على عدة عناصر رئيسية في هذا المجال مثل: التعرّف على نسبة «عاملي المعرفة» مقارنة بإجمالي العاملين في الدولة، ونسبة الإنفاق على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي، ونسبة التوطين في القطاع الخاص، ونصيب الفرد من الدخل القومي، ونسبة صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وقياس مؤشر سهولة ممارسة الأعمال، ونسبة مساهمة الشركات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي، واستشعار وسائل الابتكار العالمي، والاطلاع على مؤشر التنافسية العالمي، وغيرها من المؤشرات المعنية بقراءة المستقبل والواقع المعيشي في مرحلة ما بعد النفط.
إن تجربة ومشروع «ابتكارات الحكومات الخلاقة» الذي دشّنته الإمارات، يحفّز على التفكير بطرق جديدة غالباً ما تكون غير اعتيادية للتوصل إلى حلول مبتكرة لأهم التحديات التي تواجه عالمنا اليوم. وتتلخص الغاية الأساسية من التجربة في عرض أفضل المشاريع المبتكرة في توفير المعلومات وتحفيز التفكير المبتكر من خلال التجربة. ومن هنا يأتي تأسيس مركز محمد بن راشد للابتكار الحكومي لتشجيع وإثراء ثقافة الابتكار في القطاع الحكومي من خلال وضع منظومة متكاملة للابتكار من أجل تطوير العمل الحكومي، وتعزيز تنافسية دولة الإمارات بحيث تكون حكومة دولة الإمارات في مصاف الحكومات الأكثر ابتكاراً على مستوى العالم.
وتشير أهداف ومنطلقات المركز إلى دور وأهمية العقول المبدعة في تقديم حلول وأفكار مبتكرة، ساهمت على مرّ العصور في التغلب على تحديات كبرى وإضافة قيمة حقيقية للنهوض بالمجتمع وتعزيز جودة الحياة، وبالتالي ضرورة ملاحقة التغيير المتسارع والتقدم تكنولوجي الهائل، من خلال مشروع «الابتكار الحكومي» لتبنّي نهج الابتكار والتقدم، واستكشاف سبل جديدة للارتقاء بحياة المواطنين، وتغيير عالمنا إلى الأفضل.
وفي هذا السياق المعنى بحيازة مكانة ثابتة وقدرة واثقة في التعاطي مع التحديات المستقبلية للدول والمجتمعات، نظمت مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة قمماً معرفية متعاقبة، ابتداء من العام 2014، وحملت آخر دوراتها في العام 2018 عنوان: «الشباب ومستقبل اقتصاد المعرفة»، حيث تشكِّل القمَّة منصة معرفية عالمية، تجمع من خلال جلساتها النقاشية وطروحاتها البنَّاءة، نخبة من صنَّاع القرار والأكاديميين والمتخصصين بشتى مجالات المعرفة من جميع أنحاء العالم.
جوائز المعرفة
تعمل وزارة الثقافة وتنمية المعرفة على إثراء القطاع الثقافي في الدولة من خلال دعم المؤسسات الثقافية والفنية والتراثية الإماراتية، وتوفير منصة لدعم المبدعين والموهوبين في مختلف المجالات، والسعي إلى تعزيز الحوار بين مختلف الثقافات، كما تقوم الوزارة بدعم شركائها الاستراتيجيين، بهدف تقديم مخرجات وخبرات فعالة، تعكس المشهد الثقافي المزدهر والمتنوع في دولة الإمارات العربية المتحدة على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي.
وتنظم الإمارات حدثاً عالمياً مهماً هو «قمة إكسبو العالمية للحكومات 2020»، الذي يعد منصة لاستشراف مستقبل الحكومات حول العالم، والبحث في مجالات تقاطع العمل الحكومي والابتكار. وهي منصة لتبادل المعرفة بين قادة الفكر ومركز للتواصل بين صناع السياسات ومجتمع الأعمال والمجتمع المدني، في سبيل تحقيق التنمية البشرية وتفعيل تأثيرات إيجابية على حياة المواطنين في جميع أنحاء العالم.
إضافة لتخصيص الإمارات لجوائز المعرفة من خلال مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، بهدف تشجيع المعنيين والعاملين في مجال المعرفة، وتحفيزهم على الإبداع والابتكار في تطوير مسارات نقل ونشر وإنماء المعرفة حول العالم، وتمنح الجائزة سنويّاً، وفق مرسوم تأسيسها إلى أصحاب المساهمات المتميزة في مجال المعرفة، وتقدَّم أثناء فعاليات قمة المعرفة.
أما «متحف المستقبل» فيوضح لزواره مآلات تطور التكنولوجيا المستقبلية على نحو يعزّز من كفاءة أجسامنا وعقولنا، ولتستكشف الدور المحوري الذي يمكن أن تؤديه التكنولوجيا في كلّ من حياتنا الاجتماعية والأسرية، وكيفية الاستفادة من التكنولوجيا في إدارة النظم الاجتماعية والاقتصادية والصحية والتربوية، ويركز المتحف على مستقبل قطاع الروبوتات والذكاء الاصطناعي وتأثيرها على حياة الإنسان. كما يوفّر المتحف لروّاده تجربة تفاعلية فريدة من نوعها تمكّنهم من إلقاء نظرة وثيقة على مستقبل هذا القطاع.