يقول الكاتب والباحث سعيد حمدان: لم يعد الكتاب وحده سبيل العلم والمعرفة في عصرنا، بل نشرت ثورة الاتصالات أمامنا طوفانا من المعارف والمعلومات، وإن كان واجب الأمانة العلمية يفرض علينا الانتباه والحذر، حيث لا يمكن الركون والاطمئنان إليها جميعا، لأن فيها الكثير من المغالطات والخرافات والخواطر الارتجالية ونزعات التجريب والتلفيق. لكن بعض ما تعرضه هذه المواقع الإلكترونية الجادة لا يخلو من فائدة علمية وزاد معرفي سليم ويمكن الوثوق به، ولا يمكن الاستغناء عنه ما دام متوفرا وفي متناول أيدينا، وهو موجود في هواتفنا المحمولة ويمكن الاطلاع عليه في أي وقت وفي أي مكان. وهذه ميزة هامة لصالح المواقع الإلكترونية، لأن الكتاب الورقي لا يتوفر دائما، كما أن النسخ المطبوعة منه محدودة العدد. إن قراءة صفحات الوسائل الإلكترونية أصبحت أسهل بكثير حتى في مجال توفير أي كتاب، وفي أي مجال علمي أو فني أو أدبي، ويمكن أن نطبعه في مكاتبنا أو بيوتنا.. وبكلفة أقل، وخاصة أن حقوق الملكية أصبحت مكفولة على مستوى عالمي.
تطور التقنيات
حول مفهوم المعرفة في زمن النشر الإلكتروني، يضيف سعيد حمدان: هذا سؤال إشكالي يتطلب منا أن نعيد تعريف المعرفة في هذا الزمن حسب معطياته وبناء على اهتماماتنا وحاجاتنا وشغفنا، ومن جانب آخر تعريف هوية الإلكتروني، أي ما هي التقنيات الحديثة التي لها الغلبة في هذا الزمن وسيطرت على حياتنا وإلى أي حد هذه السيطرة؟ ماذا أخذنا من فضاء التقنيات وتطورها، ومدى استيعابها أوحجم تحكمها بحياتنا؟ نحن قزّمنا مفهوم المعرفة في هذا العصر واختزلناها في معرفة ما نريد أن نعرفه من ظواهر ومظاهر تهمنا، حسب رؤانا ورغباتنا. لقد انغلقنا كأشخاص في معرفة السهل ورضينا بدور المتلقي، ولأن نظرتنا أو حاجتنا من المعرفة حددناها في هذه الرغبات وهذه الأطر، فهذا انعكس كذلك على مفهومنا وتعريفنا وكذلك احتياجنا من زمننا هذا الإلكتروني. لا شك أن اختراع التقنيات وصل إلى مدى تجاوز قدرة العقل البشري على استيعابه أو مواكبة تحديثاته.
وهنا يلفت حمدان إلى مكمن الخطر والتقصير وضرورة المبادرة لتلافي ذلك متسائلا: لكن نحن، أين وصلنا في هذا المدى؟ ماذا استوعبنا وماذا استثمرنا من تقنياته في تطوير حاجتنا من المعرفة وقدراتنا؟ المتتبع لوسائط الإعلام الاجتماعي والمشاركات العربية فيه - وأركز حديثي هنا على هذه الوسائط لسبب وهي أنها الأهم، لأنها اقتحمت أو ارتضينا بها في حياتنا المعاصرة، ولأنها الحالة التي يسهل دراستها، فمؤشراتها وأرقامها وتجلياتها دقيقة وواضحة، فيمكن للشخص أن يقيسها حتى على المستوى الفردي من خلال هاتفه الشخصي. يلاحظ المتتبع أنها أصبحت مصدرا للمعلومة والمعرفة، ومنها نتعلم ونتسلى أيضا، وهي التي تحاصرنا ولا يمكننا أن نستغني عنها طوال اليوم - تخيل لو حدث عطل في هذه الشبكات لمدة ساعة فقط، تخيل ضجيج العالم وردة فعله وحالة الكآبة التي يكون بها!
ويضيف حمدان مشيرا إلى مواقع الخلل في (الصرعات) الدارجة قائلا: من خلال القياس عليها، نتعرف كيف أن الأغلبية يمكن أن تنساق خلف إشاعة أو عصبية دينية أو قومية أو غيرها، وكيف أن ما اصطلح على تسميته (الفاشينستات) ذكورا أو إناثا أصبحوا هم من يقود المشهد وهم من يصنع (المعرفة) بين قوسين- والتي هي في حقيقتها هنا جهل مركب، وكيف تحول هؤلاء إلى مشاهير وقدوة لأجيال من مختلف المراحل العمرية، مع ضحالة وسوء وتفاهة ما يقدمه أمثال هؤلاء (الفاشينستات). لهذا أصبحت حدود معرفتنا مرتبطة بفضاء ما يقدمه أمثال هؤلاء، ولهذا فإن الزمن الإلكتروني استوعبنا منه - على عظمة واختلاف وتطور ما فيه - فقط: تقنيات (السوشيال ميديا) وكيفية الوصول إلى أكبر عدد من المتابعين وذكاء إحجام الآخر وإسكاته أو تأييد من يعجبني هواه ومقاطعه المصورة أو تغريداته أو شراء وتسوق كمالياتنا!
ويتأمل سعيد حمدان المشهد العربي من جميع جوانبه، فيبين ذلك شارحا: طبعا هذا لا ينطبق على الجميع، ولكنه أصبح ظاهرة مجتمعية عربية يسهل قراءتها ومقارنتها، مع وجود مبادرات رائدة وتفكير (خارج الصندوق) لتنمية المعرفة ومحاولة تطوير قدرات الفرد تقوم بها بعض الحكومات والمؤسسات المعنية، كما هي دولة الإمارات مثلا.
ويبقى السؤال كيف يمكن الاستفادة من وسائل المعرفة الحديثة بالنسبة للكاتب والقارئ، يجيب قائلا: ذلك يعتمد عليهما معا، فالكاتب عليه أن يعيش العصر وحالة المجتمع لا ينغلق أو يصعد البرج العاجي، عليه أن يكون منهم ويستثمر القنوات والتقنيات لتكون شبكة وصل وتواصل وتحقق له المنفعة من إيصال المعرفة أو مشروعه الكتابي إلى شريحة واسعة من القراء. ونجاح الكاتب هو أن يصل في كل مرة إلى جمهور وشرائح أكبر. والقارئ أيضا دوره أن يحسن الاختيار فيما يريد أن يقرأ، ليس كل مديح قد تجده في شبكة (السوشيال ميديا) يعني أن المؤلف أوالكتاب مميز ويضيف لك معرفة وأنه هو الأفضل، اختيار المنصات القوية والجادة عملية مهمة تساعد القارئ في الحصول على الأفضل.
مكانة الكتاب
ونظرا لطغيان وسائل التواصل، كيف يرى الباحث سعيد حمدان مستقبل الكتب الورقية؟، يقول: إذا اعتبرنا أنها مهددة، فالجميع شركاء في هذه الحالة. إذا القارئ عزف عن الكتاب الورقي فمعنى ذلك أن هناك محفزات أو مجالات أخرى استقطبته، وهي هنا منصات التواصل الاجتماعي والتي هدت قبلها عرش الصحافة الورقية مثلا. الإعلام إذا غيّب عرض الكتب الجديدة، وأهمل النقد الجاد أسهم في عزوف القراء وتشجيعهم على القراءة. الناشر إذا أثقلته زيادة تكلفة صناعة الكتاب وسوء توزيعه فإنه سيغلق مشروعه ويتوقف عن إصدار الكتاب الورقي أو تقليص حلمه في أن يصدر مثلا 50 كتابا في العام الواحد، فيكتفي بـ10 كتب مثلا. والأهم في صناعة الكتاب هو الكاتب، أين هو الكاتب (الكبير) أو المهم والغني معرفيا الذي يمكن أن يجعل القارئ ينتظره ويبحث عنه باستمرار، كما هو في عصر الكبار الذي عشناه جميعا، شدتنا وألهمتنا وعرفتنا تلك الكتب وما نزال نعيد قراءة روائعهم في كل حين وزمن. إن الكتاب العميق الغني بمحتواه، والمؤلف المتميز الذي يشتغل على نفسه أولا وعلى مشروعه المعرفي نحتاجهما بقوة في عالمنا العربي حتى نعيد للكتاب مكانته.
نجاح الإمارات
وحول ما تقوم به الإمارات في مجال نشر المعرفة الحديثة وتوفير وسائلها، يقول سعيد حمدان: دولة الإمارات تعمل وفق استراتيجية واضحة المعالم، ورؤيتها مداها إلى ما بعد 50 عاما المقبلة في بعض القطاعات. والذي يحدد هدفه ويعرف ما يريد يسهل عليه أن يصل، وبالتأكيد سينجح لأن خطوته الأولى كانت نظامية وواضحة ودقيقة.
ويؤكد الباحث أن مشروع الإمارات المعرفي يطول الحديث حوله، اختصره في نقاط يحتاج كل منها إلى دراسة متعمقة، فكيف جعلت هذه الدولة من الإنسان أولوية ومحورا لكل بناء وتطور، وسخرت كل الإمكانات لرفاهيته وعيشه الكريم وتنمية قدراته ومهاراته، هذا هو صلب المعادلة.
وفي الختام يلفت حمدان النظر إلى أهمية المشاريع التي تقوم بها الإمارات معددا نماذج من هذه المشاريع والمبادرات مثل: السعادة، قانون القراءة، شهر القراءة، التسامح، رمزية استحضار اسم ومآثر وقيم الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومفهوم الخير في كل عمل نقوم به، الفضاء، حلم الوصول إلى المريخ، تحدي القراءة للعرب جميعا، الترجمة، السلام للإنسانية، العدالة، محاربة التطرف بأشكاله، الانفتاح على ثقافات العالم، الاهتمام باللغة العربية.. هذه لم تكن شعارات أطلقتها الحكومة في مراحل مختلفة، بل هي جزء من استراتيجية واضحة، ولكل منها برنامج وخطة عمل ملزمة. وفي تاريخ الدول المعاصرة التي نجحت خلال عقود محدودة في أن تقوى وتكبر وتتطور وتقود كاليابان وماليزيا وسنغافورة، على سبيل المثال، ذلك لأنها فكرت وعملت بطريقة مختلفة، اشتغلت بالتنمية وطورت نظمها الإدارية، واحترمت القانون، وقدرت عقل الإنسان واهتمت بالمعرفة. وهكذا هي الإمارات اليوم تنظر إلى المستقبل الأفضل والأقوى وتسعى له بقوة وثبات.