محمود إسماعيل بدر (أبوظبي)
مرةً بعد مرة، يدهشنا «اللوفر أبوظبي» بأحداثه الكبرى، حيث يقدّم لجمهوره وللعالم معرضاً استثنائياً يتضمن 80 عملاً لكبار مبدعي التّشكيل الطّليعي في القرن العشرين، تحت عنوان: «لقاء في باريس: بيكاسو وشاغال وموديلياني وفنانو عصرهم – 1900 – 1939»، مستحضراً صخب العاصمة الفرنسية «باريس» في تلك الحقبة الزاخرة ثقافياً.
وتتماهى مبادرة «لوفر أبوظبي»، مع كل الاتجاهات الإبداعية العالمية، ونشر الثقافة البصرية الرفيعة على أوسع نطاق، ما يوحي أننا أمام مشروع ثقافي متميز ومتأصل لمركز حضاري، فاقت إنجازاته في وقت وجيز كل التّوقعات من حيث الانفتاح على ثقافات العالم، كما أنّه يفتح الفضاءات الرّحبة لدراسة التجارب والأعمال الخالدة لفنانين عمالقة، وهو ما سيفرز لنا ضمناً زخماً كبيراً ونسيجاً تشكيلياً ينعكس بقوة على المشهد التشكيلي الإماراتي، بل وسيتقاطع معه بشفافية.
وبحسب الفنان التشكيلي والمسرحي الإماراتي، الدكتور محمد يوسف، فإن التشكيل الإماراتي استطاع أن يفرض حضوره عالمياً، من خلال وصول المبدعين الإماراتيين إلى أهم وأرقى مهرجانات التشكيل العالمية، وأنّه بوجود متحف اللوفر، الذي يستقطب الحدث، أعتقد أن البنية التحتية الفنية أصبحت متكاملة، وأن الحوار مع أعمال التشكيليين العالمين من مختلف العصور والاتجاهات والمدارس أصبح ممكناً، ويشكل جسراً لتواصل الحضارات الثقافي فعلياً.
في السياق، عبّر التشكيلي الإماراتي عبد القادر الرّيس، عن تقديره لمبادرة اللوفر أبوظبي، باستقطاب المعرض العالمي، وتكريس تجربة بناء الثقافة الجماهيرية، والتعريف بكلاسيكيات الثقافة في مجالات التشكيل والفنون العالمية الأخرى، وأن ذلك بلا شك سينعكس إيجاباً على المشهد الثقافي المحلي، وتحقيق حوار التجارب المنشود من اللون والريشة والخامة والمضمون الرفيع.
يسلّط المعرض الضوء على إبداعات الفنانين الذين هاجروا إلى فرنسا في النّصف الأول من القرن العشرين، وذلك بالتعاون مع «مركز بومبيدو» و«وكالة متاحف فرنسا»، حيث نلتقي مع أهم أعمال الّرسام والنّحات الأسباني «بابلو بيكاسو 1881 – 1973»، وأهم إنجازاته بابتداع أسلوب جديد في الرسم استوحاه من الفن الأفريقي، بحيث تتغير مقاسات وأشكال عناصر اللوحة، لكنها تحتفظ بخصوصيتها الجمالية، وتعد جداريته «جرنيكا» من أشهر أعماله تحت مظلة المدرسة التكعيبية، بجانب لوحته الشهيرة التي يضمها المعرض، بعنوان «من أجل روسيا والحمير والآخرين»، و«امرأة جالسة على كرسي أحمر«1932»، التي تصور ملهمته المصورة «دورا مار».
ويطل علينا الفنان «مارك شاغال – 1887 – 1985» أهم رواد الحداثة بأعمال من أهم سماتها تلك المسحة السوريالية الفانتازية التي تخاطب اللاوعي، وميله إلى تضمين لوحاته ببعض اللمسات الشاعرية، والتي تبدو في أشهر أعماله بعنوان «العروس»، وتصور فتاة في ثوب زفافها الأحمر، وبيدها باقة ورد، والجانب الفانتازي في المشهد يبدو جلياً في صورة الخروف الذي يعزف الموسيقى، والسمكة التي تضرب على ما يشبه الدفّ، والرجل الواقف عند رأس الفتاة محاولاً في ما يبدو تعديل الوشاح على رأسها لجعلها تبدو في أحسن منظر.
وينفرد الرسام والنحات الإيطالي «إميديو موديلياني 1884 – 1920» برسم الوجوه «البورتريهات» وبخاصة لأصدقائه من الرسامين والكتّاب، ومنهم الفنان المكسيكي «دييغو ريفيرا – 1886 – 1975»، وتمثال «المرأة» الذي يخلد فيه روعة الإحساس بالجمال الفطري. وللتشكيلي الأسباني «خوان غريس 1887 – 1927» مساحة في المعرض، وهو الذي أسهم بقوة في تهيئة مرحلة التصوير التكعيبي الثانية المرسومة بالتكعيبية التحليلية وتطويرها، مثل عمله الشهير «بورتريه بابلو بيكاسو عام 1912»، وهي الآن من مقتنيات متحف الفن في شيكاغو.
في هذه التظاهرة، ثمة أسماء كبيرة ولامعة، وتصب معظمها في دائرة الشاعرية اللونية في البناء الهندسي للوحة، من أمثال الفرنسي «شايم سوتين 1893 – 1943»، الذي طوّر أسلوباً فردياً أكثر اهتماماً بالشكل واللون والملمس على التمثيل، والذي كان بمثابة جسر بين الأساليب التقليدية وبين التجريدية والتعبيرية، والروماني قسطنطين برانكوزي « 1876 – 1975»، والبولندية «تمارا دي ليمبيكا – 1899 – 1980»، صاحبة رائعة «فتاة بثوب أخضر» (1927)، وغيرهم من أمثال ديلدني وليبتشيز، وعباقرة فن القرن العشرين، الذين يجلبون معهم تاريخهم وسيرتهم مع الإبداع واللون والريشة والمضمون الإنساني الفكري الرفيع، ويحطون رحالهم في الإمارات لتحقيق الاتصال والتواصل الإنساني عبر اللوحة.
ويبقى الحديث عن اللوفر أبوظبي متصلاً بفخر واعتزاز، ليس عن المبنى الذي يشكل قبلة فنية وتحفة معمارية حديثة وواجهة مشرفة للعاصمة أبوظبي إقليمياً ودولياً، بل عن مشروعه الثقافي الإنساني والحضاري بالدرجة الأولى، نحو نمو وتجدد ثقافي من الأصالة الجمالية وإبداع الإنسان على الأرض، وأن في استحضار هذه النخبة من مبدعي التشكيل من القرن العشرين، ما يؤكد على تبنّي الجهات الرسمية في الدولة لمشاريع ثقافية رصينة تقوم على أساس فكري، يوضح القيم الأفكار والمشاعر الإنسانية المشتركة التي تتجاوز الحواجز وثقافة التشدد والكراهية، إلى نموذج ثقافي منفتح، بلغة عالمية وهوية إماراتية.