إبراهيم الملا
يجمع كتاب «قصتي» الصادر حديثاً لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، بين الأسلوب السردي بما يملكه من واقعية ورصد واستقصاء، وبين الأسلوب الانطباعي بما يختزنه من استخلاصات ورؤى وأنساق تعبيرية آسرة تقارب الشعر والنثر معاً، وذلك ضمن متواليات السيرة الذاتية (الأوتوبيوغرافي) الموصولة بسيرة شعب وتطلّعات وطن.
يتعزز الكتاب كذلك بوثائق بصرية نادرة، تضيف زخماً حميمياً لدى القارئ، من خلال الاستئناس بمزايا الصور الملحقة بالسيرة، أو ما يعرف بالفوتوبيوغرافيا، فهي تعمل على تجسيد المتخيّل واستحضار ملامحه، وتكوين أطر مشهدية تحيل الأثر المتلاشي إلى صورة حيّة وناطقة وريّانة، وذلك من جهة الاحتكام لذاكرة ترصد الدهشة الأولى، والانطباعات الشخصية، والتفاصيل الدقيقة، منذ طفولة ترعرعت في حضرة الخيل والليل والبيداء، وحتى فترة يفاعة انطوت على الكثير من المغامرات والتحديات المحاطة بنضج مبكر ونظرة فاحصة للأمور، وصولاً إلى حيازة الشخصية القيادية الجامعة بين الجسارة والحزم عند اتخاذ القرارات الحاسمة في الأوقات الصعبة والأزمات الحرجة، وبين الرفق واللين والتودد عندما تسكن الأوضاع، وتعود الحياة إلى طبيعتها الوادعة، المشبعة بالهدأة والتأمّل، وما يلي ذلك من استبصار، ونزوع للحكمة والتروّي، والتزود بالخبرات والمعارف الجديدة، في زمن وثّاب ومتطور ومتسارع لا ينتظر الماكثين والقابعين في هوامش الدرب الطويل، احتفاءً بكسب مؤقت، أو انتظاراً لوعد قد لا يتحقق.
ذخيرة اختبار
استند الإصدار الجديد لسموه إلى الخطاب بضمير المتكلّم، الأقرب للحوار الداخلي، أو المونولوج الاستبطاني، ولكنه حوار غير منقطع أيضاً عن شخصيات وأمكنة لها حقلها الدلالي الخاص بما تحوزه من مساحة، وبما تملكه من ثقل في حضورها وبعد غيابها، مسترشداً سموه بالكتابة داخل سياق الحياة واحتدامها وليس من خارجها، لأنها كتابة تنبع من ذخيرة اختبار ودربة ومران وانشغال واشتغال حقيقي وملموس مع ظروف الواقع وتقلباته، ومع تفاصيل قريبة وأخرى بعيدة تمس الذات والمكان، وتموج فيها الاستعادات، وقسوة الطبيعة، وصعوبة البدايات، وما تلاها من تحولات اجتماعية، وتبدلات اقتصادية، وانعطافات سياسية، على مدار خمسين عاماً، قضى سموه جلّها في مجابهة تحديات كبرى تتعلق ببناء أركان دولة ناشئة يعوزها التماسك والتوحّد، والحفاظ على كيان وطن آخذ في الانبثاق والتشكل والانوجاد، وهي كتابة تنضح بوعي شخصي يتأسس على التفكير الجدّي في المستقبل بنظرة تستشرف مآلات هذا المستقبل بمفاجآته وتحدياته وأسئلته، استناداً إلى عبر ودروس يضعها الماضي أمامنا، مثل مختبر للحواس والأذهان كي تنظر فيه وتحلّله، فتقيس أخطاءه كي لا تتكرر، وتبحث في سلبياته كي لا تعود بنا الخطوات إلى الوراء، وهي نظرة لا تغفل أيضاً المعاني الجليلة والإيجابية التي يختزنها الماضي وشخوصه الكبار، من أجل اعتمادها رصيداً وعوناً وزاداً لتفكيرنا الجمعي بالمستقبل.
اعتمد سموه في تسلسل القصص وتتابعها على منهجية لا تخضع للترتيب الكرونولوجي بشكل صارم، بل أتت هذه المنهجية الزمنية المبتكرة من وحي الانتباه والاشتياق معاً، انتباه لأحداث معينة كان لها أثر محوري في تغيير الظروف والوقائع، واشتياق لوجوه وشخوص وحالات وذاكرات ما زالت رغم غيابها ورحيلها تنبض وتتنفس وتتوافد على مسكن الروح، تلك الروح التي لا تتلف ولا تذوي ولا يستطيع الزمن مهما نأى وبعد، ومهما استشكل واستصعب أن يعطّل توقها للعنفوان والجموح والألق.
لحظة فارقة
ولعل في مقدمة الكتاب ما يشي بهذا التوق، وبهذا الشغف والانجذاب تجاه تأبيد اللحظة الفارقة والاستثنائية التي شهدت ولادة دولة جعلت من الطموح نهجاً وطريقاً، ومن كسر المستحيل غاية وهدفاً، ومن خدمة الناس واجباً ومطلباً، لذلك يذكر سموه في المقدمة التي وصفها بأنها -مقدمة لابد منها- أن كتاب «قصتي» يتضمن سيرة غير مكتملة، أراد لها سموه أن تكون بداية لكتابة جزء من تاريخ دولتنا، كي نخلده للأجيال القادمة، ويضيف سموه في إشارة ملؤها التمني والامتنان والوفاء المتبادل:
«سيقولون بعد زمن طويل، هنا كانوا، هنا عملوا، هنا أنجزوا.
هنا ولدوا، وهنا تربّوا.
هنا أحبّوا، وأحبهم الناس.
هنا أطلقوا ذلك المشروع، وهنا احتفلوا بإتمامه.
من هنا بدأوا، وهناك وصلوا في سنوات معدودات».
وفي هذه المقدمة أيضاً ما يعزز خطة الكتاب وتوجهه عندما يؤكد سموه ضرورة تعميم الخير والنفع على الناس، باعتبارهم الهدف والمقصد، فمن أجلهم يعمل القادة والحكام، ومن أجل توفير أمنهم ورفاهيتهم تتشكل هذه العلاقة الإنسانية الرفيعة في تطلعاتها وتوجهاتها وخطط عملها، لذلك يقول سموه في المقطع الأخير من المقدمة: «نفتش دائماً عن الإنسان في الإنسان ونبنيه، ونزرع الخير دائماً للناس، وننفعهم، لا توقفنا أزمات، ولا تبطئنا عقبات، ولا نلتفت لمشكّك، ولا نستمع لمتردّد، هذه طريقتنا في بناء بلادنا، كما سترون من خلال هذه المحطات، في هذه المحطات كلمات بسيطة، أودعتها قليلاً من حكمة، وكثيراً من محبة».
فالكتاب يقوم إذن على قاعدتين ذهبيتين هما: الحكمة والمحبة، الحكمة بما هي موجزة وعميقة، والمحبة بما هي ممتدة ووفيرة، حكمة يختتم بها سموه كل قصة أوردها في الكتاب وأتمها بالوصايا العشر في الصفحات الأخيرة، ومحبة اعتنى بها ونشرها في المتن والهوامش، وفي الزوايا والأبعاد التي تضمنها هذا «السفر الوطني» المحتشد بالآمال والأحلام والرؤى، وبنفحات الطاقة الإيجابية، ودفق النزعة التفاؤلية للوصول إلى المصاف العالية والقمم الشامخة والمراكز المتقدمة، من أجل أرض ترنو للأفضل، ودولة تصبو للأكمل، وشعب يستحق الأجمل، وقيادة ملهمة تؤكد هذا الاستحقاق وتصرّ على استمراره واستدامته.
موكب الحنين
تنطلق القصة الأولى في الكتاب، والتي حملت عنوان: «من هنا بدأنا وهنا وصلنا» من الحاضر، وتحديداً في السادس من ديسمبر 2017 مع بلورة مشروع يحركه الإلهام والطموح أكثر من أي شيء آخر، وهو مشروع إرسال أربعة إماراتيين إلى الفضاء الخارجي، واستكمال أكبر مشروع عربي وإسلامي من نوعه، والذي يشير سموه إلى أنه يشكّل مع بقية المشاريع منظومة فضائية إماراتية متكاملة تتضمن: رحلة إلى المريخ، وتأهيل رواد فضاء إماراتيين، وإطلاق أول مدينة على الأرض تحاكي الظروف المناخية للكوكب الأحمر، وبناء أول مجمع عربي لتصنيع الأقمار الصناعية بالكامل، وإنشاء مركز للفضاء، ووكالة اتحادية لتنظيم القطاع، واصفاً سموه المشروع بأنه يبعث على الفخر والسعادة.
ومن خلال الربط الذكي بين الأمل في المستقبل والانشغال بالحاضر والالتفات للماضي، يقول سموه: «لا أدري ما الذي دفعني يومها للتفكير في البدايات المتواضعة والجميلة أيضاً»، ليصطحب القارئ بعدها في موكب من الحنين الوارف والمتضامن مع لواعج الشجن والذكرى الشفيفة، إلى بيت جده الشيخ سعيد في منطقة «الشندغة» بدبي، مستعيداً وقع النسمات الباردة، وهي تمسح الجدران الطينية، وتتخلل الحجارة المرجانية، وتزور غرف البيت المضاءة والمتلألئة بالطلة الحانية للجد، والمستقاة من طيبته وإيمانه الكبير.
يعود سموه في القصة الأولى من الفضاء الواسع والمشاريع المستقبلية الضخمة إلى مهبط الطفولة، ومدارج الإدراك المبكر عندما كان في التاسعة من عمره وسط منزل لم يكن صغيراً في حجمه، بقدر ما كان كبيراً بساكنيه وعامراً بشاغليه، كيف لا، وهو يحتضن روح وعقل وجسد الشيخ سعيد، المؤسس الأول لنهضة دبي والمشارك في صناعتها «الذي وسّع آفاق التجارة في دبي، وفتح الأبواب للجميع، وأدخل الكهرباء، وتضاعف عدد السكان في عهده ثلاث مرات»، وساهم في تنويع مصادر الدخل للإمارة، بعد انهيار تجارة اللؤلؤ في أواسط الثلاثينيات من القرن الماضي، كيف لا، وهو الذي لم يحكم الناس بالخوف، بل بالمحبة والرحمة، وعند انتقاله للرفيق الأعلى، ودّعته الجموع الغفيرة ورافقته الحشود الكبيرة إلى مثواه الأخير، بعد أن علّم أبناءه وأحفاده خدمة الناس، فصار هؤلاء الناس أكثر المفتقدين له، وأكثر الداعين له بالثواب والرحمة.
«النوم مع العقارب»
وفي القصة التي حملت عنوان: «النوم مع العقارب»، يستكمل سموه سيرة الطفولة المتشكلة في فضاء السؤال والدهشة، فيرتحل بنا إلى الصحراء، وتحديداً عند أحد شيوخ المناصير، وهو «حميد بن عمهي»، ليتعلم منه فنون الصيد واختبار الصبر وقراءة العلامات والدلالات والإشارات الظاهر منها والخفي، في براح مفتوح على التيه، وبتلافيف ليل لا تعرف من أين يأتيك فيه الخطر، وسط طقس يتمايز بشدة بين الصيف والشتاء، وتختلف أحواله بعنف بين ظلمة وسطوع، وبين جوع وظمأ، بحثاً عن طرائد تستقوي بها الأجساد، ومياه تطفئ حرّ الأكباد، ويقول سموه في وصف هذه الأجواء الغريبة على سكان البحر والمدن: «بعد يوم مليء بالصيد ودروسه، كنا نجتمع حول النار للعشاء والحديث الذي لا يملّ، ذكريات ما زالت محفورة في ذاكرتي بجمالها وشغفها وحتى بآلامها»، مضيفاً: «كنت أستيقظ في الليل مرات عدة من لدغات عقارب صغيرة، فيأخذني حميد إلى النار، ويضع الرماد على أماكن اللدغات لينحسر السم ويسهل امتصاصه».
وفي نسق سردي متدرّج يأخذنا سموه إلى ذروة المشهد في بوح يختزن الدهشة والمفاجأة عندما يذكر لنا أن العقارب الصغيرة وضعت في فراشه بشكل متعمد حتى يكتسب سموه المناعة ضد لدغات عقارب الصحراء المميتة، وهو ما حدث فعلاً في الواقع بعد سنوات طويلة من تلك الحادثة العجيبة، ويختتم سموه القصة بمقولة معبّرة عن مغزى تلك الحادثة وهي: «نعم، ليس كل ما يؤلمك هو شرّ، أحياناً فيه الخير، وفيه الحماية لك» وأن: «عقارب الصحراء أهون من عقارب البشر»، خصوصاً الوشاة والنمامين منهم لأن النمائم والوشايات كما يرى سموه تدمّر العلاقات، وتخرّب روح الفريق الواحد، وتفسد القلوب، وتوغر الصدور، وتحطم المعنويات في المؤسسات، وتقلل من حجم الإنجازات، وتركز فقط على السلبيات، ويصف سموه تلك العقارب البشرية بأنهم أشخاص لا يذكرون خير الناس، ولا الحسنات، هم أصحاب وجهين: لا يدفعهم للنميمة إلا الحسد.
ليترحم سموه بعد هذه القراءة العميقة للطبائع البشرية على حميد بن عمهي الذي علمه في تلك الصحراء القاسية قيمة الوفاء لمن علمك حرفاً، فكيف إذا علمك هذا الشخص درساً يمتد على طول الحياة وعرضها.
حضور الوالد
وفي القصة المعنونة بـ: «علّمني والدي، عندما كنت صغيراً»، يستعيد سموه حضور المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد، معلمه الأول، وصاحب الصوت الهادئ والدافئ والقريب من النفس الذي استشعر معه وبه جمال وهيبة ورقة الخيل عندما كان يصطحبه معه على خيله في جولاته الصباحية في المدينة، ويقول سموه عن تلك اللحظات الأثيرة: «أبي والخيل ودبي، هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي، أبي والخيل ودبي، هي ذاكرتي التي ستبقى معي إلى النهاية، الخيل تجمع العزة والأنفة والرقة والقوة في الوقت نفسه، وكذلك أبي وكذلك دبي»، ويمكن أن تستخلص من هذا الربط الوجداني والوصل العاطفي بين الأب والمدينة والخيل أن ثمة اقتراناً أو عروة وثقى تمتزج فيها عناصر الوفاء لأهل الوفاء، والرغبة في التنمية، والحلم الدائم بالصدارة وحيازة المراكز الأولى، وهي العناصر الثلاثة التي شكلت الشخصية القيادية لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، شخصية انطلقت من قراءة خطوط رمال الصحراء في الصغر، إلى قراءة الخارطة المستقبلية لوطن بأكمله، وقراءة تطلعات شعب لا يعرف حدوداً للنجاح، ولا يتوقف عند سقف ثابت للجموح والابتكار والجودة والتميّز.
وفي سياق الوفاء والاستذكار، يشير سموه إلى أن والده علمه قبل الثامنة من عمره طرائق العيش في الصحراء مع هوامها ودوابها، مع ذئابها وغزلانها، مع بردها وحرّها وتقلباتها، وبعد الثامنة علّمه كيف يعيش في المدينة مع البشر، وفي كلا المكانين كان تفسير الجمال والقسوة لديه يتأرجح بين ضفتين، إحداها تسكنها كائنات لا تفترس إلا عندما تجوع، وفي الضفة الأخرى كائنات مغايرة قد تفترسك في كل وقت وبلا مبرر!
ويتوج سموه سيرة الطفولة باللجوء إلى المحل الأعلى، والحضور الأبهى، والمقام الأسمى، وهو مقام والدته الشيخة لطيفة بنت حمدان بن زايد آل نهيان، التي ينطق اسمها بصفاتها، فهي الرقيقة والرفيقة والنادرة التي تشرح الصدر، والتي كانت محبتها عظيمة لجميع أبنائها، ولكن سموه كان الأقرب إليها، ولا تزال رائحة الخبز التي كانت تعده في البيت تفوح في الصباحات الباكرة وتختلط مع خلطات الأعشاب الطبية التي كانت تمنحها لمن يحتاجها، فهي صاحبة القلب الكبير والطبع الوثير. ويسترسل سموه في وصفها قائلاً: «أمي أجمل الملكات، كانت أمي أطول النخلات، كانت إذا تمشي يرافقها غزال، وتتبعها عناية الرحمن»، عطفاً على إيراده لقصيدة نزار قباني في رثاء شريكة حياته بلقيس.
إنه أيضاً عهد الوفاء الذي يتكرر مع الأقربين، فكيف بالقريب إذا كان هو حبل الوريد ذاته، إذا كان هو الأم التي: «ابتسامتها حياة، وهي أجمل ما في الحياة»، حسب وصف سموه لوالدته الراحلة والعزيزة والأثيرة التي لا تكفي السطور لوصفها، ولا الصدور لاحتوائها، وعن ذلك الحزن الكثيف في لحظة فقد الأم يقول سموه: «تغير بيتنا بعد رحيل أمي، تغيرت حياتنا بعد رحيل الشيخة فاطمة بنت حمدان، عندما يرحلون، ينطفئ شيء ما في حياتنا وفي بيوتنا، عندما يرحلون، تتغير ملامح الطرقات والبيوتات والوجوه».
إنها الكلمات التي لا يسعفها شعر ولا نثر، ولا يكشف خباياها سرد ولا روي، لأنها لا تفي الحزن حقه، ولا تصل ما انقطع، فهي تستجدي ما لا حيلة ولا طاقة له على الإجابة. وتستغيث بالعاجز عن إغاثة اللهفان.
أزمات واختبارات
يكشف سموه في الكتاب عن الكثير من الحوادث والأزمات التي شهدها في مراحل مختلفة من حياته، وفي كل مرة كان يخرج من هذه الأزمات وهو أصلب عوداً وأقوى شكيمة وأكثر عزيمة من ذي قبل، وأكثر خبرة ودربة في التعامل مع الأزمات اللاحقة، فمن المشاهد التي لم تغادر ذاكرته، مشهد احتراق سفينة «دارا» التابعة لشركة الملاحة البريطانية في ليلة الثامن من أبريل عام 1961 بعد هبوب عاصفة أدت إلى انفجار قوي في أسفلها، وهي العاصفة ذاتها التي حطمت بيوتات كثيرة في دبي والإمارات الأخرى، وأسفرت عن قتلى وجرحى، سواء على البرّ أو في عمق الماء، وعن تلك الحادثة يقول سموه: «تعلمت ألا أستهين بالطبيعة أبداً، وتعلمت كيف يدير القائد أزمة مفاجئة، وأكثر شيء استوقفني، وما زال، أن أبي بدأ بنا نحن أبناءه وأبناء عمي لإرسالنا لإنقاذ الغرقى في البحر الهائج، قبل أن يرسل أحداً من عموم الناس، حقاً إن الأزمات تظهر معادن الرجال».
الأزمة الأخرى التي تعامل معها سموه بحنكة وروية وصبر، تمثلت في اختطاف الطائرات المدنية أو الإرهاب العابر للحدود، وتفاوضه مع الخاطفين الذين اختاروا أرض الدولة كمحطة للتزود بالوقود، أو لتنفيذ مطالبهم المستحيلة واقعاً وافتراضاً، ويصف سموه هذه الحوادث التي دخل فيها كمفاوض ومحاور للإرهابيين بأنها أسوأ تشويه لقضية عادلة، لأن من يتبناها إرهابيون، كما أن المرء لا يستطيع التفاهم مع مجموعة هذا منطقها، فهم يريدون قتل أبرياء لحل قضية أبرياء آخرين، يريدون تسجيل بطولة في مساعدة المظلومين من خلال ظلم مجموعة أخرى وقتلهم، يستغلون تعاطف المجتمعات مع قضية عادلة، فيجندون الأتباع لإرهاب مجتمعات أخرى لا ذنب لها، ولا ناقة لها ولا جمل.
وعن رحيل الركيزتين الأبرز في بناء دولة الاتحاد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، والمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، يقول سموه: «من أصعب اللحظات أن تستذكر لحظات وداع من تحب، وداع من كان سبباً في وجودك، سبباً في حياتك، سبباً في وجود وطنك الذي تنعم فيه بالخير»، واصفاً الشيخ راشد بوالد دبي الحديثة ومهندسها، والذي بكى في جنازته الآلاف من أبناء دبي والإمارات، وبكى الكثير من أبناء الجاليات التي وفدت إلى دبي وانتمت لها، وانضمت إلى تجربة راشد الإنسانية العظيمة التي صهرت جميع الأجناس والأعراق والأديان تحت مظلة واحدة ومن دون تمييز، فعاشوا فيها مطمئنين على أنفسهم وأموالهم، وبنوا فيها مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.
ويقول سموه: «عندما شاهدت الدموع في عيون العمال البسطاء، أدركت أن تجربة الشيخ راشد لامست قلوب الجميع».
وفي مطلع القصة التي يستعيد فيها لحظة رحيل الشيخ زايد، طيب الله ثراه، يورد سموه قصيدة تقول: «الناس صنفان موتى في حياتهم/ وآخرون ببطن الأرض أحياء».
ليسترسل بعدها في ذكر مناقب الراحل الكبير فهو الذي زاد إلى حياته حياة شعب، وأضاف إلى مسيرته إحياء أمة، ونفع بحكمته وحنكته ملايين البشر، وهذا هو الخلود الحقيقي، كما يراه سموه، مضيفاً أنه تعلم من مدرسة زايد الكثير، وكيف يمكن أن يبقى الإنسان حياً في القلوب والعقول، وكيف يكون عالياً في الحياة وفي الممات، وتعلم منه البحث عن مساحات الاتفاق لا الاختلاف، وعن الأسباب التي توحدنا وتجمعنا وترفعنا، مؤكداً أنه لولا حكمة زايد لما كانت الإمارات هي الإمارات.
وصايا للأجيال
يأخذنا كتاب «قصتي» لمديات واسعة ومحطات متنوعة وتحفل كل قصة من قصصه الخمسين بمرويات شائقة، ومواقف بارزة، وحكايات مكتنزة، تمنحنا الكثير من العبر والدروس حول الاقتصاد والسياسة والرياضة وفنون الإدارة، والحياة العلمية والعسكرية، وكيفية تخطي الصعاب، وتكوين الشخصية القيادية، واستثمار الوقت، وتطوير الموهبة، فمواضيع مثل: «185 عاماً من البحث عن دبي»، و«كهفي الصغير»، و«السباق الأول»، و«مسؤولية تاريخية»، و«ماذا بعد الاستعمار»، و«أعظم حصان»، و«رئيساً للوزراء حاكماً لدبي» وغيرها، إنما هي مواضيع تدلّ وتشير إلى عمق وتفرد هذه التجربة القيادية النابعة من الأرض والمسخّرة لخدمة شعبها والمقيمين فيها والقادمين إليها.
ولعل في الوصايا العشر التي قدمها سموه للجيل الحالي والأجيال القادمة في ختام كتابه «قصتي» ما يشبه المفاتيح الأساسية لحل الأزمات الكبرى التي تعصف بالعالم العربي، وهي الأزمات التي يعود جذرها كما يقول سموه لأزمة «الإدارة» لا أزمة «السياسة»، وأننا بتنا بحاجة اليوم لإداريين أكثر من السياسيين، حتى نستطيع إصلاح جزء من الخلل التنموي في المنطقة.
ويمهد سموه قبل تقديمه للوصايا بعبارة مهمة هي: «أقول إن حياتنا هي رحلة تعلم، رحلة لا تنتهي، وكلما تعلمنا أكثر، عرفنا مقدار ما نجهل، وهو أكبر مما نتصور، ولذلك، فإن التوقف عن التعلّم، هو توقف عن التقدّم في الحياة».
تتصدر الوصايا العشر التي يقدمها سموه لأي مسؤول في مجال الإدارة الحكومية، العناوين التالية: اخدم الناس، لا تعبد الكرسي، ضع خطتك، راقب نفسك، اصنع فريق عملك، ابتكر أو انسحب، تواصل وتفاءل، لا تكن من غير منافس، اصنع قادة، انطلق لبناء الحياة، ثم يشرح مغزى ومطلب كل وصية منها وكيفية ترجمتها على أرض الواقع، مستعيناً بأمثلة وحالات، ومقدماً حلولاً واقتراحات للوصول إلى صيغة مثلى تتحقق بها طموحات كانت مهملة، وأحلام كانت مؤجلة، وأهداف كانت ملتبسة. وأخيراً يمكننا وصف كتاب «وصيتي» لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بأنه يتمتع بخصوصية في الأسلوب والخطاب، ويستمد قدرته التأثيرية على القارئ من خلال قوة الإقناع، ووضوح الهدف، وصوابية الرؤية، والانطلاق من الشخصي إلى العام، وخلق انطباعات تتمتع بالحيوية السردية، والجاذبية الأدبية، وكسر الرتابة فيما يتعلق بسرد الوقائع التاريخية، من خلال الوصف المشوّق، والقراءة الواعية لحيثيات هذه الوقائع ومنطلقاتها، والهدف من إدراجها في الكتاب، إنه عمل ينتمي إلى نوع خاص من أعمال السيرة الذاتية، وهو النوع الذي يطلق عليه اصطلاحاً: «رابح ولا زال رابحاً» لأنه يفتح أفقاً جديداً.. للتفكير بعالم جديد.