الثلاثاء 15 يوليو 2025 أبوظبي الإمارات 44 °C
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جيل دولوز.. وحفريات الـ«ما ـ بين»

جيل دولوز.. وحفريات الـ«ما ـ بين»
24 يناير 2019 02:25

محمد نور الدين أفاية

لسؤال الإبداع حضور بارز في فلسفة جيل دولوز، وقد شكل انشغالاً دائماً في دراساته وكتبه، ليس من زاوية الكتابة عن المجالات الإبداعية من رسم ورواية وسينما، وإنما من منظور أن عمل الفكر وفعل التفلسف ذاتيهما لا يستقيمان من دون ابتكار مفاهيم جديدة، وبلورة أفكار تخرج عن المألوف.
تتجلى قوة الفيلسوف أو الفنان في قدرته على التجديد في التفكير والكتابة الإبداعية، وفي إنتاج الأفكار. وليس الأمر بدهياً على كل حال، ذلك أن بناء تصور جديد يستلزم منهجًا جديدًا في التفكير، سيما وأن الجديد عند دولوز يحمل طابع الاختلاف لخلق التعدد، منهجيًا وأنطولوجيًا، انطلاقاً من تحويل فعل التفكير إلى عملية قبض capture تسمح بالانتقال من «منطق المعنى» إلى «نظرية التعدد». ويرى دولوز أن عملية القبض باعتبارها ربطًا agencement تنطبق على الفلسفة كما على الفن، لأنها لا تتعلق في الفن وفي الرسم بإعادة إنتاج أو ابتكار أشكال، وإنما بالقبض على القوى الكامنة في ثنايا النصوص والخطوط والألوان، ولا سيما على الأفكار الثاوية فيها. لذلك يعتبر دولوز أن السبب الرئيس الذي يدفع الناس إلى الكتابة عن السينما هو أنها تتضمن عددًا هائلاً من الأفكار. وما يسميه أفكارًا هي الصور التي تمنح إمكانية التفكير، وتتنوع طبيعة الصور، التي هي غير منفصلة عن التقنيات، من فن إلى آخر: الألوان والخطوط بالنسبة للرسم، الأصوات في الموسيقا، الوصف اللغوي في الرواية، والصورة/‏ الحركة بالنسبة للسينما. وفي كل حالة لا تنفصل الأفكار عن الصور لأنها محايثة بشكل كامل للصور، فليست هناك أفكار مجردة تحضر بشكل متساو في هذه الصورة أو تلك، لأن الأفكار الملموسة توجد بفضل هذه الصور وبفضل وسائلها، ويأتي إبراز الأفكار السينمائية من خلال القبض على العلاقة الداخلية للصورة/‏ الحركة. لهذا السبب نكتب عن السينما، وبهذا المعنى يكون المؤلفون الكبار في السينما مفكرين، كما هو شأن الرسامين والموسيقيين والروائيين أو الفلاسفة ( فالفلسفة لا امتياز لها).

التفكير والتجديد
لذلك فالتفكير، باعتباره مولدًا للفوارق، وخالقًا للتعدد، وقبضًا على تجليات الأشياء والفن في صيرورتهما، هو إبداع للجديد وتحويل للافتراضي إلى راهن. فالإبداع هو خاصية الفكر عندما يرتفع عن واقعه الأنطولوجي. يحضر في هذا الفهم كل من برغسون ونيتشه في نفس الآن، ولكن بطريقة تجعله ينطلق منهما ليتجاوزهما. فهو من حيث كونه منشغلاً باستبعاد الحمولة اللاهوتية (المسيحية) لـ«الخلق» كما هي حاضرة في الأنطولوجيا الغربية، يستدعي مفهوم الصيرورة، بشكل قصدي، للتبرم من برغسون حين يقدمها بوصفها «انبثاقًا إبداعيًا» أكثر مما هي «تطور إبداعي». فحركة الوجود صيرورة والإبداع هو فعل مختلف للفردنة اعتمادًا على النشاط الحيوي المتمثل في الفكر، منطلقا في ذلك من الإنتاج النيتشوي الذي يفترض أن الحقيقة ليست شيئاً يمكن إيجاده أو العثور عليه، وإنما هي شيء «يتعين إبداعه».
لا يقتصر الإبداع، هنا، على الإشارة إلى الصيرورة وإنما يغدو المقياس الأكسيولوجي الذي يميز نجاعة وقوة الفكر. من هنا مطالبة دولوز الفلسفة بالتفكير في الصيرورة لكي تصير هي ذاتها بفضل إنتاجها للمفاهيم، ذلك أن «الحقيقة هي، فقط، ما يبدعه الفكر. من هنا أهمية الفن في الفلسفة وسر اشتغاله على حقول فنية متنوعة.
يقوم الفن بتحرير الفلسفة من متاهاتها، ويكشف لها عن بعض انفتاحات السؤال والتفكير، كما يوفر لها بعض شروط التخلي عما يسميه دولوز بـ«التمثل»la représentation، والانكباب على«فكر التفكير». قد تبدو هذه الصيغة ملتبسة أو تشير إلى تحصيل حاصل، لكنها تلخص عنده الإبداع الحقيقي، فأن تفكر معناه أن تبدع، ولكن أن تبدع هو أولا أو تُولّد«التفكير» داخل الفكر، باعتبار الإبداع فعل التفكير في الفكر ذاته«الذي ينطلق من العلامات». والإبداع بوصفه إنتاجًا للحقيقة يمر عبر سلسلة عمليات في سياق الاشتغال على مادة ما، ويوفر الفن من خلال مختلف حقوله وأشكاله، هذه المادة للفلسفة. حتى وإن لجأ الفن إلى التجريب فإنه يسمح للفكر الفلسفي بـ«القبض»على القوى الثاوية في علاماته ورموزه، وأن يُبدع. فالفلسفة في نظر دولوز لا هي تأملية (مرهونة لجوهر خالد) ولا تفكرية réflexive (تأتي في مرتبة ثانوية)، ولا هي منتهية الصلاحية (كالقول بموتها) ولا تواصلية (بوصفها منتدى لتبادل الآراء)، بل إن الفلسفة نقد وفعل نشط في نفس الوقت. وليست المفاهيم ناجعة إلا حيثما تكون مبتكرة. وإن كان الفن موضوع تفلسف فإن«المفهوم ينتمي إلى الفلسفة ولا ينتمي إلا إليها». وتحديد الإبداع بالنسبة للفلسفة هو تحديد المفهوم، لكنه إبداع متفرد ونتاج صلابة وتماسك ذاتيين. ومع أنه متفرد فإنه متعدد ومتشظّ. إنه إنتاج واقعي لكنه جمعي (تعدد مُتمفصل)، افتراضي يُبنى على حالة واقعية (كما هو شأن العلم) أو الإدراك (كما في حالة الفن) ولكنه«يستعرض حدثًا»؛ غير أن إبداع المفهوم يتمفصل مع الحدث، ويختلف باختلاف نمط تحيينه، وطريقة جعله راهنًا داخل الفلسفة أو العلم أو الفن. وتختلف هذه الحقول باختلاف موضوعاتها ووسائلها ونتائجها لأن»الموضوع الحقيقي للعلم هو إبداع الوظائف، والموضوع الحقيقي للفن هو إبداع «مركبات حسية»، أما موضوع الفلسفة فهو إبداع المفاهيم». هكذا يشتغل«بساط المحايثة plan d’immanence على شكل المفهوم وينتج مفاهيم أو«شخوصًا مفهومية» ويشتغل بساط تركيب الفن على «قوة الإحساس» وينتج «كتلا إحساسية وأشكالا جمالية»، أما البساط المرجعي للعلم فيشتغل على «وظائف المعرفة»، وينتج «وظائف وملاحظين جزئيين». فلا مجال لتصور اندماج بين هذه الحقول أو إقامة تراتبية ما، وإنما هناك «توزيع دقيق» لا يمنع «التدخلات» ما بين الأنماط الثلاثة لإبداع الفكر. وإذا كانت وظيفة الفلسفة تتمثل في إبداع المفاهيم، فإن ذلك لا يمنحها أي امتياز ما دامت هناك طرق أخرى للتفكير والإبداع وأنماط أخرى للتصور ليست مُجبرة على أن تمر عبر المفاهيم.

قوة التفلسف
يبدو أن دولوز، من منطلق تقديره الكبير للمجالات الثلاثة، يمنح للفن مكانة خاصة في الفلسفة، بل إنه يقيم نوعا من المقارنة بين القدرة على إبداع الفكر وبين تشكيل الأعمال الفنية. وفي هذا السياق يطرح سؤالاً دقيقا ًيتعلق بجِدَّة المفاهيم باعتبار أن الإبداع غالبا ما يتحدد بالسلب، كما ينظر إليه بوصفه اختلافًا وتبرمًا أو قطعًا مع التقليد.
في «ماهي الفلسفة» مع فليكس غواتاري، يعتبر دولوز أننا «لا نتخيل وجود فيلسوف كبير لا يمكننا أن نقول في حقه: إنه غيَّر معنى التفكير و»فكر بطريقة مختلفة«؛ إذ إن قوة تفلسف ما تتجلى في بناء بساط جديد للمحايثة يأتي بمادة جديدة للوجود، ويعرض«صورة جديدة للفكر». ويرى دولوز أن الجديد لا ينطوي على«مناقشة» مع القديم، ولا على سلب للماضي، أو يعبر عن استعادة لمفهوم ما، وإنما يقوم على تأسيس أفق يغير تاريخ الفكر. وهكذا فإن الجديد هو فعل إبداعي ذاتي، كما هو الحال مع فلاسفة كبار من طراز برغسون على سبيل المثال. فهو فيلسوف كبير لأنه«أبدع مفاهيم جديدة» واقترح إحدى أكبر المساهمات في فلسفة الاختلاف، غير أنه إذا سلمنا بأن الاختلاف هو ما يسوغ القول بالجديد، أو اعتبرنا أن الاختلاف هو الجديد ذاته كيف يمكن تحديد بروز الجديد، بشكل عام؟
ينظر دولوز إلى سؤال الجديد من زاوية اعتباره مقولة منطقية تستدعي علاقة ما للفكر بالزمان؛ والتفكير في الجديد في تصوره، يتطلب قلبًا حازمًا عامًّا للنظر إلى الوجود والهوية والاختلاف والصيرورة والوحدة والتعدد. لا تتقدم الهوية كمبدأ أول، وإنما كمبدأ ثان، أو كمبدأ صار مبدئًا، وتستمد إمكانية وجود مفهومها الخاص حينما تدور حول ما هو مختلف، بدل الاحتفاظ بها تحت رحمة مفهوم عام يعرض بوصفه مطابقًا. فالجديد محمول منطقي قبل أن يكون زمانيًا، يقطع مع مقولات الهوية والشبيه، كما يتحدد الجديد، كما هو حال الإبداع، بما يحمله من قدرة على إنتاج الحدث. ولذلك لا يجب فهم الجديد كأنه في تعارض مع القديم لأنه، في نظر دولوز، لا يحتاج إلى سند من ماضي قد ينفيه». وبمعنى آخر أن الجديد لا يتعارض مع القديم، كما هو شأن المستقبل مع الماضي، ولكنه يختلف مع التطابق والشبيه على المستوى المنطقي، ومع العادي والمنتظم على المستوى الأنطولوجي. هناك جديد كلما حصل حدث، وحيثما صار الافتراضي راهنًا، كما أن الجديد يعبر عن وجهة نظر حول الاختلاف، ويؤشر على الطريقة التي بها يفتح الفكر أفقًا على الصيرورة، حيث تتموضع الذات في سياق خلق مفاهيم الفلسفة، والأعمال الإبداعية في الفن، والوظائف في العلم. ويصبح الجديد حالة إبداعية تعبر عن موقف ذاتي يتعزز فيه«فكر الفكر»، أي التفكير في عملية القبض على الصيرورة.

الصيرورة والتاريخ
غير أنه لا يجب الخلط بين الصيرورة والتاريخ، وليس الجديد نتاج تعاقب للتاريخ (الكرونوس- chronos)، إنما هو إبداع يتم انتزاعه من الشروط السابقة، وتجسيد لفكر نشط يخلق الحدث وليس صفة لما يحدث. سيكون من العبث القول إن الجديد يحصل خارج التاريخ، لكن الصيرورة وحدها تنتج الجديد من خلال ما ينعته دولوز بفعل«المقاومة». إن ما يلتقطه التاريخ من الحدث هو تفعيله في واقع حال الأشياء أو في المعيش، غير أن الحدث، في صيرورته وفي تماسكه الخاص وفي تموقعه الذاتي، باعتباره مفهومًا ينفلت للتاريخ، يفيد بأن تفكر معناه أن تجرب، لكن التجريب الذي يُحدث الجديد دائما، ويُحدث ما يلفت النظر، وما هو مفيد». لا يتمايز الجديد عن القديم ولا عن المستقبل، وإنما عمَّا يختلف مع المألوف ويستبعد النظرة الخطية التعاقبية للتاريخ. وليس الجديد، على الصعيد الإنساني بالنسبة لدولوز، ما نحن عليه، بل ما نحن بصدد أن نصير.
ولذلك ليس الإبداع، باعتباره جديدًا، قضية هينة عند دولوز، فالتفكير فيه، أنطولوجيًا ومنطقيًا، يعني طرح إحدى المشكلات الكبرى في الفلسفة؛ إذ الأمر لا يتعلق بالتفكير كفعل في ذاته، وإنما «بخلق التعدد» في سياق صيرورة. والظاهر أن دولوز في بحثه الدائم عن القطع مع الإرث الأفلاطوني، وجد في هرقليطس وعند نيتشه ومالارمي إمكانية القول بأن الصيرورة تشكل نسيج الحياة ذاتها، وليست شيئا خارج الوجود. هي ليست صيرورة أخرى، وإنما صيرورة بين- بين؛ فلا يتعلق الأمر فيها بالانتقال من هوية إلى أخرى وإنما بالوجود في الصيرورة. أن تصير ليس أبدا أن تقلد، أو أن تفعل كما لو، أو تنضبط لنموذج، وكلما صار أحد ما أو ما يصير عليه، يتغير بقدر ما يتغير. فليست الصيرورات ظواهر محاكاة، أو هضمًا، وإنما قبضًا مزدوجًا. لذلك فإن الصيرورات حركة إثباتية وإبداعية، ولها صفات، منها أنها فعل وليست مجرد اسم أو وصف لحالة. إنها مصدر أو أفعال مصدرية وخطوط صيرورة تفعل في بنيات متنوعة. ثم إنها تتقدم بوصفها كتلة داخل جغرافيا تتعرض للصدع أو للتشقق، كما أنها بساطات plans وطيَّات plis. إنها تنطوي على مفهوم طوبولوجي يتمثل في المنتصف milieu، لذلك فهي توجد في الما- بين، في «حدود أو خط انفلات». ومن صفات الصيرورة، أيضا، أنها توجد من أجل «القسط الافتراضي» فينا لأن الكائن يصير من خلال واحدة أو مجموعة نقط وليس بواسطة كلية ما. فضلا عن أن الصيرورة، في تصور دولوز، هي «قبض وغنيمة، امتلاك وقيمة مضافة، وليست أبدًا إعادة إنتاج أو محاكاة».
يتبين أن الصيرورات شرط الوجود، وهي صيرورات مغايرة دومًا، واختلاف مفتوح على الافتراضي والتعدد الكثيف؛ لهذا السبب، ولأسباب أخرى، يشكل الاختلاف مفهومًا مركزيًا في فلسفة دولوز.
لقد عمل منذ البحث الأول عن مفهوم الاختلاف عند برغسون، خصوصاً في كتابه «الاختلاف والتكرار»، على تأسيس نوع من أنطولوجيا الاختلاف تعاند وتقاوم الارتهان لأي جوهر. من هنا تأتي الأهمية الخاصة الذي يمنحها للتفكير في الحدث، في المعنى، وفي علاقة الافتراضي والراهن.

في الأدب
خصص جيل دولوز للأدب كتب «بروست والعلامات» (1970) «تقديم ساخر- مازوخ» (1961) «كافكا» (1964) و«المُنهك» عن بيكيت (1992)، و«النقد والعيادة» (1993) وخصص للرسم كتاباً بعنوان: «فرنسيس بيكون: منطق الإحساس» (2002) وحضوراً كبيراً في كل كتبه، وللسينما مصنفان اثنان «الصورة - الحركة» (1983) و«الصورة – الزمان» (1985). وينطلق اهتمامه الكبير بالفنون من قاعدة مفادها أن على الفلسفة أن تتعلم من الأنماط المختلفة للممارسات الفنية لكي تتحرر من الصورة المجردة للفكر، وتصل إلى مستوى جعل الفكر إبداعاً ملموساً. فالفلسفة «بكل منهجها وحسن إرادتها لا تمثل شيئاً أمام الضغوط السرية للعمل الفني».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©
نحن نستخدم "ملفات تعريف الارتباط" لنمنحك افضل تجربة مستخدم ممكنة. "انقر هنا" لمعرفة المزيد حول كيفية استخدامها
قبول رفض